بقلم : الأستاذ كمال الورتاني سيعلم الجمع ممّن ضمّ مجلسنا ** بأنّني خير من تسعى به قدم أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ** وأسمعت كلماتي من به صمم (أبو الطّيّب المتنبي) الكاريزما هي فكرة مستنبطة من الفلسفة اليونانيّة القديمة التي كانت تستعملها عادة للإشارة إلى موهبة أو عطيّة إلهيّة، ومن بعد ذلك استعملتها الكنائس المسيحيّة في أوروبا عند الإشارة إلى الرّوح المقدّس لكن أوّل من استعملها في المعجم السياسي هو الفيلسوف "ماكس فيبر" وهو أحد مؤسسي علم الإجتماع الحديث، بحيث دخلت هذه الكلمة إلى الإستعمال السياسي مع هذا العالم الفقيه في بدايات القرن 20 ويؤكّد ماكس فيبر على أنّ الكاريزما / السلطة الملهمة هي القدرة التي يتمتّع بها شخص معيّن للتأثير في الآخرين إلى الحد الذي يجعله في مركز قوّة بالنسبة لهم بحيث يمنحه الواقعون تحت تأثيره حقوقا تسلّطيّة عليهم كنتيجة لقدرته التأثيريّة هذه. ويقول علماء الإجتماع السياسي وعلماء التحليل النفسي أنّ الشخصيّة الكاريزميّة تولد كذلك، وأنّ عنصر الكاريزما لا يكتسب بالتدريب بل هو يولد مع الشخص ونابع من ذاته لكنّ هذا لا يلغي أهمّية التجربة والدربة وكسب مهارات تدعم البعد الكاريزمي للشخصيّة السياسيّة. ومن هذا المنطلق، فإنّه قد أجمعت أغلب الأبحاث على أنّ الزعيم النّازي أدولف هتلر هو أبرز كاريزما عالميّة في التاريخ السياسي الحديث، وأنّ الزعيم العربي جمال عبد النّاصر هو أبرز كاريزما عرفه التاريخ العربي الحديث يليه بعض الزعماء العرب مثل صدام حسين والحبيب بورقيبة الذي يستلهم منه وينحو على نهجه حاليا السيد الباجي قايد السبسي. فيما نجد نوعا آخر من الكاريزمات قد تكون ذات بعد فكري سياسي مثل الشيخ راشد الغنّوشي أو ذات بعد نضالي سياسي مثل الفقيد شكري بلعيد الذي انتقل في التوصيف من الكاريزما إلى الرمز بعد اغتياله إلى حد الحديث عن محاولات إدخاله عالم الأسطورة. وحين نتحدّث عن تعدّد الكاريزمات ومظاهر تنافسها والصّراع الخفيّ الدّائر بينها فإننا بذلك نفسّر مدى توظيفها لخدمة المصلحة الحزبيّة والتنافس السياسي والإنتخابي بينها لغاية الوصول إلى كسب رضا صاحب الشّرعيّة السياسيّة في تونس الثورة وهو الشعب باعتباره صاحب السيادة ولذلك ترى من كانت له شخصيّة كاريزماتيّة فإنّ حزبه يقوم باستغلالها أحسن استغلال في إعادة ترتيب البيت الداخلي للحزب وإحكام تماسكه أو في الترويج لمنتوجه السياسي بآليّة الدعاية السياسيّة التي يملكها. ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى الدّور الذي تلعبه كاريزما الشيخ راشد الغنّوشي في حركة النّهضة وتماسك نسقها وثبات بنائها من رصّ للصفوف وتعديل بين المواقف. ولقد تجلّى دوره الكبير أساسا في المؤتمر التاسع للحركة الذي التأم في الصّائفة الماضية وكيف أنّه كلّما احتدّ النقاش وعلت الأصوات إلا وتجد الشيخ راشد بمثابة المهدّئ والمعدّل بين المواقف وإذا تكلّم أقنع، فتهدأ النّفوس وكأنّ شيئا لم يكن. ولقد تجلّى هذا الأمر أساسا في كيفيّة التخلّص من معضلة المسائل الحارقة التي طرحت في المؤتمر والتي انتهى الأمر بتأجيل النّظر والبتّ فيها إلى مؤتمر استثنائي ينعقد بعد سنتين. كذلك الحال بالنسبة للسيد الباجي قايد السبسي ودوره البارز في رأب الصدع بين أقطاب حزبه حركة نداء تونس وخاصّة إثر التصريحات الهجوميّة للقيادي فوزي اللومي ضد القيادي خميّس كسيلة حين اتّهمه بأنّه رئيس عصابة داخل الحركة. وفي إطار الحديث عن توظيف الشخصيّة الكاريزماتيّة لخدمة صورة الحزب، نشير إلى مداخلة القيادي خميّس كسيلة في برنامج "التاسعة مساء" على قناة "التونسية" مؤخّرا وكيف أنّ كامل حديثه تقريبا كان مركّزا على النفخ في صورة السيد الباجي قايد السبسي وتعظيم شخصيّته، والحال أنّ موضوع مداخلته كان يفترض أن يكون محصورا في التعليق على تداعيات اجتماع حركة نداء تونس بمدينة قفصة. ومن بين الصّور التي بها تعظم الكاريزما أو تصغر، نجد اعتماد "القلابس" في الإعلام التونسي. حيث يمكن التأكيد أنّ برنامج "القلابس" له دور فعّال في تعزيز الكاريزمات السياسية أو في المسّ منها وتقزيمها حتّى أنّ الباجي قايد السبسي أبدى اهتماما كبيرا بدميته(قلبوسته) عند استضافته في برنامج اللوجيك السياسي بقناة التونسيّة. في حين أنّ القيادي في حركة النّهضة ووزير الصّحّة الدكتور عبد اللطيف المكّي، أبدى امتعاضه من تجربة القلابس وآعتبرها مسّا من الخصوصيّة الذّاتيّة للزعيم السياسي. ويلاحظ أنّ التنافس بين الكاريزمات يخفي صراعا قد يمسّ من تلك الكاريزما أو ذلك الرّمز لفائدة الطّرف الآخر، وليس أدلّ على ذلك من الصّراع الخفي بين الباجي قايد السبسي واحمد نجيب الشابي الذي بلغ ذروته إثر الحوار الشهير للسبسي بجريدة "المغرب" أيام 30/29/28 ديسمبر 2012 قبيل تكوين الإتّحاد من أجل تونس كما أنّ الصّراع الخفي على الضّفة الأخرى من المعارضة داخل الجبهة الشعبيّة أصبح غير خاف عن الملاحظين ، وذلك بروز الكاريزمات الجديدة المنافسة للزعيم حمّة الهمّامي والتي صعدت في حزب "الوطد" إثر اغتيال الرمز شكري بلعيد. وللإشارة فإنّ صراع الكاريزمات انعكس على عمل المجلس الوطني التأسيسي في صياغته للنّظام السياسي التونسي في الدستور المرتقب. وما التّوجّه إلى اعتماد النّظام الرئاسي المعدّل إلا نتاج لسيطرة الكاريزمات في أحزاب المعارضة . حيث أنّه لم يبق لأغلب أحزاب المعارضة إلا الكاريزما في مقابل ضعف واضح للقاعدة الحزبيّة وفي المقابل، فإنّ الكاريزمات ليست هي التي تصنع الإستقرار الدائم للإحزاب وإنّما الذي يؤمّن ذلك هو التّوافق في المواقف والأفكار والمبادئ والتوجّهات ووحدة المرجعيّة الفكريّة والسياسيّة. ولذلك سوف نرى إعادة خلط للأوراق بين أحزاب تحالف الإتّحاد من أجل تونس إثر إعلان الباجي قايد السبسي ترشّحه للرئاسة وخاصّة بين الجمهوري والنّداء، أو إثر حصول التقارب المنشود بين الجبهة الشعبيّة والتحالف من أجل تونس باعتبار تواصل القطيعة بين حمّة الهمامي والقياديين اليساريين عبد الرزاق الهمّامي ومحمد الكيلاني. فالكاريزما إذن، في المعارضة التونسية بالخصوص كما يكون مجمّعا، يمكن أن يكون سببا في التفرقة وانفراط العقد. ولكن في الحقيقة، لا يمكن للشعب أن يرضى بأقل من تحقيق أهداف ثورته في الشغل والحريّة والكرامة الوطنيّة وبعد ذلك"كلّ الطرق تؤدّي إلى روما"، سواء كانت الرموز أو الكاريزما أو حتّى الإيديولوجيا، المهمّ بلوغ خطّ الوصول ولكن هيهات