أثار كتاب الاستاذ محمد الطالبي «ليطمئن قلبي» (دار سراس للنشر 2007)، جملة من الردود ظهرت تباعا بجريدة «الصباح»، ونروم في هذا المقال التوقف عند إشكالية محدّدة موصولة بقراءة النص الديني - نصّ القداسة عموما - والكتاب المقدّس (La Bible) خصوصا، ويمكن أن نحدّد مفاصل تلك الاشكالية على هذا النحو: أ - كيف نقرأ الكتاب المقدّس: هل نقرؤه قراءة حرفية تكتفي بدلالته الاولى المرسومة على أديم الخطاب فلا نغوص في أغواره ولا نتدبره، وبذلك نفقره من تعددية المعنى وزخم الدلالة. ب- هل يقبل الكتاب المقدس آلية التأويل وهوكتاب توحيدي، له خصوصيته العقدية، ذلك أن رهان التأويل شاع عند طائفة من الفلاسفة أمثال غادامار Hans-Georg Gadamer وبول ريكور Paul Ricur وأمبرتو إيكوUmberto Eco ، وقد انتبه هؤلاء إلى أنّ الكتاب المقدّس خضع في مسار تلقيه إلى سلطة المجامع والكنائس، فاستولت هذه المجامع والكنائس على المعنى، وسيّجته، فكان لزاما فتح نصّ القداسة على شتى القراءات والمقاربات حتى يضحى أثرا مفتوحا: يحيا بالقراءة الجادّة والرّصينة فلا يتوقّف عن إنتاج الدلالة. ج- هل أنّ لحظة التأويل عمل حرّ، غير مقيّد أم أنها تحتاج إلى ضوابط وحدود (Des limites) حتى لا يستباح النصّ وحتى لا تداس سلطته، إنّ القراءة الحرّة لاي نصّ قد تحدث به نزيفا دلاليا طالما أنّها لا تتقيّد بضوابط، ولا تحترم خصوصية النصوص العقدية، إنّ بول ريكور راى في هذا الضرب من التأويل تأويلا متوحشا، لا يفاوض النصّ، ولا يحترم عالمه، بل يعصف بقوانين كتابته، وعندها تميل الكفة إلى المؤوّل، الذي يلغي سلطة النصّ (انظر كتابه تأويل الكتاب المقدس L'herméneutique Biblique, Edts cerf 2005 ). I الاستاذ الطالبي والقراءة الحرفية للكتاب المقدّس: لقد استوقفتنا في كتاب الاستاذ الطالبي لحظتان مهمّتان، عرض فيهما إلى قصتين مفصليتين من سفر التكوين ومن الاناجيل، هما قصّة الخطيئة وقصّة العشاء الرباني أو عشاء الفصح (أنظر الصفحتين 82 و105 وما بعدهما من الكتاب) إلا أنّ أستاذنا ذهب سريعا إلى المعنى الاوّل مهملا بذلك الابعاد الدلالية والرّمزية التي يطفح بها الخطاب، وسنسعى إلى مجاوزة هذه القراءة الحرفية إلى ضرب من التأويل، يثري القراءة ويجعلها متعدّدة. أ قصة الخطيئة في الاصحاح الثالث من سفر التكوين: تنطلق مسألة الخطيئة في سفر التكوين من مشهد غواية، فبعد أن كان آدم وحواء رمزي الفطرة الاولى ورمزي الكمال الاوّل حدثت المأساة بالاكل من الشجرة المحرّمة، إذ دبّ النقصان وانتهك الامر الالاهي. فكان العقاب، وكان الطرد من الجنة. إلا أنّ قصة الخطيئة- رغم تنزلها في مقام مقدّس هي كذلك خطاب صيغ في نسيج لغوي وسردي وقد ذهب أحد المفسرين الكبار (l'un des grands exégètes ) للكتاب المقدّس إلى أنّ فهم القصة يتمّ بتأويل فواعلها (ses actants ) كما يقول بذلك علماء السرديات1990 (Paul Beauchamp, L'un et l'autre testament, ). ولعل أهم فاعل (Actant) كان طرفا حيوانيا: حيّة صنعها الرب الالاه، وهي أمكر وحوش البرية (سفر التكوين، الاصحاح الثالث، الاية الاولى) فالحيّة طرف نصيّ، يتصدر عملية السرد ويسهم في الحوار، إذ تتكلم قبل أن يتكلم الانسان، حية ناطقة وتلك هي رمزيتها التي تدفع إلى التأويل والتدبّر: فقالت الحيّة للمرأة: "أحقا أمركما الله ألا تأكلا من جميع شجر الجنة؟" تطرح السؤال الاوّل، المؤسس، سؤال البدايات، ولا تقتنع بظاهر الخطاب وإنما تميل إلى التأويل، وهذا هو مكرها: "بل إنّ الله يعرف أنه حين تأكلان من ثمر الجنة تنفتح أعينكما". لقد جمع كلامها بين البعد الحسي (تأكلان من ثمر الجنة، تنفتح أعينكما) والبعد المجرّد (المعرفة)، ففي فتح الاعين، فتح للبصر وللبصيرة، علم بعد عمى وجهل، فالنظر، نظر جديد إلى القول الالاهي. لقد ذهب بول بوشوم إلى أنّ الحية حية مؤولة (un serpent herméneute) تقرأ الامر الالاهي قراءة مختلفة وجديدة، وهي تزين لادم وحوّاء الاكل الحسي في الظاهر ولكن في العمق تحرّضهما على الرّغبة في الفهم والمعرفة. إنّ الحية في الكتاب المقدّس، رمز متواتر فهي الترياق والبلسم الشافي في سفر العدد الاصحاح 21 يلتفت إليها الملدوغ فيحيا، وأضحت الحية أيقونة (Une Icône) تعلو واجهات الصيدليات. والحية كذلك في سفر الرؤيا من العهد الجديد صنو للشيطان الذي يضلل العالم (الاصحاح 12) إنّ معناها يتغير من مقام نصّي إلى مقام آخر، تبدّل دلالتها كما تبدّل جلدها، والقارئ الحصيف هو من يصغي إلى أصواتها المتكثرة فلا يتوقف عند صوت واحد ولا يقوم بإلجام الخطاب. ب العشاء الرّباني في الاناجيل: إنّ العشاء الرّباني في تقديرنا- لا يمثل مأدبة فاخرة: كما ذهب إلى ذلك الاستاذ الطالبي (ص 82 من كتابه)، فهو يتنزل في مناسبة دينية قديمة: عيد الفصح، وبذلك يكون ترديدا طقوسيا لتلك المناسبة الموغلة في القدم، والعشاء الرباني هوالاطار الزماني والمكاني الذي سيلتقي فيه المسيح بخاصته وحوارييه، على أنّ سكب العطر على يسوع لم يكن أثناء تلك المأدبة الفاخرة على حد عبارة أستاذنا، وإنما كان سابقا عليها: لم يرتبط حدث سكب العطر بإمرأة من المدينة كانت تمارس البغاء، إذ نجد في إنجيل مرقس ما يلي: " وفيما كان يسوع في بيت عنيا متكئا في بيت سمعان الابرص، جاءت امرأة تحمل قارورة عطر من الناردين الخالص، الغالي الثمن، فكسرت القارورة وسكبت العطر على رأسه " انجيل مرقس الاصحاح 14 الآية 3. إنّ سكب العطر، لا يعني قدحا للشهوة، وهي قراءة ذهب إليها الفيلسوف نيتشه، لانّ منطوق النصّ لا يؤيد ذلك، يقول المسيح في نفس الاصحاح: "فقد سبقت فعطرت جسدي إعدادا للدّفن" الاية 18. إنه استباق لحدث الموت والغياب، فكأن المسيح كان يقرأ نهايته ويستشرفها قبل أن تقع وهو بذلك يهيء حوارييه والقارئ كذلك لهذه النهاية. كما أنّ الاكل الذي حمله الاستاذ الطالبي على معناه الحرفي، يمتلك هو الاخر عمقا رمزيا: فالاكل في العشاء الرباني، التهام لاقوال المسيح ولوصاياه: "وبينما كانوا يأكلون، أخذ يسوع رغيفا وبارك وكسّر، وأعطاهم قائلا: خذوا هذا هو جسدي" (إنجيل مرقس الاصحاح 14، الاية 22). إن خاصة المسيح وتلامذته، هم أكلة المعنى، يلتهمون أقاويله، حتى يحققوا امتلاءهم، بهذا الامتلاء الروحي الذي يسري في كيانهم وشرايينهم يتخطون كل جدب وقحط وجوع روحي، إنّ العشاء الرباني يذكرنا بأكل المن والسلوى وبسفر حزقيال من العهد القديم: "والان يا ابن آدم، اصغ لما أخاطبك به... افتح فمك وكل ما أطعمك، فنظرت وإذا بيد ممتدة إليّ، وفيها درج كتاب... ففتحت فمي فأطعمني هذا الدرج... فالتهمته فكان في فمي في حلاوة العسل" (سفر حزقيال، الايات8، 9 و10). فالاكل لا يعني الانخراط في وليمة فاخرة، وإنما هو الظفر بطعام روحيّ يؤسس لكيان ذات مؤمنة قبل أن يؤسس لجماعة ولتاريخ. إنّ الذي يسوّغ التأويل في الكتاب المقدّس اعتماد المسيح في خطابه على الامثال أوعلى الحكاية الرّمزية L'allégorie فكل شىء يقدّم لهم بالامثال" إنجيل مرقس الاصحاح الرابع، الاية 11. والحكاية الرّمزية التي توسّل بها المسيح، جنس من الكلام يحمل معنى صريحا ومباشرا، هو المعنى الوضعي الاوّل، إلا أنّ هذا المستوى الاوّل من الدلالة يخفي مستوى ثانيا هو مستوى المعنى الرّمزي أو الرّوحي وبين المعنى الحرفي والمعنى الروحي حجاب على القارئ هتكه، فالدلالة الرّمزية تجيء مطمورة وجاثية في تلاوين الخطاب الانجيلي، وعلى القارئ تلقي مهمّة واحدة: الغوص على تلك الدلالة الهاجعة في الاعماق، في ضرب من التعامل الخلاق مع النصوص له ضوابطه وحدوده كما اسلفنا، إذ لا تطغى سلطة المؤول على سلطة النصّ، إن المغالاة في التأويل، تنتهك النصوص، وتعصف بها، فتتلف عالمها ولا تحترم طبيعتها المقدّسة. فهل يحتاج النص الديني إلى تأويل حرّ منفلت أم أنّه يستفيد من كل العلوم المساعدة ومن جميع المعارف (البنيوية، الانتروبولوجيا، تاريخ الاديان، علوم الرّمز) دون أن يضيع هويّته فيستلب أو يستباح؟ ثم كيف نصون النصّ الديني من الاكراهين: - الفهم الاحادي الرافض للمتعدد والمذعور من رهان التأويل. - نزيف المعنى أوتشظي الدّلالة وضياعها، على خلفية تصنّع الموضوعية العلمية في دراسة الظاهرة الدينية. (*) جامعي من كلية العلوم الانسانية والاجتماعية تونس