ما يزال الشيخ سعد عبد الله جاب الله ينتظر الضوء الأخضر لعودته إلى الساحة السياسية الجزائرية عن طريق بوابة العمل السياسي الحزبي، وإلى غاية كتابة هذه الأسطر فمن الصعب الحسم في مستقبل الشيخ جاب الله، وإن كانت كل المؤشرات ترجح فرضية عودة الدفء بين حركتي النهضة والإصلاح الوطني في عملية مصالحة داخلية شاملة، تتوج لاحقا بعودة الشيخ المؤسس بعد أن يستحدث له منصب رئيس للاتحاد المرتقب؟ فضلا عن توقعات أخرى تذهب إلى لجوء الشيخ إلى تأسيس حزب إسلامي جديد، طبعا بعد تأشير السلطات الجزائرية التي تنفرد بقرار منح الأحزاب الجديدة تواريخ للميلاد. أنتلجنسيا الحركة الإسلامية الجزائرية منذ البدء، كانت علامات الاستقلالية والخصوصية الفكرية للشيخ سعد جاب الله بادية للعيان، فعلى الرغم من انتمائه الفكري لحركة الإخوان المسلمين إلا أنه ميز بين الفكرة والتنظيم، حيث أخذ بفكر الإخوان وقطع مع التنظيم؛ إذ يعد فكره رافدًا إخوانيًّا، ولكن بنبرة جزائرية خالصة، على النقيض من غريمه التقليدي الشيخ محفوظ النحناح، أو شيخه حسب ما هو متداول في الأوساط الجزائرية من أن الشيخ سعد هو تلميذ مشاكس للراحل النحناح انشق عن خطه مبكرا، والذي يعد بحق نسخة لجماعة الإخوان المسلمين بالجزائر، فكرا وتنظيما وارتباطا، وستظهر ملامح الوجه الأنتلجانسي للشيخ سعد جاب الله مع حلول التعددية الحزبية والانفراج الديمقراطي بالجزائر نهاية الثمانينيات، إذا اعتبر أن حركته -النهضة- هي امتداد للجماعة الإسلامية التي تأسست في مدينة قسنطينة سنة 1974، فقط كيَّفَ إجراء الإعلان عن حركته على أنه إعلان كاشف وليس إعلان تأسيس أو إنشاء.
لكن أبرز مواقف الرجل كانت عندما بزغ نجم الجبهة الإسلامية للإنقاذ الجارف، والذي كان في نظر العديد من المتابعين يمثل تيارا شعبيا إسلاميا يستمد قوته من الأمواج البشرية الهائلة التي استطاعت الجبهة تعبئتها وتحريكها، وعلى النقيض من ذلك اعتمد الشيخ جاب الله في أطروحة مناقضة لما تطرحه الجبهة، إذ استمات في الدفاع على التعددية داخل الحقل الإسلامي، ورد الشيخ على من ينكرون مسألة التعددية في الإسلام قائلا: "إننا نعتقد أن التعددية السياسية في الإسلام واجب على الأمة، وتتأرجح على الأفراد فليس للأمة ممثلة في الدولة الإسلامية أن تمنع الأفراد من ممارسة المعارضة السياسية بحسب ما يؤمنون...". ثم كانت النقطة المحورية الفاصلة الثانية في فكر الشيخ سعد جاب الله، وهي الاهتمام بالنخبة الأنتلجانسيا، على النقيض من نظرة عدد من قيادات الجبهة إلى النخبة على أنها حفنة يغلب عليها طابع الانتهازية والأنانية. الشيخ جاب الله بعد عقدين من المعمعان الحزبي بعد عقدين من تأسيسه لحركة النهضة 1989 وحزب النهضة 1990، ثم حركة الإصلاح الوطني نهاية 1999، يجد الشيخ جاب الله نفسه في العراء التنظيمي بعد محاولتي الانقلاب الناجحتين المدبرتين ضده ونكاية في مواقفه السياسية المعارضة للسلطة، والغريب في الأمر أن السيناريو نفسه الذي حدث للشيخ في حركة النهضة سنة 1999 قد تكرر في حركة الإصلاح الوطني، ودائما يقوم بالحركة الانقلابية أو التصحيحية بتعبير المنشقين عنه، أقرب رفاق درب الشيخ، فالأول تزعمها الحبيب آدمي الذي يشغل حاليا سفيرا للجزائر في العربية السعودية، والثانية أقدم عليها رفاق محمد جهيد يونسي بزعامة السيد محمد بولحية، والذي بدوره استقال من رئاسة حركة الإصلاح الوطني قبل إجراء الانتخابات الرئاسية ل2009، احتجاجا على إقدام جهيد يونسي على ترشيح نفسه لخوض غمار الانتخابات الرئاسية على عكس ما كان متفقا عليه سلفا؛ إذ اعتبر السيد محمد بولحية أن قرار يونسي بالترشح مخالف لقرار مجلس الشورى الداعي إلى تزكية السيد أحمد بن محمد كمرشح للتيار الإسلامي في انتخابات الرئاسية؟ هذا على مستوى الأداء التنظيمي الحركي والحزبي، أما على مستوى الانتخابات الرئاسية فالشيخ سعد قد آمن بأنه قد يمكنه أن يعتلي سدة الرئاسة، ويدخل قصر المرادية -تسمية القصر الجمهوري بالجزائر- من بوابة الانتخابات الديمقراطية الشفافة كما آمنت من قبل جبهة الإنقاذ!، ولهذا ترشح في مناسبتين: الأولى سنة 1999 قبل أن يقاطع في انسحاب جماعي الانتخابات الرئاسية بعدما تأكد له بأنه لا داعي من تضييع الوقت ما دام أن الرئيس معروف سلف، ثم كرر المغامرة في سنة 2004 واحتل الرتبة الثانية خلف الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، بيد أنه في انتخابات 2009 فضل سلك أسلوب المناورة والترقب حيث لم يعلن عن موقفه إلا قبيل الانتخابات بأسابيع معدودة وكان موقفا صريحا وجريئا قضى بمقاطعته للانتخابات الرئاسية؛ لأن النتيجة محسومة من قبل إجرائها، وقد تناقلت الكواليس الجزائرية وزكى الشيخ خبر إجراء اتصالات بينه وبين أطراف ما في السلطة حاولت إقناعه بالترشح للرئاسيات لكنها حسب تعبيره لم تكن مباشرة ولا جدية! وبعيدا عن الشيخ تحدثت الصحافة الجزائرية عن إغراءات ووعود قطعت للشيخ جاب الله ومنها الموافقة له بتأسيس حزب سياسي جديد إن هو أقدم على ترشيح نفسه، فالرئيس بوتفليقة كان في حاجة ماسة إلى أسماء وازنة تنشط الانتخابات الرئاسية وتضفي عليها نوعا من التنافسية وشيئا من الندية عكس الأسماء المرشحة التي لم تكن من العيار الثقيل؟ لكن سرعان ما وصلت الاتصالات إلى الباب المسدود.. سيناريوهات العودة المرتقبة يجمع المتتبعون للشأن الإسلامي والسياسي الجزائري بأن عودة الشيخ سعد عبد الله جاب الله إلى الحلبة السياسية الجزائرية بشكل رسمي ومباشر لن تخرج عن أحد السيناريوهين: السيناريو الأول: العودة عبر بوابة توحيد كرتي النهضة والإصلاح الوطني. وهو الأقرب إلى الواقع بحكم العديد من المعطيات الموضوعية والذاتية، فعلى الرغم من غياب الصفة التنظيمية للشيخ فإن له تلامذة وأنصارا يشكلون تيارا مناصرا قويا داخل التنظيمين والحركتين معا، وقد تكرس الحنين لعودة الشيخ، بعد النتائج الانتخابية الهزيلة التي حصدها كل من حزبي النهضة أو الإصلاح في الانتخابات البرلمانية لسنة 2007، وبدا للعيان أنه لا مستقبل للحزبين في غياب الشيخ المؤسس، فعلا صوت رأب الصدع ولم الشمل والحنين إلى أيام الشيخ، وزاد هذا الاعتقاد رسوخًا بعد مشاركة حركة الإصلاح الوطني في الانتخابات الرئاسية لأبريل 2009 في شخص أمين عامها السيد محمد جهيد يونسي، والتي أدت إلى تشرذم وانشطار تنظيمي، ولا سيما بعد استقالة رئيسها السيد محمد بولحية احتجاجا على موقف جهيد يونسي كما أشرنا سلفا.. ومن ثم توالت إشارات عودة الشيخ، وقد كثر تردد الشيخ على حركة الإصلاح الوطني، ثم عزز ذلك بقيامه بزيارة لأرجاء التراب الجزائري شملت عددًا من فروع حركة النهضة من أجل حثهم على التوحد ولملمة الصفوف، كما تحدثت تقارير صحفية جزائرية عن حضور الشيخ جاب الله لأطوار الجامعة الصيفية لحركة الإصلاح التي نظمت بولاية الطارف -جنوبالجزائر- بل أكثر من ذلك، يمكن القول بأنه حتى المستوى الخارجي، فما يزال ينظَر للشيخ جاب الله على أنه رئيس حركة الإصلاح الوطني، وقد كرس هذا الطرح عند دعوة السفارة الأمريكية للشيخ، وفي لقاءين من أجل معرفة وجهة نظر الشيخ ضمن سلسلة اللقاءات مع الأحزاب السياسية الجزائرية، وللإشارة فاللقاءان اللذان جمعا الشيخ جاب الله بمارك شابيرو السكرتير الأول للشئون السياسية والاقتصادية بالسفارة الأمريكيةبالجزائر احتضنهما مقر جمعية حركة الإصلاح الوطني. لكن قبيل العودة، تصر القيادات الحالية للحركتين على ضرورة تخلي الشيخ عن كاريزميته الشديدة و"استبداده بالرأي" وقراراته الفردية؛ لذا فالتفكير في منصب مناسب للشيخ تحدد فيه صلاحياته بوضوح، ويضمن توازن القيادة على أسس توافقية جديدة، حتى لا تكرر أخطاء الماضي هو مطلب رئيسي وملح للتوحد والعودة المرتقبة. السيناريو الثاني: العودة عبر بوابة حزب سياسي جديد لم يخف الشيخ عبد الله جاب نيته في تأسيس حزب سياسي، وذلك قبيل الانتخابات الرئاسية لأبريل 2009، ولعل هذا المنحى هو الذي ساعد على إقامة قنوات اتصال بين السلطة والشيخ جاب الله، فقد كان هناك نوع من الاتفاق على أساس أن يترشح هذا الأخير في الانتخابات الرئاسية في مقابل التأشير له بتأسيس حزب سياسي جديد، بيد أن الشيخ وبدهائه السياسي وخبرته الطويلة، تجمعت له قناعة لا تدع مجالا للشك من أن الطرف الرسمي غير جاد في مفاوضاته، وأنه لن يؤشر له على تأسيس حزب سياسي جديد، فقط كان المطلوب المناورة السياسية والوعود المعلقة من أجل استمالته للدخول للمنافسة الانتخابية التي ستكرس الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة كرئيس لولاية ثالثة مهما كانت الظروف والخصوم، ولعل هذا ما حدا بالشيخ إلى قلب الطاولة وإعلانه عدم الترشح للانتخابات الرئاسية، بل ومقاطعته لها. وما يؤكد صحة استقراء الشيخ للواقع السياسي الجزائري، ونية السلطات الجزائرية في عدم السماح بإنشاء أحزاب سياسية جديدة على الأقل في الوقت الراهن، هو ما يحدث من مماطلة لحزب الحرية والعدالة، بقيادة محمد السعيد، الأمين العام السابق لحركة الوفاء والعدل غير المعتمدة والذي شارك بدوره كمستقل في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وعلى الرغم من استيفائه لشروط تأسيس حزب جديد وتقدمه بطلب التأسيس للسلطات المختصة فإن ملفه ما يزال يراوح مكانه، ومنذ أسابيع فقط، أبلغت وزارة الداخلية الجزائرية قيادة حزب الحرية والعدالة بأنها في حاجة لمهلة إضافية للرد على طلب الترخيص بتأسيس الحزب، علما بأن المدة التي يحددها القانون الجزائري في ستين يوما قد انصرمت؟ ومما لا شك فيه، فإن الترقب والانتظار سيبقى سيد الموقف، وستكون الأشهر القادمة حبلى بالأحداث، وسفينة الشيخ سعد عبد الله جاب الله لن تبقى بدون وجهة أو مرفأ تحط فيه، وإن كان الأقرب لها أن ترسو في ميناء حركة النهضة التاريخية بعد لملمة صفي كل من حركتي النهضة والإصلاح الوطني، هذا إذا سارت الأمور كما هو متوقع، وفي منأى عن أي تأثير أو تدخل خارجي، خاصة أن المشهد السياسي الجزائري والإسلامي المشارك في العملية السياسية كالنهضة وحمس والإصلاح الوطني في أمس الحاجة إلى تجديد وإعادة هيكلة بعد حالة التصدع التي أصابته.