كنا قد تحدثنا في ندوة نظمها المعهد العربي لحقوق الإنسان (في شهر ماي 2012) عن الظاهرة السلفية وشخّصناها ثقافيا واجتماعيا وسياسيا ونفسيا، واقترحنا الحلول للتعامل معها وقائيا وعلاجيا بشكل علمي بناء على تلك التشخيصات التي قمنا بها، تربويا وثقافيا وسياسيا وأمنيا وقانونيا، بحسب الحالة المواجهة؛ بمعنى أن هذه الظاهرة ظاهرة معقدة (مركبة) ولا يمكن التعامل معها بتبسيط مخل، مثل اختزالها في مشكلة أمنية بحتة واختزال حلها في ضربة أمنية قاصمة. وكررنا الحديث عنها في الفضاء التواصلي الاجتماعي الافتراضي (الفايسبوك) وقلنا إن الفيصل في كل هذه القضية هو اتخاذ مسألة العنف معيارا في التعامل معها: العنف مبشَّرا به في الأدبيّات الخاصة بهذه الجماعات السلفية أو مُمارسًا من قبلها، أوالعنف المتبرأ منه في أدبياتها وخطاباتها والمعزوف عنه في ممارساتها. ونريد الآن العودة من جديد وبشكل مفصل أكثر للموضوع انطلاقا من المعطيات الميدانية الظاهرة للجميع، تاركين خفايا الأمورلمن هم مطلعون عليها أكثرمنا. - عندنا الآن بعد الثورة، جماعة أوجماعات سلفية أدخلت السلاح إلى بلادنا واستخدمته ضدّ قواتنا الأمنية والعسكرية في الروحية وفي "بير علي بن خليفة" وربما في "الشعانبي" حيث ما زال الغموض يلف هذه المعركة التي تخوضها قواتنا مع الألغام... هذه الجماعات التعامل معها كما أسلفنا سابقا لا تردّد فيه: التصدّي القوي والحاسم والمراقبة واليقظة الدائمة والكشف عن الخلايا النائمة وتفكيكها وحماية البلد وسكانه ومنشآته منها. - وعندنا جماعة السلفيّة "العلميّة" (التي هي ليست من العلميّة في شيء). بمعنى أنها تمثل قراءة معينة للتراث تنبني على أساسها قراءتها للواقع والعصر. هذه قراءة تواجه وترشّد بقراءة أو بقراءات أخرى ثقافيا وتربويا ومعرفيا وإعلاميا، ولا تمارس ضدّ المؤمنين بها أية ضغوطات ولا هرسلات ولا تضييقات أمنية ولا إدارية ولا غيرها. هم مواطنون في وطنهم يتمتعون بكل حقوق المواطنة وعليهم تأدية كل واجباتها. فإذا ما بدا من بعضهم ما يدل حقيقة على انقلابه إلى ضفة العنف فيطبق معه القانون. ولكن قبل تركهم يصلون إلى هذا المنقلب الخطير يجب تأطيرهم والتعاون في ذلك مع أهليهم وأهل العلم والصلاح ممّن لهم بهم صلة وتواصل. - نأتي الآن إلى الحالة الثالثة، وهي الحالة الأكثرالتباسا وهي كذلك التي تتسبّب الآن في هذا الجدل الكبيرالقائم في بلادنا. وهي حالة ما يسمّى بالسلفية الجهادية من أتباع أبي عياض (سيف الدين بن حسين) المعروفون بتسمية "أنصارالشريعة" التي يبدوكونها إحدى تعبيرات القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، ويظهرهذا خاصة في طلب النصرة الذي توجه به أبوعياض مؤخرا من إخوانه خارج تونس ضد ّ حكم "الطواغيت" (حكومة النهضة) فاستجابت القاعدة لذلك بتوجيه تحذيرإلى تلك الحكومة بالكفّ عن محاصرة أنصارالشريعة ومنعهم من إقامة المؤتمرات والخيمات الدعوية، بالرغم من كونهم يرفضون طلب ترخيص في ذلك من السلطة القائمة، لعدم اعترافهم بهذه الدولة "الطاغوتية غيرالحاكمة بأمرالله" ! هذه الجماعة أمرها محيّرحقا. فهي من جهة تعلن تبنّيها لخط الجهاد (العنف المقدس) ومن جهة أخرى تعلن أن تونس ليست بأرض جهاد (خطاب أبي عياض في اجتماع القيروان الشهيرالعام الماضي وخطبته في "جامع الفتح" الذي فسح له منه في المجال للفرارمن قبضة الأمنيّين المطوقين به، على إثرأحداث السفارة الأمريكية) ويقول أبوعياض إن من واجب هذه الجماعة ردّ الفضل إلى أصحابه ويعني بذلك الشعب التونسي الذي خلصه وإخوانه من الحكم الظالم لبن علي. وبالتالي لا يستقيم مجازاته بالعنف والتكفير. بل إن أعدادا كبيرة من أتباعه الجدد هم من ذوي السوابق الإجرامية ومستهلكي وبائعي الخمور خارج القانون. يقول أبوعياض "خلوا بيننا وبين الناس" و"دعونا ننصب خيامنا الدعوية من دون مضايقات" "ولكم الحكم والسياسة افعلوا بهما ما شئتم". طيب. هذا كلام لا يبدو فيه خطرظاهرلا على الدولة ولا على المجتمع، وهذا خطاب يبدوإصلاحيا. هل فيه من إشكال؟ ! نعم فيه إشكال كبير! كيف؟ أولا: هذه الجماعة ترفض الاعتراف بسلطة الدولة وبقوانينها، وتريد فرض نفسها كنظام موازللنظام القائم، وقد قامت مؤخرا بصياغة وثيقة-عهد يقسم فيها العضو بقبوله تحكيم الشريعة على نفسه في كل ما يأتيه من الأعمال. وثانيا، هذه السلفية تنعت نفسها بكونها جهادية. ما هومعنى الجهاد لديها وضدّ من توجّهه؟ إذا كانت تستثني تونس من ساحات جهادها فهل يعني هذا أن يسمح لها بالقتال في دول أخرى صديقة وشقيقة، بينما تربطنا بها مواثيق حسن الجوار أو الأخوة أو الصداقة؟ هذا مما لا يجوزالسماح به أبدا ! ولذلك فليس لهذه الجماعة أن تقايض الأمن الداخلي بإطلاق اليد في بقية دول الجوار والعالم. حالة وحيدة يمكن أن يسمح فيها بالقول بالجهاد أو الكفاح المسلح هي حالة حروب التحريرضد الاستعماركما كان شأننا وشأن بقية دول المغرب الإسلامي مع الاستعمارالفرنسي أو كما كان شأن فرنسا مع الاحتلال الألماني أوالفيتنام مع الاحتلال الأمريكي، أو كما هوالشأن الآن مع الاستيطان الصهيوني في فلسطينالمحتلة. فلا يمكن مثلا نعت نزارقباني بالإرهاب عندما قال: إلى فلسطين طريق واحد يمرّ من فوهة بندقيّة، وذلك قبل فشل مسارأوسلو بسنوات عديدة. ● جامعي ودكتور في علوم التربية