غدا يعود الآلاف من أبنائنا التلاميذ والطلبة الى مدارسهم ومعاهدهم وجامعاتهم ليكونوا جميعا على طريق العلم والمعارف والفكر، السبيل الوحيد الذي سيكفل لتونس طريقها حاضرا ومستقبلا للخلاص من التخلف والسلاح الوحيد الذي سيضمن لشعبها محاربة كل أصناف الفقر والجهل والأمية والتطرف والكبت.. الواقع أننا بقدر ما نتطلع اليوم الى عودة أبنائنا الى مقاعد الدراسة لرفع راية العلم عاليا وإعداد الأجيال الصاعدة للارتقاء بهذا البلد الى صفوف الدول المتقدمة بقدر ما بتنا نخشى على هذا الجيل من مخاطر وانزلاقات المرحلة الانتقالية الراهنة وما يحيط بها من غموض وتراجع للآمال والأحلام التي ارتبطت بتحقيق شعارات الثورة في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. نقول هذا الكلام بالاستناد الى جملة من الحقائق القاتمة وفي مقدمتها التقريرالمرعب لوزارة التربية بشأن الانقطاع المبكر لأكثر من مائة ألف تلميذ عن الدراسة خلال السنة الماضية وهو ما اعتبر فضيحة وضربة قاسية لبلد كان ولا يزال يراهن على الاستثمار في مقدّراته البشرية لتحقيق النهضة الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والعلمية التي يصبو إليها.. ولعل في الدوافع والأسباب التي أدّت الى نفور هذا الرقم المذهل من أبنائنا التلاميذ عن مقاعد الدراسة وأولها الفقر والخصاصة، إضافة الى استشراء الإحباط واليأس في النفوس وتفاقم البطالة وغير ذلك من الأسباب، التي دفعت اليوم بالعديد من هؤلاء إما إلى المغامرة بأنفسهم واللهث وراء تجار البشر والهجرة غير المشروعة بحثا عن فرصة للحياة في الغرب، أو بالسقوط ضحية للجماعات المتطرفة التي لم تتوانَ عن استغلال هؤلاء، والمتاجرة بالدين لدفعهم الى الهلاك في الجهاد المزعوم في سوريا. ولعل الأخطر من كل ذلك ما سجله التقرير الرسمي عن عزوف الكثير من العائلات عن إرسال بناتهم الى المدارس، نتيجة التأثر بالخطب التحريضية التي تحث على الفصل بين الذكور والإناث في المدارس، بما يؤشر إلى تغيير خطير في العقلية التونسية، ولا سيما في الأوساط المحرومة إزاء أحد أهم المكاسب في تونس التي تميزت -وحتى قبل الاستقلال- عن مختلف دول العالم الثالث بإصرار لا مثيل له لدى عموم التونسيين على قدسية التعليم في مختلف العائلات التونسية، في الأرياف كما في المدن، فلم تبخل على أبنائها بالغالي والنفيس من أجل التعلم وذلك مهما كانت المسافة الفاصلة بين المسكن والمؤسسة التربوية. لسنا نبالغ اليوم اذا اعتبرنا أن تونس على مفترق طرق في ظل الإصرار على خنق الحريات والحرب على الإعلام والإعلاميين، كما في ظل الخيبات المتتالية والرهانات الخاسرة في المؤسسات التربوية والاقتصادية، والفشل المسجل بين مختلف الفرقاء للخروج من أخطر أزمة سياسية تهدّد البلاد حتى الآن وتكشف للتونسيين يوما بعد يوم إفلاس وعجز وأطماع النخبة السياسية، التي غلبت المصالح الحزبية الضيقة على المصلحة الوطنية العليا.. لا تجهضوا أملنا في الحياة، ولا تدفعوا بهذه الأجيال إلى براثن الجهل والتخلف، ولا يغرّنكم المديح الخادع، ستظل رسالتنا حتى يعود الوعي المفقود لمن أغرتهم السلطة اللعينة، وحجبت عنهم النظرالى الواقع للكف عن الاستهزاء بصبر التونسيين واحتمالهم للمهازل المتكررة، والامتناع عن مزيد إهدار الوقت وإضاعة الفرص لإنقاذ البلاد من مخاطر الفتن والانقسامات والسقوط في التردّي...