ستكون القمّة العربية في دمشق خير مثال على صعوبة الفترة التي تمرّ بها المنطقة العربية وأزماتها المتفجّرة في أكثر من مكان. فما هو مرجوٌّ من تضامن عربي في القمّة سيكون محفوفاً بمخاطر وصول الصراعات العربية إلى قمّتها. وقد يبدو للبعض وكأنّ ملفّ الازمة اللبنانية هو الملف الاكثر تعقيداً والمسؤول عن عدم التوافق المنشود بين الحكّام العرب، بينما واقع الحال هو غير ذلك تماماً. فالخلافات العربية القائمة الان إنّما أساسها الموقف الامريكي الرافض لتسويات جذرية شاملة لازمات متشابكة في الشرق الاوسط، فضلاً عن استمرار إدارة بوش في نهجها الساعي لعزل إيران وسوريا وإضعافهما من خلال تحجيم ونزع سلاح كلٍّ من حركة حماس في فلسطين وحزب الله في لبنان. وها هي المنطقة العربية الان تدفع ثمن هذه المرحلة التي تشتدّ فيها الضغوط السياسية المهدّدة بحالة انفجارات عسكرية وأمنية شاملة، وفي أكثر من جبهة . ولكي تكون الامور أكثر وضوحاً، فإنّ الذي يعيق التوصّل إلى تسويات شاملة لازمات المنطقة، ويحول دون تحقيق التضامن العربي الفعّال على أعلى المستويات، هو الادارة الامريكية التي رفضت الاخذ بتوصيات لجنة بيكر/هاملتون في نهاية العام 2006، واستمرّت في نهجها التصعيدي رغم ما آلت إليه سياستها في العراق وفي عموم المنطقة من تراجع وانحسار. واقع الحال الان أنّ إدارة بوش لا تقدر على فرض الحلول لكنّها قادرة على إعاقة أي حلٍّ لا توافق عليه، والامر شبيه بما يحدث في مجلس الامن حينما تلجأ واشنطن إلى استخدام حقّ النقض (الفيتو) إذا لم يأخذ المجلس بمشروعها.. فواشنطن اعترضت على المبادرة العربية بشأن لبنان، كما تحفّظت في السابق على المبادرة الفرنسية التي حاولت التنسيق مع دمشق، وتعذّر بالتالي التوصّل إلى تسوية للازمة السياسية اللبنانية أيضاً، انتقدت إدارة بوش اتفاق مكّة، الذي رعته حكومة الرياض، بين حركتي "فتح" و"حماس" ولم تجد لها أو لاسرائيل مصلحة في تنفيذه وفي وقف الصراعات الفلسطينية وفي مشاركة "حماس" بالسلطة الوطنية، فانهار الاتفاق وحصل ما حصل في غزّة فيما بعد. فحلول واشنطن لازمات لبنان وفلسطين تشترط التخلّي عن نهج المقاومة ضدّ إسرائيل، وهذا ما كان صريحاً في مطالبة إدارة بوش لحركة حماس بالاعتراف بإسرائيل ونبذ أسلوب المقاومة ضدّ الاحتلال، كما هو أيضاً الموقف الامريكي في لبنان المستند على قرار مجلس الامن 1559 للعام 2004 والذي اعتبر سلاح المقاومة اللبنانية ميليشيا يجب إزالتها.. إذن، إدارة بوش ليست الان في موقع تفاوضي مع الاطراف العربية والاقليمية المستمرّة في دعمها لنهج المقاومة ضدّ الاحتلال الاسرائيلي، كما أنّها ما تزال في حالة "حرب باردة" مع إيران بشأن ملفها النووي ودورها في العراق، وهذا الامر يعني صعوبة التوصّل الان إلى تسويات سياسية لازمات معنيّ بها كلّ من واشنطنوطهرانودمشق. هذه المسائل كلّها ستجعل من القمّة العربية في دمشق ساحة تبادل لآراء وخطب ومواقف، لا مصنعاً لحلول سياسية أو منطلقاً لتضامن عربي جاد وفعّال. فتعطيل إدارة بوش للمصالحات الوطنية الحقيقية في لبنان وفلسطين يعني أيضاً تعطيلاً للمصالحة العربية الشاملة.. كذلك، فإنّ عدم التزام إدارة بوش بتوصيات بيكر/هاملتون لجهة إقامة مؤتمر دولي شامل للصراع العربي/الاسرائيلي وللتفاوض المباشر مع طهرانودمشق، سيدفع بالمنطقة إلى مزيد من الصراعات في شريط يمتدّ من غزّة إلى طهران مروراً بدمشقوبيروت وبغداد. ربّما لا يجد الرئيس الامريكي مشكلة في كل ذلك وإدارته هي في سنتها الاخيرة، حيث لا يضمن مجيء رئيس جمهوري يكمل أجندة الادارة الحالية، وبالتالي ستكون هناك سلّة أزمات دولية أمام رئيس ديمقراطي جديد عليه التعامل معها ومع ما هو عليه أيضاً حال الاقتصاد الامريكي والمشاكل الاجتماعية الاخرى في الولاياتالمتحدة. إنّ الشيء الوحيد الذي أجمعت عليه الحكومات العربية في قممها الاخيرة كانت المبادرة العربية للسلام وما تضمنته من استعداد للاعتراف بإسرائيل وإقامة معاهدات وعلاقات معها مقابل إنهاء الاحتلال الاسرائيلي للاراضي التي احتلّت عام 1967 وإقامة الدولة الفلسطينية. لكن التوافق الحكومي العربي على هذه المبادرة كان توافقاً على الغاية لا على الاسلوب أيضاً. فكيف يمكن تطبيق هذه المبادرة ثمّ ما البديل عنها في حال رفض إسرائيل لها؟ (وهذا ما حدث منذ إطلاق المبادرة عام 2002 في قمّة بيروت). أي هل ستقرّر الحكومات العربية استراتيجية شبيهة بقمّة الخرطوم عام 1967 التي أدّت إلى حرب أكتوبر عام 1973؟ أو هل ستتضامن في الحدّ الادنى كل الحكومات العربية مع حركات المقاومة للاحتلال الاسرائيلي؟ وكيف سينعكس ذلك على السلطة الفلسطينية وهي الان في موقع المفاوض الرافض للمقاومة؟! ثمّ كيف يجب التعامل مع هذا الامر لبنانيّاً وسوريّاً حيث هناك أرضٍ لبنانية وسوريّة محتلّة ولم تحصل بعد اتفاقات مع إسرائيل كما جرى على الجبهات المصرية والاردنية ومع منظمة التحرير الفلسطينية؟ هي تساؤلات مهمّة لانّ الاتفاق على مبادرة السلام دون التوافق أيضاً على بديل لها يفتح المنطقة أمام صراعات بين العرب أنفسهم، وهذا ما نشهده الان من اختلاف بين نهجين عربيين أحدهما تدعمه واشنطن والاخر طهران. إنّ الجسم العربي تنخره الصراعات على المستويين الوطني والقومي ولا يصحّ فيه اتّباع سياسة "حسيبك للزمن" لانّ مراهنات خصوم الامّة هي على الزمن نفسه، تماماً كما تفعل إسرائيل في مسألتي القدس والمستوطنات وكما هي سياستها في التشجيع على الصراعات الاهلية العربية.. فإذا لم يحصل تحوّل جذري إيجابي في واقع الخلافات العربية (وهو أمر مستبعد الان)، وإذا لم تقم إدارة بوش بخطايا مغامرات عسكرية جديدة في المنطقة (وهو أمر محتمل الان)، فإنّ الخيار المشترك يبقى بالنسبة لكل الاطراف المعنيّة بصراعات المنطقة هو "إدارة الازمات" القائمة ومنع وصولها إلى حدّ التفجير، كما هو ممنوعٌ وصولها إلى حدّ الحلول، بانتظار ربيع العام القادم وما قد تسفر عنه الانتخابات الامريكية التي ستؤدّي حتماً إلى تأثيرات كبرى على مصائر أزمات وشعوب وأوطان.