نور الدين عاشور تونس - الصباح الاسبوعي: لا أحد ينسى كيف كانت التخوفات على أشدّها من حركة النهضة، وتحديدا قبيل انتخابات أكتوبر 2011 وبعدها، وهو أمر طبيعي، لأن جانبا كبيرا من التونسيين لم يسمع عن الحركة إلا من خلال أفكار وكليشيهات ظلت عالقة بالأذهان ومتوارثة تحيل كلها إلى الاتجاه الإسلامي الناشئ منذ سبعينات القرن الماضي، أو من خلال مواقف تعود في معظمها إلى رواسب سياسية اختزنتها الذاكرة وأضحت جزءا من اللاوعي. واليوم والنهضة تحتفل بالذكرى ال32 لتأسيسها، نحن بصدد حزب منظم وذي قاعدة شعبية عريضة، وهو أيضا حزب يتمتع بأغلبية تضعه في طليعة الأحزاب، وبعبارة أخرى حزب حاكم حتى ولئن كان هذا الحكم في وضع "شراكة" ضمن الترويكا، لكن هل يعبّر كل هذا عن حقيقة حركة النهضة تنظيما ومرجعية وشعبية؟ تحدّيات وإشكاليات بالتأكيد أن تحدّيات عديدة وإشكاليات كثيرة تواجه النهضة، ولعل جانبا من الإشكاليات والتحدّيات تتمحور في صورتها لدى منافسيها السياسيين ولدى جانب من الرأي العام، فأحزاب ومنظمات عديدة متخوفة من الحركة، لأنها تمثل قوة سياسية تسندها قاعدة قوية في صلب المجتمع. وهنا لا بدّ من التعريج على جانب "استثمرت" فيه النهضة، وهو المتعلق بالمقاومة على الصعيد الاجتماعي، ففي سنوات الجمر، ورغم شبه انعدام نشاطها السياسي العلني، ظلت الحركة تنسج روابط وشبكات اجتماعية، وهو ما لم تفعله بقية الأحزاب، وخاصة تلك التي ظلت في سرية لعدّة عقود، وتمحور تعاطيها مع النخب وفي الأوساط الطلابية. ولعل جانبا من المجتمع المدني لا ينظر بارتياح إلى التفاعل بين القاعدة الشعبية والحركة، بل إنه تفاعل كثيرا، ما أدى إلى جدال على الساحة السياسية وإلى اتهامات، وتحديدا فيما يتعلق بالمواقف من مسائل خلافية، أو فيما تعلق بطرق تأييد الحكومة في الشارع أو في "الفايسبوك". ومن الطبيعي جدا أن لا يشعر قطاع هامّ من الرأي العام بالارتياح، مما يشاهده من مظاهر عنف وممارسات سلبية تنسب إلى حركة النهضة، وكذلك من بعض التصريحات "المخيفة" من قياديين في الحركة بخصوص الحريات ومسألة تطبيق الشريعة. كسر الحواجز النفسية وقد كانت عملية صياغة الدستور مناسبة برزت فيها مواقف أثارت الاستياء لدى جانب من الرأي العام ولدى المعارضة أيضا، وهو ما يعني أن الحركة أصبحت معنية بأن يكون لها موقف موحّد من قضايا ومسائل هامة وخطيرة، مثل الشريعة والخلافة وحدود التغلغل في هياكل الدولة مركزيا وجهويا، وغيرها من المسائل التي تطفو بين الفينة والأخرى في أعقاب تصريح صحفي أو خطبة في مسجد أو نقاش في ملف تلفزي. إن حركة النهضة اكتسبت بالتأكيد خبرة من خلال ممارسة الحكم، ولا شك أنها معنية بمراجعة عديد المواقف بخصوص المسائل الكبرى، بل هي مطالبة - كخطوة لتنقية الأجواء على الساحة السياسية- بأن تضع حدّا لاختراق حاجز الصوت، الذي يثير دويا مثلما تفعله الطائرات، ويدفع إلى الخوف والتخوّف ويعيد إلى الأذهان صورة الحزب المتغوّل، وبالتالي لا خيار أمام النهضة سوى أن تكسّر الحاجز أو الحواجز النفسية مع قطاعات كبيرة من المجتمع، أي لدى جانب من الرأي العام المحلي والعالمي. أمام الحركة مهمات عديدة أهمها الحسم -تنظيميا- بين الدعوي والسياسي، خصوصا أن أصواتا من داخل النهضة نفسها تدعو إلى هذا الفصل، لأن الأشهر الماضية كشفت عن غموض وتداخل بين النهضة والمجموعات السلفية، بل إن أحداث الشعانبي وتطوراتها منحت الحركة شهادة في الوسطية والاعتدال، ولا بدّ أن تجسدها قياداتها في تصريحات ومواقف وبرنامج بأبعاده السياسية والتنموية والاجتماعية. وإذا كانت الشعوب تعيش على ماضيها فهي في الأثناء تعيش لحاضرها ومن أجل مستقبلها، والمؤكد أن المستقبل لديه استحقاقاته، وحركة النهضة معنية بهذا المستقبل الذي يرفض التقوقع في الماضي، فمن الخلفاء الراشدين بالمشرق إلى ملوك الطوائف بالأندلس، ومن العثمانيين إلى القرن الحادي والعشرين، تراوح تاريخ المسلمين بين النور والنار، أما ما بينهما فقد أسال الكثير من الحبر. سؤال وحيد: كيف السبيل في حركة النهضة إلى تجسيم "التلاقح" الفعلي بين الفكر الإصلاحي والطابع التحديثي؟