تونس الصباح الأسبوعي: يستحق مؤتمر مناهضة العنف والإرهاب وقفة متأنية لأنه قد يصبح كغيره من المؤتمرات مجرّد تاريخ بدل أن يكون حدثا تاريخيا، ولعل الملاحظات التي سنسوقها قد لا تتجاوز انطباعات واستنتاجات لا ترقى بالتأكيد إلى مستوى علمي دقيق، لكنها في نهاية الأمر محاولة لوضع المؤتمر في سياقاته المتعددة، وقد تغضب البعض وتثيرهم، وربما استنتج منها آخرون أنهم كانوا على صواب حينما قاطعوا المؤتمر. ربما نجد في كلمة مصطفى بن جعفر رئيس المجلس الوطني التأسيسي أمام المؤتمر ما يكشف عن «مدى الثقة» في نبذ العنف، فبعد تأكيده على ضرورة نبذ العنف بكل أشكاله، والتعوّد على قبول الآخر في كنف الاحترام شدّد على ضرورة التعاون لتوفير المناخ الاجتماعي والسياسي من أجل إنجاح المرحلة الانتقالية «بأقل أضرار ممكنة» وتأمين الانتخابات القادمة.. إذن هناك أضرار ممكنة وقليلة، أي إننا أمام هامش سيضيق أو يتسع وفق محرار السياسة ومدى تلبّد الأجواء العامة. عنف في سياق العنف أيّ معنى لمؤتمر وللائحة عامة وبعضنا يتوقع حصول سوء؟ الأمر لا يتعلق بفراسة، لأن واقع البلاد والحالة النفسية لنخبها والطموحات السياسية على أشدّها، وحدّة «التنافس» بين الأحزاب، يكشف عن أن الحديث عن توافقات وممارسات متخلقة ونظيفة في حياتنا السياسية، كمن يحاول عبثا رؤية غازات سامة وجراثيم بالعين المجرّدة. والعين المجرّدة لم تخطئ بالتأكيد، فما شهده افتتاح المؤتمر من مشادات حول مشاركة عادل العلمي رئيس الجمعية الوسطية للإصلاح والتوعية أفقد المؤتمر جانبا من مصداقيته، وكان يفترض أن يكون المؤتمر مفتوحا بل منفتحا أيضا على مختلف التيارات السياسية والفكرية وعلى مختلف المرجعيات الفقهية والمذهبية ولا يمكن اعتبار ما حصل حادثة منعزلة لأنها كشفت عما يختزن في اللاوعي. وتقود هذه المسألة إلى الجانب التنظيمي للمؤتمر، فطغيان الجبهة الشعبية في المشهد، وهنا المقصود كطرف مشارك في التنظيم لا يكفل تحييد المؤتمر عن أيّة انزلاقات محتملة أو ردود فعل متسرّعة ولا يمكن أيضا أن يغيّب الأفكار المسبقة والرواسب في النفوس. ربما كان الأجدى أن يوضع المؤتمر كليا تحت إشراف جهة ما من مكونات المجتمع المدني، وتشارك فيه كل الأحزاب والحساسيات السياسية على قدم المساواة بصفتها مشاركة ولا علاقة لها بمختلف الجوانب التنظيمية. هشاشة المؤتمر فبروز الجبهة الشعبية في الصورة كفيل بإعطاء انطباع بأن اليسار وحده ينبذ العنف فيما أن البقية قابلون للوقوع فيه أو حتى تبريره، رغم أن الواقع أثبت أن اليسار مستهدف بالعنف، سواء بالنظر إلى سقوط أول ضحية للاغتيال السياسي بعد الثورة وهو شكري بلعيد وأن روابط حماية الثورة استهدفت اليساريين. لقد شكل الجانب التنظيمي وحادثة عادل العلمي هشاشة للمؤتمر سهلت انسحاب سبعة أحزاب وجردته من إجماع حزبي إضافة إلى مقاطعة المنصف المرزوقي أشغال اليوم الختامي. وفي هذا السياق يطرح سؤالان: هل بددت الجبهة الشعبية رصيدها الذي كسبته منذ اغتيال شكري بلعيد؟ وهل «سيّست» المؤتمر إلى حدّ جعل تلك الأحزاب لا تتراجع عن انسحابها؟ ربما نجد في تصريح فتحي العيادي رئيس مجلس شورى حركة النهضة لصحيفة «المغرب» ما يكشف عن نتائج ولا يحيل إلى الأسباب حينما قال: «إن سبب مقاطعة المؤتمر هو أنه يؤسس للعنف رغم أن مشاركة الحركة فيه كانت مبدئية ومن منطلق أن البلاد كانت في حاجة إلى توافق..» ويعني هذا أننا عدنا إلى نقطة البداية وكأن المؤتمر لم ينعقد وكأن أطرافا عديدة لم توقع على لائحته العامة. ولا بدّ من القول أن العنف لا يمكن أن يقطع دابره بمؤتمر وبتوقيعات، فالمسألة معقدة لأن الظاهرة بدأت لفظيا في المنابر التلفزية وتطوّرت إلى حدّ الاعتداءات الجسدية والاغتيال السياسي.. تنافس.. حقد.. كراهية لقد ارتكبت أخطاء كثيرة مثل دعوات القتل والتكفير والقول بانتهاء شرعية الحكومة في أكتوبر الماضي كما أن عديد التصريحات لا تخفي مشاعر الكراهية والحقد بين بعض التيارات السياسية.. حتى بدا الأمر وكأننا أمام إعادة تأسيس للعنف على أسس ومعايير جديدة كإحدى إفرازات المرحلة الانتقالية وهي المرحلة التي أشار بن جعفر إلى «أقل أضرار ممكنة» فيها. من المفارقات أن العنف عادة ما يكون عموديا أي تمارسه الدولة أو السلطة تحت مسميات شتى أبرزها الشرعية والقانون، لكن يبدو أنه أصبح عنفا أفقيا وقادرا على استهداف الجميع، وإذا كان عنف الدولة له ما يبرره فإن العنف الفرديّ والجماعيّ يبحث دوما عن تبريرات ومسوغات. ومن المفارقات أيضا أن العنف بشكليه اللفظي والمادي على الساحة السياسية لم تتم مواجهته بطريقة حاسمة، وهو ما جعل نطاقه يتسع ويجد مؤيدين له في الأوساط الشعبية، بل هناك ما يشبه الاتفاق الضمني بين النخب السياسية والقواعد الشعبية على اعتماد العنف رديفا للعمل السياسي بتعلة البقاء للأقوى. إن مجتمعنا -من سوء الحظ- لا تبدو له مظاهر العنف غريبة، فقد اعتاد عليها في الملاعب والمعاهد وفي الشارع عموما، لذلك فالعنف أكبر من أن يحتويه مؤتمر أو تحدّ منه لائحة تحمل عشرات التوقيعات لأنه -وهذا ما لا يتنبه إليه رجال السياسة- غريزي في الإنسان، بل إن الفيلسوف والمفكر الألماني كارل سميت الذي انضمّ إلى الحزب النازي يرى أن «السياسة تقوم على معيار الصديق والعدو» وهي مقولة لها دلالات كثيرة وتمظهرات عديدة، فانظروا فيما حولكم. وإلى حين التوصل فعليا إلى مواجهة وفاقية وعملية مع العنف بما يكفل اجتثاثه، كل شيء يبقى واردا فكأننا أمام حقيقة اجتماعية سياسية لا مهرب منها مفادها: كيف تكونون.. تعنِّفُون وتعنَّفُون!.