كان من نتائج سياسة الترهيب، وتزييف إرادة الشعب عبر مهزلة الانتخابات الكاريكاتورية خلال الحقبة البائدة إضافة إلى سلسلة من الفضائح المدوية التي رافقت عهد بن علي وليلاه أن ابتعد الشعب في عمومه وبمختلف طبقاته الاجتماعية عن الاهتمام بالشأن العام. ولما فتحت الثورة آمالا عريضة في تغيّر الحال من النقيض إلى النقيض أي في تحول المنطلقات التي ترتكز عليها الدولة من نظام الحزب الأوحد والزعيم الملهم إلى نظام يتميز بالحوكمة الرشيدة وبتجسيم وتجسيد التطلعات الشعبية واستمداد الشرعية من الأغلبية عاد الاهتمام بالشأن العام وبرزت من تحت الرماد تلك الرغبة العارمة التي عرفتها بلادنا في أواسط سبعينات القرن الماضي وتم إجهاضها بتزييف انتخابات سنة 1981 في المشاركة في أخذ القرارات وتطوير الحياة السياسية في بلادنا. إلا أن ما حدث ويحدث إلى اليوم اثر انتخابات 23 أكتوبر 2011 في الحلبة السياسية من شأنه للأسف الشديد أن يعيدنا تدريجيا إلى المربع الأول، وأن يدفع شعبنا إلى العزوف مرة أخرى عن الاهتمام المباشر بالشأن العام، أي بمصيره وبمصير بلاده وإلى الاستقالة التامة في هذا المجال. فالمجلس التأسيسي «السلطة الأصلية» في البلاد على ما يقولون فيعود اليه وبعيدا عن أية محاولة لترذيله كما اتهم السيد راشد الغنوشي القسم الأكبر من المسؤولية في هذا المجال. فقد بدأت سلسلة «فضائحه» بظاهرة «النواب الرحالة» اللاهثين وراء المال السياسي وأغلبهم من حزب العريضة الشعبية الذي أسسه شخص له ارتباطات مؤكدة بآلة العهد البائد وقذاراته ثم جاءت «زوبعة» الترفيع في منح النواب لتزيد الوضع قتامة وما حدث يوم أول أمس في التأسيسي بمناسبة عرض مسودة الدستور من شأنه أن يزيد الطين بلة. فنتائج انتخابات 23 أكتوبر 2011 لم يحسن قراءتها لا الحزب الفائز في الانتخابات ولا الخاسرون فيها فقد اعتبرها الاول نوعا من الصك على بياض بالنسبة لدواليب الإدارة والدولة أو بالنسبة لكتابة الدستور بينما فاجأت هذه النتائج الآخرين ومثلت خيبة أمل بالنسبة لهم اذ بينت لهم حجم انتشارهم الحقيقي الذي كان بعيدا جدا عن كل توقعاتهم وتقديراتهم فحبسوا أنفسهم إثرها غالبا في موقع عبثي يتمثل في المعارضة من اجل المعارضة، مما جر البلاد إلى مواضيع هامشية ثانوية جدا على حساب مواضيع أخرى مصيرية مثلت وقودا للثورة كالفقر والبطالة والتهميش والاختلال الجهوي أو تلك المتعلقة بارتفاع تكاليف المعيشة وتفاقم ظواهر سلبية خطيرة كالإرهاب والتهريب والرشوة والفساد. لقد حان الوقت لأن يراجع الطرفان مواقفهما في اتجاه التقارب والوفاق من أجل مصلحة الوطن أولا ومن أجل ترميم صورتهما المهتزة المتآكلة ثانيا.