تمت الإطاحة بالشرعية يوم وصف البعض بعضهم الآخر بكونهم صفر فاصل... نور الدين عاشور - تونس - الصباح الأسبوعي: تُرى هل المواطن التونسي العادي مهتمّ بدرجة كبيرة بالشرعيّة حتى يؤرخ لها ويحسب عليها أنفاسها طيلة سنتين؟ وبمعنى آخرهل مازالت تشكل حدثا بالنسبة إليه أم مجرّد جزئية في مشهد كامل لحياة عامة تداخلت فيها المفاهيم والأسماء والمسمّيات وتفاعلت فيها الأزمات بما أنتج شكلا هرميّا لمعاناة التونسيّين يضع غالبيّتهم ضمن قاعدة واسعة وعريضة تئنّ وكلما ارتفعنا قلت المعاناة لتكاد تصبحُ منعدمة في قمّة الهرم؟ لا مفرّ من الاهتمام بالشرعيّة لأنها هي التي نعيش في سياقها إجماليا، أما الحديث عن العيش في صلبها أو هامشها فهو مسألة أخرى وبالتالي لا يعني السياق بالضرورة صلب الشىء أو جوهره وإنما يجسّد واقعا افتراضيّا قد نظلمه في حالة وصفه بالحقيقي في مقابل واقع افتراضي أصبح من المفارقات حقيقيّا. عن أية شرعيّة سنتحدث إن لم تكن تلك التي أفرزتها صناديق الانتخابات يوم 23 أكتوبر2011 والتي ما زالت تصبغ الحياة السياسية والحياة اليومية للتونسيّين؟ إنها الشرعيّة التي أسالت الكثير من الحبر وأثارت الجدل والنقاش طيلة عامين والتي ترنّحت قبل عام بدعوى انتهاء مدّة صلوحيّتها استنادا إلى قولة مفادها أن الفترة الانتقالية ستكون سنة واحدة يتمّ فيها كل شيء؛ قولة لا نجدُ أثرا قانونيّا لوجودها رغم وثيقة المسارالانتقالي بما يشكل وثيقة وحجّة دامغة للجميع. لكنّ الاقتصار عن شرعيّة أفرزتها صناديق الاقتراع فيه الكثير من الظلم لأنّ إهمال ما اصطلح عليه بالشرعيّة الشعبيّة يعني في نهاية الأمر توصيفا لواقع أعرج وتغطية لجانب من الحقيقة إذ اكتسح هذا المفهوم الحياة العامة بل أصبح مكوّنا من استراتيجيّة المعارضة في مواجهة ''ترويكا'' تعلل بقاءها بالشرعيّة الانتخابيّة. وإذا كانت الشرعيّة الانتخابيّة تجد في نوّاب المجلس التأسيسي شهادة ميلادها فإنها في المقابل تلوّح لها الشرعيّة الشعبيّة أو بعبارة أخرى شرعيّة الشارع بشهادة وفاتها؛ فيما أن الشارع هو الآخر لم يعدْ مُوحّدا مثلما كان يوم 14 جانفي 2011 بل انقسم هو الآخر وأصبح أداة تقسيم بعد أن كان أداة تجميع، حيث أصبح هناك شارع للنهضة وحليفيْها في "الترويكا" وآخر للمعارضة. وسط عواصف الشرعيّات كان هناك شعب ينتظر الهدوء وساعة الفرج؛ شعب مصاب بحالة يأس وكسل ذهنيّ وفكريّ بعد عاميْن من الأزمات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعية والفوضى والإرهاب وغيرها ممّا أنبتته هذه التربة من ظواهر وبدع قلما تصوّر المجتمع أن يواجهها يوما ما. لقد أخطأ منتسبُو الشرعيّة الانتخابيّة حينما جعلوا من ربح الوقت وسيلة لإطالة بقائهم في الحكم إلى حين تنظيم انتخابات تليق بشعبيتهم لكي يواصلوا حكم البلاد لسنوات أخرى. وهنا يمكن الحديث عن حماقات لأن "الترويكا" رأت خلاصها في استمراريّتها، بمعنى إضفاء شكل هندسيّ معيّن على الساحة السياسيّة وعلى دواليب الدولة ومفاصلها بما يضمن لها كسب الانتخابات المقبلة ليصبح المشهدُ أقرب إلى محاصرة الحياة السياسيّة وفك الارتباط بين هذه السّاحة والشارع. وقد نجحت بالفعل حيث فقد «اعتصام الرحيل» بريقه وتمّ في الأثناء ما يشبه خلط الأوراق في "الحوارالوطني". ومن الصّعب تفهّم بعض السياسيّين وهم يلمّحون إلى احتمال محاسبة النخبة الحاكمة وإلى السّجن بما يشكل خيانة للرعيّة في حدّ ذاتها وهي «الشرعيّة» التي تستند عليها "الترويكا"؛ وهذه حماقة أخرى لأنّ مجرّد التخوّف أو الخوف من المحاسبة والسّجن يعني في واقع الأمر أن هذه الشرعيّة التي يتمسّكون بها افتراضية وتضرب بالقوانين عرض الحائط بل وأكثر من ذلك تجرّد الدّولة من هيبتها، وهي الدولة التي يعيش في ظلها جميع التونسيّين. ومن المفارقات أن هذه "الشرعيّة" وهي المنبثقة عن الشعب لم تحقق لهذا الأخيرأيّا من المطالب الشعبيّة مثل استرجاع الأموال المنهوبة ومحاسبة رموز الفساد؛ إضافة إلى القضاء على البطالة وتحسين الظروف المعيشيّة في المناطق الداخلية. لذلك تبدو هذه الشرعيّة أقرب إلى الافتراضي لأن دورها لم يتعدّ الديكور لتمكن الحكومة من ممارسة نشاطها وكذلك تكفل للمجلس التأسيسي أساس مواصلة أنشطته وخصوصا في صياغة الدستور. ولعلنا نجد في رفض "الترويكا" استقالة الحكومة الحالية محاولة لإطالة عمر''الشرعية'' بتعلة أن الشرعيّة الانتخابية لا يمكن وضع حدّ لها إلا بشرعيّة انتخابيّة أخرى؛ وهذا أصحُّ مقولة تُطلق خلال عاميْن عن الشرعيّة، أما فيما عدا ذلك فقد بدأت الشرعيّة وكأنّها تلك الرّياح التي تدير طواحين الشيء المعتاد بلا جديدٍ لتضيّق آفاق الأمل في إصلاح الأحوال. ومن الحماقة أيضا أن يتمّ تحشيد الجماهير في سهرات رمضانية في اعتصام مفتوح عطل مصالح الناس وأضاع وقتا كان من الأفضل لو استغل في أمور تهمّ معاناة الشعب الذي خرج يوما الناخبُون من صلبه بالآلاف أمام مراكز الاقتراع ليمنحُوا ثقتهم لنوّاب لهم، وليس نوّابا عنهم؛ والفرق واضح بين العبارتيْن! وحتى لا ننسى، لقد تمّت الإطاحة ب"الشرعيّة" يوم وصف البعض بعضهم الآخر بكونهم «صفر فاصل» لأن مجرّد الحديث بهذه الصّورة التي تركت أثرا سيّئًا في النفوس فيه عنجهيّة وتكبّر، فالشرعيّة تفترض التجميع وليس التفريق. وكان في الإمكان تحصين الشرعيّة بالشراكة والتوافق وغيرهما من الوسائل الحضاريّة الأخرى؛ أما بعد بروز رغبة جامحة في ممارسة الحكم في مقابل رغبة جامحة في عرقلة الحكم فلن نجد سوى حماقات هنا وهناك، حتى وإن كانت باسم شرعيّة ما. .. فكم حماقات ارتُكبت باسمك، أيتها الشرعيّة!