-كان بورقيبة أيّام الكفاح الوطني حريصا على أن لا يُورّط نفسه في صراع مباشرومواجهة صريحة مع الزّيتونيين، وأن لا يضعها موضع الشبهة والشك ضد عقيدة الشعب، وقد ساعده على ذلك، طبعه الميّال إلى المراوغة وقدرته الخطابيّة على أخذ النّاس بالجدّ وحملهم على ما يريد، وبهذه الخلفيّة مع هذه القدرات نسج لشخصه علاقات مختلفة الألوان مع كل الأطراف، ممزوجة بالصدق والإخلاص تارة وبالخبث والدهاء تارة أخرى، فكان له ودّ مع مشايخ الزّيتونة، وتقارب مع دعاة الإصلاح وتحريرالمرأة، ومداراة مع المحافظين، وتعاون مع الفرنسيّين، ومصالح مع الباي وحاشيته... ولمّا كان الحسّ الدّيني هو المحرّك الأساسي في معركة التحريرفي تونس كما هوالشأن في باقي بلدان المغرب العربي، فقد استغلّ بورقيبة هذا المعطى ليكسب حظوة عند عامّة النّاس، ويلهب مشاعرهم، ويأخذ ألبابهم، في خطّة أتقن رسمها وحسابها بعد أن دخل مع إدارة الحماية في مرحلة التأهيل لتسليم السلطة واختيارالأمين لرعاية مصالح فرنسا بعد رحيلها... هذه الحقبة من تاريخ تونس، لم تأخذ حظّها من الدرس والتوثيق بقدرما لقيت من الطمس والتحريف والإهمال، الأمرالذي جعل مؤرّخي الحزب الاشتراكي الدّستوري يعمدون إلى إلغاء دورمختلف القوى الوطنيّة في معركة التحرير، ويُلحمون كفاح الشعب التونسي من أجل الاستقلال والكرامة باسم بورقيبة ولا شيء غيربورقيبة، ويُغفلون فترة هامّة من تاريخ البلاد، شهدت عملا نضاليّا، وحركيّة فكريّة وسياسيّة، أجبرت المستعمرعلى مراجعة حساباته في تعامله مع الشعب ومقوّمات ذاته الحضاريّة، فجعلوا سنة 1934 تاريخ انبعاث الحزب الدّستوري الجديد، سنة انطلاق الحركة الوطنيّة وبداية تاريخ تونس الحديث، وألغوا ما قبل ذلك... هذا التحريف وهذا التزييف الذي شهده تاريخ تونس المعاصرعلى أيدي محترفي السّياسة وصنّاع الدّجل،لا بدّ من تضافرجهود أصحاب الاختصاص ذوي الهمم العالية والعقول الرّاجحة بالصدق والحق على إزالته، وذلك بإعادة كتابة تاريخ الحركة الوطنيّة ومراجعته بما يوافق الحقيقة والعلم والمنطق... لقد كان لبورقيبة جانب هام من خطته اعتمد فيه على الأسلوب النفساني وتأثيرشخصيّته على مستمعيه، حيث كان يبكي عندما يقرّرأن يبكي تأثرا واستعطافا، و يتكلم بالإيحاء والإيماء حين تعجزالكلمات عن التعبير، ويحرّك سواكن النّفس البشرية بنبراته الصوتيّة ونظراته الدقيقة اللامعة، وكأنّي به انتهج أسلوب الخطابة عند هتلروموسليني، ليصوغ منه ومن قدراته الذاتية شخصية قوية عظيمة ومؤثرة، وقد ساعدته هذه الميزات على تقمّص مختلف الأدوارفوق ركح الحياة الوطنيّة، وجلب بها لنفسه تأييد السواد الأعظم من الشّعب وحب الجماهير، وأعطته سلطة الأب المستبد... ولم يبرزهذا الجانب النفساني من خطته إلا بعد أن اعتلى السلطة ومسك مقاليد الحكم، وظهربحقيقته المخالفة لخطابه السياسي والتعبوي أيّام الاستعمار، أيّام قاوم مع النّاس حركة التجنيس على أساس ديني، ونادى باحترام المؤسّسة الزيتونية، ورفض نزع الشّاشية واستبدالها بالطرابيش الأوروبيّة، ووعد مشايخ الزيتونة بتمكين الدّين الإسلامي من مكانته المقدّسة والفاعلة في ظلّ الدّولة التونسية المستقلة... هذا ما كان عليه بورقيبة مع عامّة النّاس وخاصّتهم في الوقت الذي كان يهيّئ فيه نفسه كبديل عن الباي وحكومته، ويخطط لترغيب الإدارة الفرنسيّة في شخصه، ومسك عضده يوم يمسك هو بالسلطة، فقد جاء في كتابه الذي ضمّنه رسائله التي بعث بها إلى ابنه وبقيّة أفراد عائلته وإلى رفاقه في الحزب، وملخص خطبه للجماهير، وما كتبه للمقيم العام الفرنسي وإلى عدد من المسؤولين والمعمّرين، وفلسفته الخاصة في نجاعة سياسة المراحل، والذي عنونه "بين تونسوفرنسا: كفاح مريرطيلة ربع قرن في سبيل التعاون الحر"، ما يمكن أن نلخّص معناه في ما قاله عن مستقبل تونس حين تساءل عمّن ستؤول إليه الأموربعد فرنسا: « إلى أولئك المشايخ أصحاب العباءات الذين عميت أبصارهم عن الحضارة الغربية والثقافة الفرنسية، وختمت عقولهم وقلوبهم بالإسلام واللغة العربية، بعد أن امتلأت مشاعرهم بغضا وكراهيّة ونفورا من فرنسا والعالم المتقدّم، أم إلى أولئك المتنوّرين بالحضارة الغربية الحاملين للغة الفرنسيّة الذين تشبّعوا بمبادئ الغرب وارتووا من مناهله العلميّة والسياسيّة والثّقافية»... وفي إحدى رسائله يقول لأحد المسؤولين الفرنسيين ما معناه: أن لو تمكنه فرنسا من الشّعب التونسي لقلب الكره الذي يكنّه إليها عامة الناس والنفورالبغيض منها إلى حبّ وهيام، ولجعل الشعب طيّعا في انسجام مع مبادئها ومصالحها... وفي كتاب مفتوح إلى نائب بالبرلمان الفرنسي نُشرفي جريدة "العمل التونسي" بتاريخ 15 ماي 1933 كتب بورقيبة متحدّثا عن نفسه: "اسمحوا لرجل تغلغلت فيه الثقافة الفرنسية لم يزل محافظا بالرغم من كل شيء على ثقة غريزية في الشعب الفرنسي، أن يرحّب بمقدمكم لهذه البلاد"... كما أورد المؤرخ شارل أندريه جوليان في كتابه "إفريقيا الشّمالية تسير" كلاما للحبيب بورقيبة يقول فيه «إن الوحدة التي لا تنفصم بين تونسوفرنسا تمثل القاعدة الأساسية لمطالب الحزب الدستوري الجديد»... تلك صورة مبسّطة عن الجانب النفساني والتكتيكي لخطة بورقيبة للوصول إلى الحكم، ولمّا آل إليه الأمرواستقرّت في يده السّلطة، أتى ما استنكره منه الذين صفقوا له بالأمس وحاباهم ونال ودّهم، فدخل ضدّهم في قطيعة تامّة، وعاملهم بالتهميش وألا مبالاة، فأغلق جامع الزيتونة دون التعليم، وألغى احباس ونظام الأوقاف، وأمضى مجلة الأحوال الشخصيّة التي منعت تعدّد الزوجات وقنّنت علاقة المرأة بزوجها والأسرة والمجتمع، ودعا إلى السّفورونزع الحجاب والخمار في مرحلة أولى، وإلى الاختلاط وتطبيقه في المدارس والمعاهد في مرحلة ثانية، وحاول فاشلا إرغام بعض العلماء على إصدارفتوى لإفطاررمضان، وهو يردّد "أفطروا تصحّوا" كاستفزاز للحديث النبوي الشريف (صوموا تصحّوا) وأمرباعتماد الحساب الفلكي لإثبات دخول شهر رمضان واليوم الأول من شوّال بدل الرؤيا المأموربها شرعا... لمّا كان حال الزواتنة ليس بأحسن ممّا كان عليه حال الأزهريين في مصر، ولمّا كان التعليم الزيتوني بفروعه قبل إلغائه لا يعدوأن يكون إلا تعليما نقليّا تقليديّا، ليس فيه حركة علميّة تسايرالعصروتتماشى مع تقدّم العلوم الحديثة والتحوّلات الحضارية التي تشهدها البلاد وسائر بلاد العالم، الأمرالذي شجّع الكثيرين على تأييد بورقيبة عند إلغائه، بعد أن عُوّض بالتعليم في المدرسة الصادقية ثم الكلية الزيتونية، لمّا كان ذلك حالهم، ركنوا إلى السلامة الشخصية وفضّلوا الانسحاب وتقوقعوا على أنفسهم وابتعدوا عن السياسة والسياسيين، وتركوا بورقيبة يحكم مستبدا برأيه وبلا رقيب، ولم يجرؤوا في العلن على معارضته ومعارضة برامجه التغريبية، واستسلموا لأمرالواقع، وأصبحوا موظفين دينيّين في نظام يتدرّج بالبلاد شيئا فشيئا نحو التغريب والعلمانية، فمنهم من انتدب لتدريس مادة التربية في المعاهد، ومنهم من تقلد خطة في القضاء، وآخرون بحثوا عن أرزاقهم في عمل عدول الإشهاد لعقود القران وغيرها، وغيرهم اكتفى بالإمامة في مسجد جامع لمّا كان له مصدررزق من تجارة أو فلاحة... أما اهتماماتهم العلميّة ومواضيع الدروس التي كان يلقيها بعضهم من حين إلى آخرفي حلقة عامّة في مسجد، فقد سلكوا فيها مسلك القدامى الذين فصلوا العبادات عن المعاملات، وأبوا الخوض في السياسة الشرعيّة وفقه الأحكام السلطانيّة، خوفا من بطش الحكام والملوك والسلاطين الذين استبدّوا بالسلطة وحادوا عن الشورى إلى حكم قيصري واستعلاء كسروي، فنشط علماء عصورالاستبداد السياسي في مجال فقه العبادات ليملؤوا الفراغ في المجالات الأخرى، فاجتهدوا في أصوله وفروعه، وأطنبوا في التفاسير والشروح، وصنفوا المصنفات والمجلدات، وكوّنوا مكتبة ضخمة تتحدّث عن الطهارة والوضوء والتيمّم، وتشرح كيفية الصّلاة في مختلف المناسبات، وتناولوا بالدرس والتمحيص والتفقه والاستنباط كلّ المسائل الصغيرة والكبيرة المتعلقة بالإيمان والتوحيد، ومختلف الشعائرالتعبّديّة من صلاة وصيام وحج وزكاة، وأهملوا ما عدى ذلك من فقه أحكام السياسة الشرعيّة وعلاقة الحاكم بالرعيّة، وكانوا يرون في اختيارهم هذا، سبيل الأمان والسّلامة من سطوالحكام وبطشهم، بل كان بعضهم يضفي ثوب القداسة على طاعة الحاكم، ويتسترله عن انحرافاته وسوآته، ويمدّ له في أنفاسه بالدعاء والثناء، والشكرعلى العطايا والهبات... فتعفّن حال الأمة وأصابها الوهن والعجز والكسل، ومازالت تتخبّط في عقابيل سوآتها حتى حلت بها النوائب، وقعدت وتهيّأت للاستعمار... هكذا كانت حلقات الدرس في المساجد، جامدة تجترّ ما ورثه هؤلاء المشايخ عن عصورالانحطاط من كتب الفقه الصّفراء، ومواضيع عسيرة ثقيلة عن الحيض والنفاس، والغسل والتيمّم، والوضوء والصّلاة، يلقيها شيخ زيتوني ومن حوله جمع من المسنّين قلّ ما تجد بينهم شابا واحدا حضربقصد المعرفة والتفقه... فكانوا في مأمن من بورقيبة وبطشه، وكان بورقيبة في مأمن من معارضتهم ومضايقتهم إيّاه، على ما كان يكنّه الكثيرون منهم من معارضة له بالقلب دون اللسان، عملا بأضعف الإيمان، وكانوا في سرّهم ونجواهم يكفّرونه ويعتبرونه مارقا عن الدّين... في هذا الواقع الذي اتّسم في عهد بورقيبة بالغياب التدريجي لمظاهرالإسلام والتديّن في البلاد، وبجمود العلماء وعجزهم، ولهوعامّة النّاس وغفلتهم، بات من الحتميّات التاريخيّة وسنن الله في خلقه، أن يظهرردّ الفعل هنا أوهناك، بهذا الزي أو بذاك، لردّ الاعتبارإلى عقيدة الشّعب وهويته العربيّة الإسلاميّة، بعد أن تمّت محاصرة الإسلام من مواقع فعاليّاته الحضاريّة والسياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، واختصرأمره في صورة من صور التراث وصفحة من صفحات التاريخ... وفي هذا المناخ الذي كيّفه بورقيبة بلائكيته ودهائه السياسي من جهة، وعجزالعلماء وجهل الشعب من جهة أخرى، نشأ التيّارالإسلامي الجديد في سكون عند بعض الزيتونيّين، ثمّ في حركة بطيئة عند الشباب، ثم لمّا تهيأت الظروف الاجتماعيّة والسياسيّة ونضجت التربة الصالحة لبذورالإسلام السياسي والشمولي، تولّد عن هذا التيارتنظيم الحركة الإسلاميّة في تونس بتلقيح فكري وتنظيمي من لدن حركة الإخوان المسلمين في مصرالتي بُني عليها التنظيم الدّولي للإخوان، فتأطرت المعارضة الإسلاميّة في كنفه، وجهرت بعدائها لسياسة بورقيبة ونظامه، ونشدت التغيير، ثمّ نمت مقولاتها من الشّعارات والضّمنيات إلى التخطيط والتنفيذ والعمل السياسي الطموح. ناشط سياسي مستقل