يبدو أن مفهوم الإنسانية ومعها قيمة الحياة البشرية قد ضاعت وتلاشت في ضمير المجتمع الدولي الذي يزداد عجزا وفشلا في وقف النزيف الدموي المستمر في عالم متعطش لمزيد الفتن والاقتتال بين أبناء الوطن الواحد بعد أن أعمت بصائرهم وأغوتهم السلطة ولعبة المصالح الحزبية المتناحرة.. بالأمس كانت الذكرى السنوية لليوم العالمي للإنسانية الذي أقرته الأممالمتحدة قبل عشر سنوات بعد تفجير مقرّ الأممالمتحدة في بغداد تكريما لجهود وتضحيات موظفي الإغاثة في خدمة البشرية، ولا شك أن في هذه الذكرى اليوم ما يجب أن يعيد الى الاذهان تلك الحقيقة المؤلمة التي من شأنها أن تعلن سقوط الإنسانية وضياعها في متاهات توحش الانسان وانغماسه في عالم بلا أخلاق أو مبادئ بعد أن جرفته لعبة الكراسي وأغوته حتى كادت ثقافة الموت والاغتيالات وعمليات التصفية الجسدية تتحول الى طريق ثالث للسلطة.. الأخطر اليوم أننا وفي الوقت الذي يتجه فيه غيرنا من شعوب العالم الى البناء والتشييد والعلوم والمعارف والفنون وكل ما يمكن أن يحقق طموحات وآمال الأجيال اليافعة وحدها تعيش شعوب العالم العربي على وقع الخراب والدمار، تنام وتصحو على صور القتلى والدماء تغرق الشوارع والطرقات يوما بعد يوم.. فهل هي الصدفة وحدها التي شاءت اليوم أن يسقط ثمن الحياة البشرية الى أدنى مستوياته في أسواق السياسيين العرب، وأن يصبح الدم أقل قيمة من الماء في المجاري، وأن يعيش العراق على وقع مسلسل الرعب المستمر في بلاد الرافدين منذ أكثر من عقد، وأن يتحول الربيع العربي ومع وصول من كان يعتقد أنهم الأكثر تدينا والأكثر خوفا من غضب الله للسلطة، الى مسرح للصراعات الدموية، فتصبح ليبيا بقدرة قادر سوقا مفتوحة للسلاح ومرتعا للجماعات المسلحة، وتسقط مصر في صراع الجيش و»الاخوان»، ويدفع المئات حياتهم هدرا في حسابات العسكر و»الاخوان».. كل ذلك من اجل السلطة وإغراءاتها التي اسقطت ثوب العقل عن الجميع وكشفت ما خفي من الحسابات والنوايا وأوقعت بقية من أقنعة يتستر خلفها تجار الدين وتجار السلاح.. وهل هي الصدفة التي شاءت أن تتحول مصر إلى مقبرة لأحلام شباب دفع حياته من أجل الخلاص من الظلم والفساد والاستبداد، وأن تسقط معها تونس، مهد الربيع العربي، في فخ الفتنة بعد تكرار جرائم الاغتيال والإرهاب وغياب الحقيقة التي زادت المجتمع انقساما وتشتتا بين علمانيين وإسلاميين وكفار ومتدينين.. والأدهى من كل ذلك أن تغرق سوريا في حرب أهلية مدمرة، فيهاجر الملايين من أبنائها وتستباح مساجدها وكنائسها ونساؤها ومقدساتها، وتغتصب طفولتها، ويموت شبابها في «الجهاد» بلا هدف معلوم، وتُدفع بناتها إلى «جهاد النكاح» بناء على فتاوى أشباه رجال الدين واجتهادات المنافقين؟... ولا يتوقف المشهد الدموي عند هذا الحد، وكأن صور الموت والخراب والدمار تأبى إلا أن تجتمع في الدول العربية والإسلامية، وهي التي وصفت في القرآن الكريم بأنها «أفضل أمة أخرجت للناس»، حيث يجدد لبنان الجريح الموعد مع التفجيرات التي تحصد مزيد الأرواح البريئة، وتنتشر لغة الانتقام والموت.. كل ذلك، طبعا، فيما تتواصل معاناة الفلسطينيين في صمت مقيت، وتستمر عملية اقتلاع الأشجار ومحاصرة الحياة وتشريد الأهالي ومصادرة وهدم المقدسات.. فهل هي الصدفة وحدها التي شاءت اليوم أن تضع الدول العربية في فوهة بركان وتحكم على الأجيال القادمة باليأس والضياع وتؤسس لتحقيق نبوءة الداعين إلى إقامة الشرق الأوسط الجديد؟ طبعا، سيكون من الغباء أن نروّج للمؤامرة التي تحدق بنا وأن نقف لتوجيه أصابع الاتهام لأعدائنا ولأعداء الدين، فما كان لأحد أن يدفع بنا إلى ما نحن فيه لولا دورنا المشترك في المؤامرة الدنيئة التي أفقدتنا إنسانيتنا وجعلتنا أمة دون بقية الأمم موقعا ومكانة وقدرا، ندّعي ما ليس فينا، ونقول ما لا نفعل، ونجاهر بغير ما في نفوسنا، فكنا أعداء أنفسنا قبل أن نكون أعداء لغيرنا، لذلك فقدنا إنسانيتنا بل وأكثر من ذلك...