بقلم: عبد الحق الزموري - 1 - تعرّض أحد الكُتّاب العرب الكبار (د. فهمي هويدي) في الأيام الأخيرة إلى الرئيس الإيراني الأسبق محمّد مصدّق رحمه الله في أكثرمن مقال، فتذكرتُ أن يوم 28 أفريل الماضي هوالذكرى 62 لاستلامه السلطة سنة 1951 مرفودا بمدّ شعبيّ ديمقراطي وطني عارم، فاتحًا بذلك على نفسه "باب جهنم" قوى الاستكباروالهيمنة في العالم، عبر أيادي فاسدة في الداخل. عدتُ إلى أرشيفي متصفّحا ما كُتب عن تلك الفترة، وأعدت قراءة بعض المقاطع المطوّلة من كتاب "ستيفن كينزر" "أتباع الشاه: انقلاب أمريكي وجذورالإرهاب في الشرق الأوسط". - 2 - كان مصدّق معارضا وطنيّا لحكم الشاه، ويصدُرعن خلفية ليبرالية، لم يكن إسلاميّا ولا شيوعيّا ولا قوميّا ولا..ولا... كان فقط وطنيّا يحمل في قلبه معاناة أبناء وطنه ويحاول التخفيف عنهم عبرتمكينهم من تقريرمصيرهم بأنفسهم. عُيِّن رئيسا للوزراء يوم 28 أفريل، واتخذ قرارتأميم النفط الإيراني يوم 30 أفريل...كان ذلك سببا "كافيا" لإعلان الحرب عليه. كتب "ميدلتون" القائم بالأعمال البريطاني بطهران في فيفري 1952 في تقريرسرّي له (نُشِربعد ذلك بثلاثين سنة) قائلا: ‘‘إن هذا الرجل يبالغ في قوّة الشعب كمصدرقدرته بحدّ يجعلني أخشى أنه لا يمكن إزاحته عن السلطة بطرق قانونية ليحل محله شخص آخر''. كان ذلك مقدّمة ضروريّة للترتيب للانقلاب على السلطة الشرعيّة بأيّ ثمن، وقد دام ذلك سنتين كاملتين، اعتمدت فيها المخابرات الأمريكية (عبر مبعوثها على الأرض "كيرمت روزفلت" حفيد الرئيس روزفلت) والبريطانية تكوين جبهة محلية مضادة للثورة، هي خليط من قوى تقليدية داخلية وجماعات مصالح من كبارالمُلاّك وكبارالقادة المرتبطين بالشاه. ولأن مصدّق كان يستمد قوّته من شعبه كان لا بدّ من ضرب تلك الثقة، لذلك تضمّنت خطة "أجاكس" (الاسم الذي أُطلق على الانقلاب) شنّ حملة نفسيّة وإعلامية مكثفة ضدّ مصدّق، ووصل هجوم الصحافة عليه إلى مستويات غيرمسبوقة من الحدّة والعنف. بل إن" ريتشارد كوتام"؛ أحد محترفي الدّعاية كان يقول:" إن أربعة أخماس الصّحف في طهران كانت واقعة تحت تأثيرالمخابرات المركزية الأمريكية". تأمّلوا جيدا أن عملية "أجاكس" التي موّلتها المخابرات المركزية الأمريكية اعتمدت في التنفيذ على أيادي محلية ذات ثلاثة شُعب: الإعلام والبلطجيّة وبعض العناصرالعسكرية، كما أن تلك العملية دامت سنتين كاملتين (1951 – 1953). - 3 – لماذا فرضت عليّ تلك الذكريات نفسها في هذه اللحظات الفارقة من تاريخ تونس المعاصر؟ هل ثورتنا في خطر؟ هل هي "ثورة كاذبة تظل خارج القدرة على التأسيس للحرية"؟ كما يقذف في وجوهنا الصّديق "الطاهرأمين" في كتابه "بؤس الثورة"، مردفا "ما أخشاه حقّا هوأن تصبح "الثورة" داء العرب في المستقبل"... لن أتخلى (بعدُ) عن قناعاتي بأننا ولجنا لحظة ثورية فارقة، تؤرّخ لما قبلها ولما بعدها. ولكني لا يمكن أن أغرس رأسي في الرّمال كما تفعل النّعامة، وأن أتغاضى عن كثيرمن الحقائق "المفزعة" والمقارنات التي تفرض نفسها وإن غضّ سياسيّونا البصر. عندما أتأمل ساحة الحراك السياسي والاجتماعي في تونس الأشهر الأخيرة، وأدقق في المسارات التي تأخذها حركة القوى المضادة للثورة، من رجالات النظام السابق: سياسيّين كانوا أو مثقفين أوإعلاميّين أو أمنيين أو رجال مال وأعمال، ومن "البلطجيّة" الذين يوظفونهم بالقطعة ويرمون بهم في أتون معركة عرقلة مسارالثورة، عندها يقفزأمام عينيّ نفس السيناريوالذي انتهجه الفاسدون (الشُخوص هي نفسها في كل زمان ومكان) للإطاحة بمحمّد مصدّق سنة 1953. • العمل على توظيف الماكينة الإعلامية (والسمعيّة البصريّة منها بشكل خاص) لإحداث أكبرقدر ممكن من التشويه ونشرالإشاعة "القاتلة" وتزييف الحقائق والتشكيك المفرط في الثورة وفي مستقبلها، والاستنقاص والتطاول على كل من لا ينخرط في الثورة المضادة. وقد استغل هؤلاء ضعف القائمين على الشأن العام ممّن أفرزتهم الثورة، أو عدم رغبتهم، في مواجهة تلك الحملات التي بدأت بطيئة متفرقة، قبل أن تتكثف وتتواتروتتوسع كبقعة الزيت. • العمل على إرباك الاقتصاديات المحلية، وهي أصلا مربكة بفعل الثورة، عبرتعطيل آليات الانتاج، قبل اللجوء الى وقفها نهائيا عبر سلسلة طويلة من الإضرابات المتوازية والمتقاطعة والمدبرة أحيانا، مع استعمال عدد من المجرمين والمهربين لقطع الطرق واستعمال العنف في فرض تحرّكات خنق الاقتصاد، ما يضطرالدولة إلى البحث عن حلول متعارضة مع فلسفة الثورة واستحقاقاتها في الانعتاق من ربقة التداين والارتهان للخارج، أودفعها للدخول في مواجهة أولئك بالقوة، وبالتالي تكون قد بدأت في استعداء جزء من شعبها، نظرا لعدالة كثير من المطالب الاجتماعية التي يرفعها الناس في تلك الحالات. ويكون ذلك مقدمة للدفع نحوالعصيان المدني، أوالتهديد بشنّ الإضراب العام لشل الحركة الاقتصادية والاجتماعية. وتكون النتيجة المباشرة لهذه الفوضى ضرب السّياحة في مفصل عبرتشويه صورة البلد في الخارج، وتخويف السيّاح من القدوم إلى بلادنا. • تعميق الاستقطاب السياسي بين القوى السياسية، ومحاولة إقناع الناس بأن العيش المشترك أصبح متعذرا، وبالتالي دفعهم تدريجيا الى الاحتكام الى استعمال العنف المسلح لحسم الأمورفيما بينهم • كسرهيبة السلطة ورفع منسوب الاجتراء والتطاول عليها، لكي يصبح إسقاطها احتمالا واردا وغيرمستبعد، بل ويُرفع شعارإسقاطها عبرالشارع واستعمال العنف والفوضى. ويتزامن ذلك تدريجيا مع الإشادة بالفترات السابقة عن الثورة، ثم بالترحم على رجالات العهد السابق. أليس هذا بعض ما يجري في تونس هذه الأيام ؟ ألا نعيش سعيا محموما من جهات معلومة وغيرمعلومة إلى الانقلاب على كل مرحلة الانتقال الديمقراطي والحيلولة دون الوصول إلى آليات المرور إلى بناء المؤسسات الدائمة عبرآليات الديمقراطية والاختيارالحرّ؟ وهل قانون التحصين السياسي للثورة، وقد أعلنت بعض قوى الثورة المضادّة أنها لن تسمح للمجلس التأسيسي بالتصويت عليه، سيكون القشّة التي قصمت ظهرالبعير؟ نفس الخطوات، ونفس السيناريوهات، عرفها الانقلاب على حكومة مصدّق الشرعية والوطنية في إيران سنة 1953. نفس الشخوص ونفس الآليات ... فهل تستطيع قوى الثورة المضادة في تونس، ومن يدعمها في الخارج، إقناع "العرّاب" الأمريكي والحصول على ضوء أخضرمنه لإتمام مسارالانقلاب على الثورة الذي بدأ باغتيال شكري بلعيد ذات 6 فيفري 2013 ؟ ... فهل من مدّكر؟