تؤكد مقولتنا هنا أن الانسان كائن ثقافي بالطبع. يستند هذا القول على ملاحظات رئيسية حول خمسة معالم ينفرد بها الجنس البشري عن غيره من الاجناس الحية الاخرى: 1- يتصف النمو الجسمي لافراد الجنس البشري ببطء شديد مقارنة بسرعة النمو الجسدي الذي نجده عند بقية الكائنات. 2- يتمتع أفراد الجنس البشري عموما بأمد حياة (سن) أطول من عمر معظم أفراد الاجناس الاخرى. 3- ينفرد الجنس البشري بلعب دور السيادة/ الخلافة في هذا العالم بدون منافسة حقيقية له من طرف باقي الاجناس الاخرى. 4- يتميّز الجنس البشري بطريقة فاصلة وحاسمة عن الاجناس الاخرى بمنظومة ما نسميه الرموز الثقافية: اللغة، الفكر، الدين، المعرفة/ العلم، القوانين، الاساطير، القيم والمعايير الثقافية... 5- يختص أفراد الجنس البشري بهوية مزدوجة تتكوّن من الجانب الجسدي، من ناحية، والجانب الرموزي الثقافي (المشار إليه أعلاه في 4)، من ناحية ثانية. إن التساؤل المشروع الان هو: هل من علاقة بين تلك المعالم الخمسة التي يتميّز بها الانسان؟ أولا: هناك علاقة مباشرة بين المعلمين 1 و2. إذ أن النمو الجسمي البطيء عند أفراد الجنس البشري يؤدي بالضرورة إلى حاجتهم إلى معدل سن أطول يمكنهم من تحقيق مراحل النمو والنضج المختلفة والمتعددة المستويات. فالعلاقة بين الاثنين هي إذن علاقة سببية. ثانيا: أما الهوية المزدوجة التي يتصف بها الانسان فإنها أيضا ذات علاقة مباشرة بالعنصر الجسدي (المعلم 1) للانسان، من جهة، والعنصر الرموزي الثقافي (المعلم 4)، من جهة أخرى. ثالثا: عند البحث عن علاقة سيادة الجنس البشري بالمعالم الاربعة الاخرى، فإن المعلمين 1 و2 لا يؤهلانه، على مستوى القوة المادية، لكسب رهان السيادة على بقية الاجناس الحية، إذ الانسان أضعف جسديا من العديد من الكائنات الاخرى. ومن ثم يمكن الاستنتاج بأن سيادة الجنس البشري ذات علاقة قوية ومباشرة بالمعلمين 3 و4: الهوية المزدوجة والرموز الثقافية. والعنصر المشترك بين هذين المعلمين هو منظومة الرموز الثقافية. وهكذا يتجلى الدور المركزي والحاسم لمنظومة الرموز الثقافية في تمكين الانسان وحده من السيادة في هذا العالم. را بعا: إن الرموز الثقا فية تسمح أيضا بتفسير المعلمين 1 و2. فالنمو الجسمي البطيء عند الانسان يمكن إرجاعه إلى كون أن عملية النمو عنده تشمل جبهتين: الجبهة الجسمية والجبهة الرموزية الثقافية. وهذا خلافا للنمو الجسدي السريع عند الكائنات الاخرى بسبب فقدانها لمنظومة الرموز الثقافية بمعناها البشري الواسع والثري. ومما يعزز مقولتنا المنادية بقوة بأن الانسان كائن ثقافي بالطبع هو ما نجده في فكر التراث النقلي الاسلامي وبالتحديد في القرآن الكريم. فمنهجيتنا في هذا الطرح الفكري هي منهجية العقل المسلم العالم الذي يجمع بين العقل والنقل. فهل هناك آيات في القرآن تؤكد على مركزية الرموز الثقافية في هوية الكائن البشري؟ جاءت إعادة آية "فاذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين #0236 "مرتين في القرآن الكريم (الحجر29 وص 72). فالخطاب في هاتين الايتين موجه من الله الى الملائكة لكي يسجدوا لادم تكريما له عن غيره من المخلوقات الاخرى. ومن ثم تاتي مشروعية معرفة معنى كلمة روحي. ذهب معظم المفسرين إلى القول بأن كلمة روحي تعني بث الحياة في آدم. وهو معنى لا ينسجم في نظرنا مع سياق الاية. إذ لو كان معنى كلمة روحي مجرد بث الحياة في آدم لما كان الانسان متميزا عن المخلوقات الاخرى حتى يدعو الله الملائكة للسجود لادم وحده. ومن هنا، فمعنى كلمة روحي في آية "ونفخت فيه من روحي.. "لا بد أن يعني شيئا آخر يتميز به الانسان عن سواه يؤهله وحده لكي تسجد له الملائكة من جهة وتعطى له وحدها لخلافة/ السيادة في العالم من جهة ثانية. (واذ قال ربك للملائكة اني جاعل في الارض خليفة #0236 (البقرة 30) (إنا عرضنا الامانة على السموات والارض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الانسان#0236 (الاحزاب 72). وتبعا لتحليلنا العقلي والميداني السابق الذكر فإن منظومة الرموز الثقافية هي السمات المميزة للجنس البشري وهي بالتالي مصدر سيادته وخلافته في هذا العالم. ومن ثم، فعبارة 'نفخت فيه من روحي' ينبغي أن تعني في المقام الاول نفخة إلهية من الرموز الثقافية في آدم/ الانسان وهكذا فصياغتنا الجديدة لهوية الانسان من وجهتي نظر كل من العقل والنقل تلخصها المعادلة الرياضية التالية: الانسان = جسد+ رموز ثقاقية. وبتعبير صاحب المقدمة، فهذا الطرح الجديد لحقيقة طبيعة هوية الكائن البشري هو طرح "مستحدث الصنعة غريب النزعة". وكل شيء جديد فإنه سوف لن يلقى الترحيب من الجميع. ألم يقابل كتاب الطاهر "إمرأتنا في الشريعة والمجتمع" بالنقد اللاذع عنون فيه البعض ردهم بكتاب" الحداد على إمرأة الحداد"؟ ومن جهتنا، فنحن نرى أن رؤيتنا الجديدة لطبيعة هوية الانسان رؤية ذات مصداقية عالية. إذ يساندها بقوة كل من التحليل العقلي والتأويل النقلي. ونحن نتفق في هذا الصدد مع المفكر الاسلامي زغلول النجار الذي ينادي بأن العديد من آيات القرآن الكريم حول الظواهر الطبيعية في العالم والكون لا يمكن فهمها الفهم الصحيح بدون المعارف العلمية الحديثة الموثوق بها. وينطبق هذا أيضا على ما جاء في الايات القرآنية حول الانسان والمجتمعات البشرية. أي أن الرصيد المعرفي ذا المصداقية العالية من علوم الانسان والمجتمع الحديثة يساعد مفسري القرآن الكريم على القرب من كسب رهان الفهم والتفسير الصحيحين لمعاني تلك الايات التي تتحدث عن الانسان والمجتمع.