حدثان أساسيان احتضنتهما تونس هذا الأسبوع في خضم أحداث ولقاءات تزدحم بها البلاد منذ سقوط الحواجز وزوال القيود على مختلف الفعاليات والتظاهرات والندوات الفكرية والسياسية التي لم يكن لها أن ترى النور بعيدا عن مظلة الحزب الحاكم وتوجيهاته, أما الحدث الأول فقد ارتبط بالندوة الدولية التي نظمها مركز الديموقراطية والتنمية وسيادة القانون جامعة ستاندفورد على مدى يومين تحت شعار "نحو ديموقراطية فعالة في تونس ومصر وليبيا "وأما الثاني فيتعلق ب "الانتقال الديموقراطي في العالم العربي تونس كنموذج " والذي نظمه مركز الإسلام والديموقراطية وكلاهما يتمتع بامكانيات ومصادر تمويل ودعم لا يستهان به... وبعيدا عن المفاضلة بين المشاركين في الحدثين بين شخصيات وطنية من سياسيين وقادة أحزاب ومفكرين أو بين ضيوف أجانب من ديبلوماسيين وسفراء وباحثيين جاؤوا من مختلف دول العالم وأدلوا بلدوهم في المسائل المطروحة للنقاش فقد أثار حضور زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي في افتتاح أشغال الندوتين يومي الخميس والجمعة الماضيين من خلال مداخلتين أثارتا الكثير من الاهتمام والمتابعة ولكن أيضا الكثير من الجدل .واذا كان الواضح أن المحاضرة الثانية لرئيس أكبر حزب في البلاد لم تختلف كثيرا عن الأولى وجاءت لتؤكد ما كان السيد راشد الغنوشي تعرض له في الأولى مع بعض الإضافات المتعلقة بجملة من المسائل التي لا تخلو من الحساسية والتي من شأنها أن تساعد على دفع وإنجاح المسار الانتقالي في البلاد أو أن تدفع بالعكس من ذلك على عرقلته وربما افشاله. سوف لن نتوقف في هذه الورقة عند ما تضمنته مداخلة رئيس حركة النهضة والحوار غير المباشر يينه وبين زعيم حركة نداء تونس السيد الباجي قائد السبسي وما وصفه البعض من حرب باردة بين الرجلين , ولكننا ما سنتوقف عنده إصرار رئيس حركة النهضة على تبليغ جملة من رسائل الموجهة الى الحركات السلفية المتشددة ولكن أيضا مع جملة من رسائل الطمأنة الموجهة أولا الى شريحة واسعة من الرأي العام التونسي الممزق نتيجة عديد المخاوف إزاء مواقف الحزب المهيمن على الساحة السياسية المتعلقة بواقع الحريات وحقوق المرأة ومستقبل الدستور ومجلة الأحوال الشخصية وخاصة النمط الاجتماعي ومنها أيضا ثانيا الموجهة الى الخارج وتحديدا الى وسائل الاعلام والى الحكومات الغربية .ومن بين تلك التصريحات التي أطلقها "ان الصراع بين العلمانيين والإسلاميين سياسي و ليس أيديولوجيا "وأن النهضة لا تسعى لاقامة دولة إسلامية ولا تريد فرض نموذج معين على الشعب التونسي "أو كذلك أن النهضة وبعد فوزها في الانتخابات لم تدخل رافعة راية تشكيل دولة إسلامية وتطبيق الشرعية بل من منطلق الحرية كمقصد من مقاصد الشريعة "مرورا الى أن "وصول العلمانيين لا يعني أنهم سيستحوذون على الدولة "...والواقع أن تصريحات السيد الغنوشي التي نسجلها بكل أمانة شدد على أن الحرية ليست شعارا بل ممارسة وأن الإسلاميين لم يمنعوا السياحة في الشواطئ ولم يفرضوا على المرأة أي لباس "وصولا الى مخاطبته الغرب مباشرة بقوله "أنه لا وجود لاي مبرر للخوف من وصول الإسلاميين الى السلطة خاصة لدى الغرب الذي احتضن الإسلاميين ورفض تسليمنا الى الدكتاتورية "لينتهي الى النموذج التونسي الذي ينتظره في تونس وهو "دولة تحمي الحق وتحافظ على حقوق المرأة "وهو بالتأكيد هدف قد لا يختلف بشأنه اثنان من حيث المبدأ باستثناء من يروج لاقامة دولة الخلافة... أكثر من سبب من شأنه أن يدفع مجددا للتوقف عند المواقف التي كانت وستبقى محل جدل مثير في مختلف الأوساط الاجتماعية والسياسية في البلاد وذلك منذ انتخابات 23 أكتوبر وما فرضته من تحولات لا يستهان بها في البلاد مع تعدد الأحزاب والحركات المتشددة ودخول الصراع بين الإسلاميين والعلمانيين منعرجا خطيرا بعد جريمة اغتيال الشهيد شكري بلعيد , ولعل في حرص السيد الغنوشي هذه المرة على وضع بعض النقاط على الحروف وتأكيده أن "الإسلاميين وحركة النهضة ليسوا دعاة اقصاء لاي طرف "ما يعكس أنه ربما بدأ يستشعر وجود أزمة ثقة في خطاب حركة النهضة على المستويين في الداخل والخارج وأن هناك فعلا مخاوف قائمة وهي مخاوف مشروعة وسيكون من الغباء تجاهلها او التقليل من حجمها . وربما يكون السيد الغنوشي اختار التوجه بجزء من خطابه للغرب هذه المرة عبر عديد وسائل الاعلام التي تابعت اشغال الندوتين وحرصت على متابعة زعيم الحركة لا في مداخلته فحسب ولكن في تنقلاته بين الحضور ووقوفه لمطالب الكثيرين لالتقاط الصور التذكارية معه وهو ما لم يرفضه بدوره ...وربما يكون الرجل الأول في حركة النهضة اختار أن يرد على طريقته على رئيس حركة نداء تونس السيد الباجي قائد السبسي الذي تحدث مطولا في الندوة التي جمعته "بغريمه السياسي " عن علاقات تونس الخارجية وعن أهمية وموقع الديبلوماسية في تحديد صورة البلاد وعن الغرب وهو الشريك الاقتصادي الأول لتونس فكانت رسالته الى الحضور في مرحلة تعيش فيها البلاد على وقع أزمة سياسية واقتصادية حادة وفي ظل عديد الشكوك بشأن الدستور الذي يتطلع اليه التونسيون بعد الثورة وموعد الانتخابات والتوافق السياسي المطلوب .المهم أن في مداخلتي زعيم حركة النهضة الكثير من الكلام الجميل والتصريحات البعيدة عن كل أنواع التشنج برغم انتقاداته كالعادة للاعلام الذي يحمله مسؤولية التعتيم عن إنجازات الحكومة الأولى والثانية للنهضة بما يمكن أن يدفع أحيانا للتساؤل عما اذا كان الامر يتعلق بالمشهد الراهن في تونس وبكل التعقيدات والصراعات التي نعيش على وقعها . كلمات فعلا كم نتمنى أن تؤسس لواقع جديد في تونس يكرس ثقافة المواطنة ويؤسس لمرحلة جديدة من العدالة والديموقراطية وفق تلك الشعارات او الأهداف التي أجمع حولها التونسيون خلال الثورة لولا أن زعيم حركة النهضة جاء متزامنا مع عديد التحديات التي تؤكد أن ملاحقة النحبة من اعلاميين ورجال الفكر والابداع ما زالت مستمرة وأن استقلالية القضاء والاعلام لا تزال محل صراع بين الأحزاب الحاكمة وان الكثير من النقاط في الدستور لا تزال غامضة وان أغلب ان لم يكن جل التحقيقات التي فتحت في مختلف التجاوزات التي حصلت واخرها جريمة اغتيال شكري بلعيد لا تزال عالقة وأن التونسي اليوم بات منشغلا بشان امنه وأطفاله في رياض الأطفال وامن ابنائه في المدارس والجامعات وان العنف لا يزال شعار عديد "الايمة" في المنابر وأن المظاهر المغريبة عن مجتمعنا وظاهرة الزواج العرفي وتعدد الزوجات والجهاد في سوريا والعراق ومالي لم تعد بعيدة عنا , وأن تعديدات أبو عياض لا يزال صداها يتردد في الاذان. وهو ما يعني أننا سنكون في حاجة لاكثر من الخطب الكلامية لزعيم حركة النهضة ومؤسسها لتزول الشكوك والمخاوف التي راودت ولا تزال تراود التونسي عندما تابع تصريحات الشيخ في الفيدو المسرب عن السلفيين وتصريحاته عن لجان حماية الثورة التي اعتبرها ضمير الثورة وغيرها من التصريحات في مظاهرة مساندة الشرعية وغيرها أيضا من التصريحات التي قد يصر على أنها أخرجت من سياقها ولكن كان لها وقعها في النفوس ...