التكفير من الآفات الرائجة في مجتمعنا التساهل في التكفير ناشئ عن سوء الفهم أو الغلو في الدين حاوره: جمال الفرشيشي كثيرة هي المواضيع والمسائل الفقهية التي جابت منابر المساجد وقد اختلف في شأنها عدد من الخطباء على غرار مسألة التكفير وعقيدة الولاء والبراء ومن له الأهلية العلمية في الحديث عن مسائل دينية تهم الناس. وفي ظل هذا التضارب يتساءل كثيرون عن موقف مفتي الجمهورية الذي يمثل كما يعتمد البعض السياسة الدينية للدولة فأين المفتي؟ وما رأيه من مسألة التكفير؟ وما هو موقفه من المناظرات بين أهل العلم؟ أسئلة توجهت بها «الصباح الأسبوعي» إلى الشيخ عثمان بطيخ مفتي الجمهورية فكان هذا اللقاء. أين مفتي الجمهورية من الأحداث التي تدور في مجتمعنا؟ هذا التساؤل أصبح غير ذي موضوع، لأن كل الأسئلة التي طرحت عليّ من الصحف والمجلات التونسية -بما فيها جريدة «الصباح» في مرات متعددة-وفي الصحف والمجلات غير التونسية ومن الإذاعات العامة والخاصة وعبر التلفزات من تونس وخارجها وحتى الجرائد الإلكترونية، رحبت بها وأجبت عنها بالتفاصيل الدقيقة في مسائل تهم الرأي العام في تونس. بل قمت بندوة صحفية برئاسة الحكومة حضرت فيها وسائل الإعلام بكثافة، وأجبت من خلالها على كل الاستفسارات التي عرضت علي في شؤون متعددة وفي مشاغل كثيرة. وما عليكم إلا أن تراجعوا ذلك في مواضعه. بل إن الإجابة على تساؤلات الصحافة والإعلام على وجه الخصوص أصبحت تشغل حيزا زمنيا لا بأس به من نشاطي اليومي. ورغم ذلك فإني على استعداد متواصل إن شاء الله للجواب على كل من يسألني في دائرة اختصاصي الشرعي. وقد عرضت منذ أشهر على الإدارة العامة لمؤسسة التلفزة الوطنية فكرة إنشاء برنامج أسبوعي للفتوى المباشرة، لقيت مبدئيا الترحاب والموافقة ولكني الى حد الآن مازلت في انتظار الإنجاز!؟ * ماذا تقولون في مسألة التكفير ومن يكفر من؟ وأين العلماء في هذا الموضوع؟ هذه القضية أيضا أجبت عنها مرارا وتكرارا، ولا بأس بزيادة التوضيح. التكفير من الآفات الرائجة في مجتمعنا واستسهلها البعض ليكفر بعضهم بعضا لمجرد اختلاف في الرأي، وزاد آخرون فقسموا التونسيين الى فرقتين: مؤمنة وملحدة، ناجية وهالكة.. وكل فرقة تعادي الأخرى وتتبرأ منها، وهذه الفتنة بعينها وفي الحديث الشريف «الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها» وفي لفظ آخر «إن الفتنة راتعة في بلاد الله تطأ في خطامها لا يحل لأحد أن يوقظها ويل لمن أخذ بخطامها». وإني أسأل الله أن يخمد فتيل الفتنة بيننا، وأن يلقي في قلوبنا المحبة، وأن يحفظ بلدنا وسائر بلاد الإسلام من كل شر وضير، وواجبنا بل فريضة الفرائض اليوم أن نعمل بمقتضى قوله تعالى: «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَة اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» (103) (آل عمران). وعلينا أن نتعظ بدروس التاريخ، فقد خاض المسلمون بعد مقتل عثمان رضي الله عنه في مراتع الفتنة، فانقسموا فرقا وشيعا يكفر بعضهم بعضا ويضرب بعضهم رقاب بعض، حتى تلاشت قوى الأمة بمرور الأزمان فصارت لقمة سائغة بأيدي الأعداء. أما حقيقة الكفر الذي تسأل عنه، فهو نكران وجود الذات الإلهية الواحد الأحدية بادعاء عدم وجود خالق لهذا الكون ويطلق عليهم القرآن الكريم اسم الدهريين وفي الأية 45 من سورة الجاثية «وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ۚ وَمَا لَهُمْ بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ». والكفر كذلك أن تعبد مع الله إلها آخر أو أن تعبد غير الله عز وجل، فمن الناس من يعبد النجوم والكواكب ومنهم من يعبد أصنافا من الحيوان ومنهم من يعبد الجن والشيطان والعياذ بالله. ومن الكفر الصريح كذلك سب الله أو إنكار صفة معلومة من صفاته القدسية أو إنكار النبوة أو إنكار القرآن العظيم أو الاستهزاء بالإسلام وقد نهينا نحن المسلمين عن الاستهزاء بديانات غيرنا في قوله عز من قائل «وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ...» (الأنعام 108). وكل من يستهزئ بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم قولا أو كتابة أو رسما فقد كفر بلا خلاف، وكل من أنكر أمرا معلوما من الدين بالضرورة كالصلاة أو الصوم أو الزكاة أو الحج، وكالبعث والحساب والجنة والنار.. وغير ذلك فقد كفر لقوله تعالى «أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ» (البقرة 85). وكل من أظهر الإسلام تقية ونفاقا فهو على الكفر. والكفر عموما هو كل ما يخالف الإيمان اعتقادا وقولا وعملا. وعلى كل فقد أمرنا أن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر، ومفتاح الإيمان الشهادة فمن قالها صار مسلما له حرمته في جسده وماله وعرضه ودمه لا ينتهك في شيء من ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ» (أخرجه الإمام مسلم)، وفي الحديث أيضا «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله، دخل الجنة» (أبو داود). * هل يجوز التكفير بمجرد الشبهة؟ لا يجوز التكفير لمجرد الشبهة أو لحصول ذنب لا يخرج عن الملة، وقد نهينا عن ذلك أشد النهي لقول رسول صلى الله عليه وسلم «إذا كفر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما» (الموطأ)، وعند الحافظ ابن عبد البر رحمه الله أن المعني في هذا الحديث عند أهل الفقه والأثر: النهي عن أن يكفر المسلم أخاه المسلم بذنب، أو بتأويل لا يخرجه من الإسلام عند الجميع (وليراجع في ذلك كتاب التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد: 13/17 27). والتساهل في التكفير ناشئ عن سوء الفهم أو الغلو في الدين وهو الزيادة عما شرعه الله، وهذه إن تفشت لا قدر الله فهي من المهلكات كما جاء في الحديث «إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين» (رواه النسائي وابن ماجه واللفظ للنسائي وإسناده صحيح). والإسلام في روحه وتشريعاته يقر بحرية الرأي والاختلاف ويقدر الاجتهاد حق تقديره بأدلة كثيرة، ولله در الإمام الشافعي لما قال: رأيي صواب يحتمل خطأ ورأي غيري خطأ يحتمل صوابا. وما وجود العلماء والفقهاء في العصور المختلفة إلا دليل على أن أبواب الحرية الفكرية مفتوحة غير موصودة، وان أقوال السابقين لا تغني عن اجتهاد اللاحقين، بشرط أن يكون القصد هو الإصلاح لما فيه خير المسلمين وعزتهم. * هل يمكن أن تكون المناظرات بين أهل الشرع وغيرهم هي الحل؟ المناظرة بين المتخالفين في الرأي والمنهج يمكن أن يكون حلا، بشرط إخلاص النية لله عز وجل مع توفر العلم الراجح والتخلق بالتواضع اللازم وخفض الجناح لبعضنا البعض وأن يكون القصد هو إدراك وجوه الصواب ومراعاة المصلحة الشرعية الحقيقية. كما ذكر الشيخ محمد الشنقيطي رحمه الله في كتابه «آداب البحث والمناظرات» إن من شروط التناظر الامتناع عن الإيذاء والاستهزاء والسخرية وبذاءة القول والفحش في المخاطبة لما جاء من النهي القرآني عن هذا في قوله تبارك وتعالى «لا يسخر قوم من قوم» وقوله تعالى «ولا تلمزوا أنفسكم» ولنهيه صلى الله عليه وسلم بقوله «ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء». والحل دائما في أن نحتكم الى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم كلما ظهر الخلاف وأن يكون اختلافنا تنافسا شريفا في تحصيل الخير لوطننا وأمتنا الإسلامية جمعاء، وأن تكون الثورة وفية لأهدافها الرئيسية في القضاء على الظلم والفقر والجهل والبطالة، عوضا عن الخصام واللجاج. * كيف ترون المستقبل؟ من حسن ظننا في الله عز وجل أن نأمل خيرا في المستقبل، وكان صلى الله عليه وسلم يحب الفأل الحسن وينهى عن التشاؤم، نسأل الله الكريم أن يسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة وأن يعمنا بفضله وأن يسدد خطانا وأن يوفقنا الى ما يحبه ويرضاه.