بقلم عبد الرزاق قيراط، تنشغل آلاف الأسر التونسيّة هذا الأسبوع بامتحانات أبنائها في المدارس و المعاهد. و ليس خفيا اليوم ما تشهده سوق الدروس الخصوصيّة من رواج بعضه يخضع للأطر القانونيّة و لكنّ أغلبه يقترب أكثر من مضاربات هي أشبه بالعمليّات التجاريّة القذرة. إنّ هذا الملفّ و إن فتح في مناسبات سابقة فإنّه ظلّ بدون حلول جذريّة ما أدّى إلى استفحال ظاهرة لا تليق بالعلاقة التربويّة بين مختلف أطرافها و هم المدرّس و التلميذ و الوليّ و الإدارة. يمكن الحديث كالعادة عن ضرورة التقنين الجيّد لتلك الدروس و عن الحاجة إلى الحدّ منها، وعن الرغبة في التعويل على وعي المربّي حينا و الوليّ حينا آخر، و لكنّ كلّ ذلك لا يتناول الجزء الأخطر و المسكوت عنه من تلك الظاهرة التي هي أشبه بالرشوة غير المباشرة التي باتت تتحكّم في العلاقة بين المدرّس و التلميذ و الوليّ، إذ وُضع الجميع في علاقة مشبوهة قوامها مقايضة العدد الجيّد و النجاح في الامتحان بما يدفعه الوليّ لشراء الاختبارات إمّا بشكل مقنّع من خلال تلقّي الدروس الخصوصية لدى نفس المدرّس الذي ينتمي التلميذ إليه في القسم و هذا الأمر ممنوع قانونا و لكنّه الأكثر شيوعا ممارسة، و إما بشكل مفضوح أي بيع الامتحانات مباشرة بإنجازها مع الأستاذ قبل موعدها خارج القسم، و هي ممارسة خطيرة غذّتها عوامل كثيرة منها الجشع لدى بعض المدرّسين الذين باعوا ضمائرهم في سبيل الربح المادّيّ، و الجشع لدى بعض الأولياء الذين باعوا ضمائرهم أيضا و قبلوا بتلك المقايضة و ذلك المنطق لضمان نجاح أبنائهم و أيّ نجاح. إنّ تلك الممارسات تعبّر عن داء عضال ينخر المدرسة و تعكس سقوطا أخلاقيا مؤسفا في وسط تربويّ. و لا تتخيّلوا أنّ الأمر يهمّ المدرّس فقط، فهذه المافيا تضمّ بعض الإداريين الذين خيروا السكوت مقابل أن يصلهم نصيب من تلك الأموال الملوّثة. و حتّى لا نعمّم، نؤكّد أنّ الكثير من المدرّسين ينأون بأنفسهم عن مثل ذلك الانهيار الأخلاقيّ و لكنّ آخرين لا يُنكر وجودهم أحد تحوّلوا إلى مصّاصي دماء و مجرمين حقيقيّين لأنّهم يعاقبون التلميذ الذي يرفض الدرس خارج إطار المدرسة بالأعداد الرديئة بل و يحرمونه من الفهم الجيّد في القسم طالبين منه بوقاحة أن ينضمّ إلى مجموعات الدروس الخصوصيّة إن أراد الفهم و النجاح. و لقد انتشر هذا الفساد الصغير في كلّ مراحل تعليمنا و لم يسلم منه حتّى الأطفال الصغار في الأقسام الدنيا، أمّا في الأقسام النهائيّة فالحسابات مغايرة لأنّ الأمر يتعلّق بامتحانات و مناظرات وطنيّة. و أصبح نيل شهادة الباكالوريا تجارة معلومة تتصل باحتساب نسبة الخمس و عشرين بالمائة من نتائج التلميذ السنوية في معدّل المناظرة، و لذلك ثمنه الذي يدفعه الوليّ مكرها أو راضيا. و الأولياء الذين قبلوا الدخول في هذه اللعبة القذرة خوفا على مستقبل أبنائهم إنّما يرتكبون خطأ فادحا و يشاركون في الجريمة بتشجيعهم لمثل تلك الخطايا و سكوتهم عن تلك التجاوزات. و من النتائج المعلومة لذلك الانحراف، أنّ الأولياء الميسورين و حتّى الأقلّ ثراء هربوا بأبنائهم إلى المدارس الخاصّة و قبلوا بأن يكون تعليم أبنائهم بمقابل ماديّ مع ضمان الجودة و الشفافيّة، معتبرين أنّ ذلك أسلم و أفضل من الابتزاز الذي تشهده المدارس العموميّة، و لعلّ التكاليف تكون أقلّ بكثير. إنّ ما يحدث منذ سنوات في مدارسنا العموميّة خطير جدا، و نتائجه كانت مدمّرة لكلّ شيء، و لم يكن ذلك أمرا مهمّا لأصحاب القرار السابقين لأنّ ذلك لا يعنيهم من قريب، فأبناؤهم يدرسون في مدارس أجنبيّة موجودة ببلادنا، و هم يعلمون جيدا ما تتمتع به تلك المدارس من إمكانات و برامج، و لكنّهم لم يفكّروا يوما في الاستفادة منها لصالح مدرستنا الوطنيّة و لفائدة تلاميذ الشعب بل تركوا ذلك حكرا على أبنائهم و على أبناء النخبة الميسورة من التونسيين الذين يدرسون في ظروف جيّدة فينجحون بامتياز و يكملون دراستهم في أفضل الجامعات بالدول المتقدّمة و يعودون إلى وطنهم ليمارسوا السلطة التي ورثوها عن آبائهمَ! إنّه ملفّ صغير من ملفّات الفساد الأخرى التي تنتظر دراسة و حلولا جذريّة في وزارة التربية و التكوين. و لذلك نحتاج إلى لجان تتوفّر فيها التجربة و الشجاعة لطرح الأسئلة الحقيقيّة حتّى نصلح الأوضاع المزرية التي تعصف بالتعليم العموميّ من أجل تكوين سليم لأجيال المستقبل وحتّى لا نضحك بعد اليوم من قول الشاعر المصريّ: قف للمعلّم و وفّه التبجيلَ.. كاد المعلّم أن يكون رسولا.