هام: مرض خطير يصيب القطط...ما يجب معرفته للحفاظ على صحة صغار القطط    عفاف الهمامي: كبار السن الذين يحافظون بانتظام على التعلمات يكتسبون قدرات ادراكية على المدى الطويل تقيهم من أمراض الخرف والزهايمر    تحذير من تسونامي في اليابان بعد زلزال بقوة 6.7 درجة    النواب يناقشو مهمة رئاسة الحكومة: مشاريع معطّلة، إصلاح إداري، ومكافحة الفساد    عاجل-أمريكا: رفض منح ال Visaللأشخاص الذين يعانون من هذه الأمراض    الجزائر.. الجيش يحذر من "مخططات خبيثة" تستهدف أمن واستقرار البلاد    شوف وين تتفرّج: الدربي ومواجهات الجولة 14 اليوم    التشكيلات المحتملة للدربي المنتظر اليوم    تعرفش شكون أكثر لاعب سجل حضوره في دربي الترجي والإفريقي؟    سحب وأمطار بالشمال وانخفاض طفيف في الحرارة    طقس اليوم: أمطار غزيرة ببعض المناطق مع تساقط البرد    اختتام الدورة الثالثة للمهرجان الوطني للمسرح التونسي "مواسم الإبداع": مسرحية "الهاربات" لوفاء الطبوبي تُتوّج بجائزة أفضل عمل متكامل    الأربعاء المقبل / إطلاق تحدّي " تحدّ ذكاءك الاصطناعي" بالمدرسة العليا للتجارة    احتفاءً بالعيد الوطني للشجرة: حملة وطنية للتشجير وبرمجة غراسة 8 ملايين شتلة    المسرح الوطني يحصد أغلب جوائز المهرجان الوطني للمسرح التونسي    الشرع في واشنطن.. أول زيارة لرئيس سوري منذ 1946    مالي: اختطاف 3 مصريين .. ومطلوب فدية 5 ملايين دولار    تشيلسي يصعد لوصافة الدوري الإنجليزي بالفوز على وولفرهامبتون    الأحد: أمطار رعدية والحرارة في انخفاض    زيادة في ميزانية رئاسة الحكومة    وزارة الصحة: 1638 فحص أسنان: 731 حالة تحتاج متابعة و123 تلميذ تعالجوا فورياً    رأس جدير: إحباط تهريب عملة أجنبية بقيمة تفوق 3 ملايين دينار    منخفض جوي وحالة عدم استقرار بهذه المناطق    منتدى تونس لتطوير الطب الصيني الإفريقي يومي 21 و22 نوفمبر 2025    إعداد منير الزوابي .. غيابات بالجملة والبدائل جاهزة    الجولة 12 لبطولة النخب لكرة اليد :سبورتينغ المكنين وجمعية الحمامات ابرز مستفيدين    تونس تحتضن ندوة دولية حول التغيرات المناخية والانتقال الطاقي في أكتوبر 2026    الدورة 44 لمعرض الشارقة الدولي للكتاب: 10أجنحة تمثل قطاع النشر التونسي    من كلمات الجليدي العويني وألحان منير الغضاب: «خطوات» فيديو كليب جديد للمطربة عفيفة العويني    أولا وأخيرا .. قصة الهدهد والبقر    عماد الأمن الغذائي والمنظومة الإنتاجية .. الدعم لإنعاش الفلاّح وإنقاذ الفلاحة    دعوة الى رؤية بيئية جديدة    رئيس الجمهورية يكلّف المهندس علي بن حمودة بتشكيل فريق لإيجاد حلول عاجلة في قابس    تقرير البنك المركزي: تطور القروض البنكية بنسق اقل من نمو النشاط الاقتصادي    ألعاب التضامن الإسلامي – الرياض 2025: فضية لجميلة بولكباش في سباق 800 متر سباحة حرة    ربع التوانسة بعد الأربعين مهدّدين بتآكل غضروف الركبة!    منوبة: الكشف عن مسلخ عشوائي بالمرناقية وحجز أكثر من 650 كلغ من الدجاج المذبوح    تونس - الصين: 39 طالبا وطالبة يحصلون على "منحة السفير" في معهد كونفوشيوس بجامعة قرطاج    الرابطة الثانية – الجولة 8 (الدفعة الثانية): النتائج والترتيب    هذه نسبة التضخم المتوقع بلوغها لكامل سنة 2026..    شنيا حكاية فاتورة معجنات في إزمير الي سومها تجاوز ال7 آلاف ليرة؟    حريق في مستودع للعطور بتركيا يخلف 6 قتلى و5 مصابين    البنك المركزي: نشاط القطاع المصرفي يتركز على البنوك المقيمة    عاجل: من مساء السبت والى الأحد أمطار رعدية غزيرة ورياح تتجاوز 90 كلم/س بهذه المناطق    الدورة الاولى لمهرجان بذرتنا يومي 22 و23 نوفمبر بالمدرسة الوطنية للمهندسين بصفاقس    العلم يكشف سر في المقرونة : قداش لازمك تحط ملح ؟    عاجل/ محاولة اغتيال سفيرة إسرائيل بالمكسيك: ايران ترد على اتهامها..    هام/ الهيئة الوطنيّة للوقاية من التعذيب تنتدب..#خبر_عاجل    بسمة الهمامي: "عاملات النظافة ينظفن منازل بعض النواب... وعيب اللي قاعد يصير"    بايدن يوجه انتقادا حادا لترامب وحاشيته: "لا ملوك في الديمقراطية"    جلسة عمل بوزارة الصحة لتقييم مدى تقدم الخطة الوطنية لمقاومة البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية    أمطار بهذه المناطق خلال الليلة المقبلة    تونس: ارتفاع ميزانية وزارة الثقافة...علاش؟    تعرف قدّاش عندنا من مكتبة عمومية في تونس؟    من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظّه من الخير    خطبة الجمعة ... مكانة الشجرة في الإسلام الشجرة الطيبة... كالكلمة الطيبة    مصر.. فتوى بعد اعتداء فرد أمن سعودي على معتمر مصري في المسجد الحرام    عاجل: حدث نادر فالسماء القمر يلتقي بزحل ونبتون قدام عينيك..هذا الموعد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رضا بن سلامة في شهادته حول ملابسات أحداث الخبز: عندما قال بورقيبة لادريس قيقة.. "لا أحد قادر على ليّ ذراع بورڤيبة"
نشر في الصباح نيوز يوم 20 - 04 - 2021

عاد الباحث والإعلامي رضا بن سلامة – بحكم عمله سابقا كمكلف بمهمة بديوان الوزير الأول محمد مزالي- في شهادة تاريخية قدّمها يوم السبت 17 أفريل الجاري بمنتدى الذاكرة الوطنية، إلى ظروف ومُلابسات تطوّر الأوضاع التي أدّت إلى اضطرابات ما يعرف ب"أحداث الخبز" في تلك الفترة.
وحاول بن سلامة في مداخلة حملت عنوان:"أحداث جانفي 1984 المنطلقات والملابسات والتداعيات"، تبيان كيف أن وسيلة بورقيبة وبعض معاونيها كانت تخطط بمعية "زمرتها"، الذين كانوا يترصدون الفُرص لإزاحة مزالي انتقاما لِرفضه الخضوع لإرادة زوجة الرئيس كما كانت تتَوَهَّم إبّان تعيينه.
كما بيّن كيف أن "الماجدة" عملت على إفشال عملية إصلاح منظومة الدعم التي شرعت فيها حكومة مزالي وفق خطة مدروسة تمتد على خمس سنوات، وحاولت بشتى الطرق إقناع بورقيبة بمضاعفة أسعار المواد الأساسية المدعمة بعد أن عملت على ايهامه عن طريق توظيف الإعلام (التلفزة الوطنية) بأن كميات كبيرة من الخبز المدعم يتم رميها بالمزابل وبعضها يتم تقديمه كعلف للدواب.
شهادة الباحث يمكن أن قراءتها لا فقط في سياق تاريخي لكشف حقائق حدث مفصلي هام في تاريخ تونس، لكن أيضا في سياق مقارنة ضمنية لما وقع في تلك الفترة من دسائس ومكائد في قصر قرطاج تكالبا على السلطة، مع أحداث أخرى مشابهة مرت بها البلاد في حقبات مختلفة سواء خلال فترة النظام السابق، أو خلال فترة ما بعد 2011، وهي صراعات سياسية بالأساس ساهمت بشكل كبير في إعاقة التنمية وعطلت عملية الإصلاح الاقتصادي والرقي الاجتماعي، وشغلت السياسيين عن التفرغ لإدارة شؤون الدولة وتطوير المرفق العام والخدمات العامة..
كان الإطار العام السياسي والاقتصادي في تلك الفترة التي تعيشها البلاد مشابها لما تمر به تونس اليوم، فقد سبقت أحداث الخبز إجراءات وقرارات سعت إلى تهدئة الأجواء السياسية المشوبة بالتوتر في الداخل ( أزمة اقتصادية، تداعيات انتخابات 1981) وفي علاقة مع دول الجوار (ليبيا، الجزائر..)، واستعداد حكومة مزالي للمصادقة على المُخطّط السادس للتنمية 1982-1986. وكان من بين الاهتمامات مسألة الصندوق العام للتعويض، الذي تمّ إحداثه بِمقتضى القانون عدد 26 بتاريخ 29 ماي 1970.. وقد بلغ عجز الصندوق في تلك الفترة 132 مليون دينار، وفق ما بينه بن سلامة في مداخلته نقلا عن خطاب الوزير الأول لميزانية الدّولة والميزان الاقتصادي والاجتماعي، في 18 نوفمبر 1980 أمام البرلمان.
استهل بن سلامة شهادته بالإشارة إلى حادثة غريبة حصلت في تلك الفترة عكست تضارب المواقف بين أعضاء الحكومة بعد أن كشف منصور معلى وزير التخطيط والماليّة آنذاك، في أفريل 1983، في برنامج تلفري مباشر عن نِية الحكومة "التراجع عن مجانية التعليم ومُراجعة صندوق الدعم الذي بات سببا في اختلال الموازنة". فاضطرّ مزالي إلى التدخّل عبر الهاتف ليؤكد أنّ "مجانية التعليم مكسب لتونس المستقلّة ولا يُمكن وضعه موضع الأخذ والرد، وأنّ الحكومة لم تتّخذ إلى يومنا هذا أيّ قرار في خصوص الخبز ومشتقّاته".
ووفق بن سلامة استغل هذه الواقعة من وصفهم ب"الفصيل" الذي كان يترصّد الفُرص لإزاحة مزالي لِرفضه الخضوع لإرادة زوجة الرئيس بورڤيبة كما كانت تتَوَهَّم إبّان تعيينه.
مؤامرة محبكة الخيوط
وسرد صاحب الشهادة أطوار ما أسماه ب"حبك مُسلْسل مُريب"، وتوظيف حلقاته في سياق معلوم بِإنتاج وبثِّ تحقيق تلفزي، يَصِحُّ عَنوَنَته "كلمة حق يُراد بها باطل". حين أمرت وسيلة مدير عام الإذاعة والتلفزة في تلك الفترة المنصف بن محمود ليُكلِّف فريقا تلفزيا بِإنجاز تحقيق مُصوّر لِبعض الأماكن التي توجد فيها أكْوَام من الخبز مُلقاة على الطريق. ثم اتصل بن محمود هاتفيا بالوزير الأول لِيُبْلِغه بأنّه أعدّ برنامجا لِترشيد المواطنين حتى يكفّوا من تبذير الخبز. فصدَّقَ مزالي هذا القول واعتبر أنّه من دور الإعلام توعية المواطنين. إلا أن وسيلة لم تكْتف بِدَفْع مدير عام الإذاعة والتلفزة للقيام بهذا التحقيق، بل حدّدت له بِالتدقيق ساعة بثّ البرنامج في الوقت الذي يكون الرئيس بورڤيبة على استعداد ذِهني لِمُتابعة البرنامج حتى يردّ الفعل كما يُنتظر منه.
وتابع بن سلامة قائلا:" لم يَدُر في خلَدِ محمد مزالي آنذاك أنّ هذا التحقيق التلفزي ليس بريئا كما يبدو، بل سيكون نُقطة الانطلاق لِمكيدة مُدَبَّرَة تهدف إلى الدَّفْعُ بالرئيس بورڤيبة إلى الانزعاج واعتبار اضْطِرَارِية مُعالجة المسألة عاجلا، وهو ما حدث فعلا.
واستشهد بلقاء له مع المرحوم المنصف بن محمود بعد بثّ الحصّة التلفزية، قال:"عندما استفسرته حول هذا الموضوع همس لي بِتَلَعْثَمَ وهو ينظر يَمْنَةً ويَسْرَة أنّها "فِكرة الماجدة". كما أنّ الوزير الأوّل ذكر في كتابه ما صرّح به له محمود بلحسين الذي كان يقرأ لبورڤيبة الجرائد الفرنسية، وذلك أثناء لِقاء جمعه به في باريس بعد نوفمبر 1987:"اليوم كلّ شيء انتهى وأشهد للتاريخ أنّي شاهدت حبْك هذه المؤامرة خاصّة عندما دعت وسيلة المنصف بن محمود المدير العام للإذاعة والتلفزة وأمرته بأنْ يقوم بتحقيق تلفزي حول تبذير الخبز ورميه في المزابل".
ووفق رضا بن سلامة فإن نُقطة انطلاق الأحداث كانت من "هذه المُدَاوَرَة التي فتَحَت البَابَ عَلَى مِصْرَاعَيْهِ لأشكال من الضَّغْطِ والإِكْرَاهِ لتلبية نزوة من نزوات الرئيس بورڤيبة ونزوعه من غير تعقّل بِفرض مُضاعفة سِعر الخبز. وقد أكّد الباجي قايد السبسي في كتابه قائلا:"في هذه الأزمة، تمّ الإيقاع بمحمد مزالي في فخ، عندما طلب منه الرئيس لعدّة مرّات الرّفع من سعر الخبز، ومانع محمد مزالي طويلا".
تسميات مريبة
وقبل أنْ يتطرق إلى ظروف انطلاق الوقائع وتسلْسُلها الزمني أواخر ديسمبر 1983 وأوائل شهر جانفي 1984، أشار إلى خلفيات التّسميات ومقاصدها والتي تمّ إقرارها في وزارة الداخلية في مارس 1980، لأنّها ألقت بِظلالها على المشهد. فقد عجَّلَ قصر قرطاج بِتعيين إدريس ڤيڤة وزيرا للداخلية، الذي تم جلبه من بون في ألمانيا على جناح السرعة حيث كان سفيرا لِتونس منذ أنْ أزاحه الهادي نويرة في 31 ماي 1976 من وزارة التربية. [..]
ثم بعد يومين فقط من تعيين مزالي كمُنسِّق للحكومة (مواصلا الإشراف على وزارة التربية)، ومن دون عِلمه تمّ تعيين أحمد بنّور مديرا للأمن الوطني وعبد الحميد السخيري مديرا للشرطة وعامر غديرة آمرا للحرس الوطني[..]
وقال:".. وكان الهدف من وضع اليد على وزارة الداخلية من قِبل وسيلة وزمرتها هو تَقليص إطار الصلاحيات المفوّضة له كمُنسِّق الحكومة (1مارس إلى 23 افريل) ثمّ كوزير أول. وما وجود عامر غديرة، الذي تقلّد من قبل مسؤولية وال في كلّ من قابس وصفاقس والمهدية كآمر الحرس الوطني إلاّ ضَرْبٌ من الترضية، لأنّه كان من أقربائه.. كما قام ڤيڤة بِتقسيم الجِهاز الأمني وتفكيك وحداته إلى إدارة عامة للأمن الوطني وإدارة عامة للشرطة الوطنية وإلى بعث ولاية الشرطة بإقليم تونس..
وتابع:"هكذا، يكتمِل المشهد. فمِن ناحية نجِد وزيرًا أول اضطرّ على عجل وتحت الضّغوط، ونزولا عند رغبة رئيس الدولة، إلى وضع خِطّة مُتكاملة بِالتشاور مع كافّة الجِهات المعنيّة ومع الحِرص على مُراعاة الفئات ضعيفة الدّخل.(بعد إقرار الترفيع في أسعار الخبز بمجلس وزاري ترأسه بورقيبة من 80مليما إلى 160 مليما) ومِن ناحية أخرى، لفيفٌ تسوقه زوجة الرئيس، بعد أن نصب الشِّراك واستعد لإِرْبَاكِ الخِطّة واستغلال ذلك لإزاحة الوزير الأول، لا يهمه في شيء ما سينتج عن هذا العبث والاستخفاف بالمصلحة العامة والسّلم الاجتماعية.
تسلسل الأحداث
ثم يسرد بن سلامة تسلسل أحداث الخبز، التي انطلقت تحديدا يوم الخميس 28 ديسمبر 1983 في دوز من ولاية قبلي، ثم تواصلت يوم الجمعة 29 قبل أنْ تدخل الزيادات المقررة في أسعار الخبز حيز التنفيذ. ولاحظ أنّ والي قبلي الذي يُدعى محمد حفصة، هو من المُقرّبين جدّا "للماجدة" ويتردّد على مجالسها الخاصّة، وتعلم الأوساط السياسية ذلك حقّ العلم." ليتساءل: هل كان ذلك إشارة لبدء الاحتجاجات في الولايات الأخرى؟
ليستطرد قائلا:" وفعلاً تسرّبت العدوى إلى سبيطلة، ومن سخرية الدهر، بإيعاز من رئيس شعبة الحزب الاشتراكي الدستوري بالمكان، وكان يومها موعد السّوق الأسبوعية، ثم الحامّة يوم 31 ديسمبر، وطبلبو المُجاورة لمدينة قابس. وامتدّت إلى عدّة ولايات كقفصة والقصرين يوم الأحد 1 جانفي، وقابس يوم الاثنين 2 جانفي.."
ولاحظ أنه كان من المُقرّر إرسال برقيات من وزارة الداخلية لإعطاء الولاّة الإذن بصرف التعويضات التي رصدتها الحكومة وتوزيعها على الفئات المُدوّنة في سجلاتها والتي عادة ما يتكفّل بها التضامن الاجتماعي (30 ألف عائلة)، قبل بدء العمل بتطبيق الأسعار الجديدة. إلاّ أنّه طرأ بُطء في إرسالها من وزارة الداخلية ممّا ساهم في تأجيج الأوضاع. ليتساءل: هل هو بُطء أم تباطؤ؟
وأبرز بن سلامة كيف أن الاضطرابات وصلت إلى العاصمة وضواحيها ليلا يوم الاثنين 2 جانفي برأس الطابية وباردو والمبيت الجامعي، وأُضرمت الحرائق حتى الثانية صباحًا. وتأكّد أنّ وزير الداخلية "بارح مكتبه في العاشرة صباحًا ولم يعُد إليه تاركًا فراغًا، وبقيت الأمور تجري عشوائيًا في مستوى القيادات الميدانية". ووفق تقرير لجنة التحقيق فإن وزير الداخلية "لم يُعط أية تعليمات في تطبيق الخِطة الأمنيّة المدروسة التي عُثر عليها بظرف سرّي بِمكتبه وهي تقتضي ضبط إجراءات التدخّل في ثلاثة مراحل بالتدرّج وطريقة التحكّم في مداخل العاصمة وشوارعها في حالة طرأت حوادث". ويُفترض، على ضوء ما حدث، أن تكون الإدارة العامة للشرطة مُستعدّة أمام استشعار تواصل الاضطرابات في اليوم الموالي، أي الثلاثاء 3 جانفي في العاصمة وضواحيها".
"شبيّح" يخترق اللاسلكي
وعرّج الباحث عن حادثة أخرى مثيرة للاهتمام تقيم دليلا على وجود مؤامرة تقف وراء أحداث جانفي، وتتمثل في "تسلّل صوت إلى شبكات اتصالات قوّات الأمن اللاّسلكية يُطلِق على نفسه تسمية "شْبيّح" اقتحم موجات اللاّسلكي بصفة مُنتظمة للتحريض وكيْل السّباب والشتائم ضدّ الوزير الأول. وبعد أنْ هدأ الوضع، تمّ إجراء بحث حول واقِعَة "شبيح" الغريبة، لكن حالما تولّى زين العابدين بن علي إدارة الأمن تمّ "السهو" عن إماطة اللّثام حول نتيجته لمعرفة المصدر الحقيقي لِهذا الصنيع. وهو ما يؤكّد في النهاية انطلاقه من داخل الجِهاز الأمني.
وينقل بن سلامة عن الوزير الأول في كتابه ما دار في القصر: "سأل ڤيڤة الرئيس قائلاً : "سيدي الرئيس، هل قرارك لا رجوع فيه. فأجابه بدون تردّد : لا أحد قادر على ليّ ذراع بورڤيبة". فوضع ڤيڤة بين يديه مشروع أمر يقضي بإعلان حالة الطوارئ بجميع أنحاء الجمهورية ومشروع أمر يمنع المظاهرات ويُعلن حظر التجوّل. فأمضاهُما بورڤيبة". وأثناء تناول العشاء مع الرئيس، توجّه إدريس ڤيڤة إلى محمد مزالي مُقترحًا أنْ يؤكّد في كلمة تُبثّ قرار الرئيس بعدم التراجع، فوافقه بورڤيبة الابن وأَيَّدَهما الرئيس. كانت المُناورة تهدف إلى إحراج الوزير الأول أمام الرئيس إذا رفض القيام بذلك، وإذا قبل فظهوره يُمعن في توريطه أمام الرأي العام. وعلى الرغم من استيعاب محمد مزالي لِمقاصد "المُقترح"، فقد ذهب إلى التلفزة وألقى كلمة يُبلغ فيها الرأي العام عدم تراجع الرئيس، من منطلق الانضباط والشعور بالواجب.
واستشهد بن سلامة بشهادة الهادي البكوش أدلى بها في برنامج "شاهد على العصر" بِقناة خليجيّة حين أكد أنّ أحداث الخبز "كانت وراءها حسابات سِياسيّة للقضاء على الوزير الأول محمد المزالي". وأوضح أنّ "وسيلة بن عمار طليقة الرئيس الحبيب بورڤيبة لمّا جاءت انتخابات 1981 وقع اختلاف بينهُما بِسبب اختيار النُواب وانقلبت وسيلة على الوزير الأول وتدهورت العلاقة بينهما فقرّرت إزاحته وكان من بين وسائل الإزاحة افتعال مُظاهرات في الشارع وغضب شعبي واستغلاله لإقناع الرئيس بورڤيبة أنّ محمد مزالي لا يصلُح ليكون وزيرًا أول". ويؤكّد البكوش بدوره نفس الاستنتاج:"يوجد إحساس لدى كثير من المُتابعين للأحداث بِوجود مؤامرة تهدف إلى الإطاحة بحكومة مزالي، قد تكون عدّة أطراف لعبت فيها دورا ما، ولا يتسنى ذلك إلّا بِتضخيم القضية وإراقة الدماء".
ويفيد البكوش بما بلغ إلى علمه يوم 5 جانفي قائلا: "أعلمني أحد الأصدقاء من خارج السلطة أنّ الرئيس قد يتراجع غدا في قرار الحذف.. وعلم الوزير الأول مساء، وبِصفة غير رسميّة، بأنّ الرئيس يعتزم مُخاطبة الشّعب صباح الجمعة 6 جانفي للإعلان عن قراره بِخفض سعر الخبز من 160 إلى 120 ملّيما. وقبْل أنْ يتوجّه بورڤيبة بِكلمته المُرتجلة، تَوَفَّقَ محمد مزالي إلى إثنائه عن المخرج الذي أَوْعَزَ به إليه بعض من حاشيته والذي سيُعقّد الأمور أكثر، وأقنعه بِالرجوع إلى ما كان عليه الوضع. فاسْتَجَاب بورڤيبة قائلا : "نرجعو فين كنّا" [..]
محاكمة قيقة بالخيانة العظمى
ولتبيان درجة نفوذ وزير الداخلية في ذلك الوقت، استشهد رضا بن سلامة بواقعة تكليف إدريس قيقة آمر الحرس الوطني بالذهاب إلى الوزير الأول في بيته وتبليغه تحذيرا منه "بِالاستقالة كريما أحسن من طردِه مُهانا".
وقال إن بورقيبة استقبل في يوم 7 جانفي الوزير الأول وطرح محمد مزالي إمكانية استقالته مُحيطا الرئيس علما بِالرسالة الشفوية التي نقلها آمر الحرس الوطني بتكليف من إدريس ڤيڤة. فذهُل بورڤيبة في البداية ثمّ استشاط غضبا وأمر بدعوة إدريس ڤيڤة للالتحاق بالقصر لِلمثول أمامه. ولم ينته مدير المراسم من تخطّي باب المكتب وإذا بإدريس ڤيڤة يندفع إلى داخل المكتب تتبعه وسيلة، فيأمره بورڤيبة بِأن يُلازم مكانه، ويُلقي عليه السؤال: "لماذا أرسلت آمر الحرس الوطني إلى الوزير الأول وبِأيّ حق تشير عليه بالاستقالة ؟" فارتبك وحاول تبرير موقفة، لكن بورڤيبة أوسعه تقريعًا وانهال عليه بِوابل من السباب، وذكره بأنّ النظام رئاسي وهو الذي يُعين الوزراء ويُقيلهم، مُضيفًا أنّه يُكنّ الاحترام "لِسي محمد" وثقته فيه لا تشوبها شائبة ولذلك يُعفيه من وزارة الداخلية ويُسندها إليه مع الوزارة الأولى، ثم توجّه له حانقًا "تَنَحَّ من أمامي".
واستشهد بن سلامة بتقرير لجنة التحقيق التي أمر بتشكيلها بورقيبة، وتلقّى يوم 12 مارس 84 تقريرها الختامي وأذن بِمحاكمة إدريس ڤيڤة أمام المحكمة العليا بِتهمة الخيانة العُظمى. وفي 16 مارس 84 جاء في البيان الذي ألقاه محمد مزالي أمام مجلس النوّاب باسم رئيس الدولة أنّ نتائج لجنة التحقيق قد أسفرت عن ثبوت تعمُّد قيادة قوّات الشرطة أيّام 5 جانفي شلّ نشاط أعوانها وحمّل الرئيس وزير الداخلية السابق المسؤولية لأنّه تعمّد مُغالطته وقدّم مصلحته الخاصة على المصلحة العامّة ممّا يبرّر اتهامه بالخيانة العُظمى. وبتاريخ 4 جوان 84 شرعت المحكمة العليا بثكنة بوشوشة في النظر في قضيّة الخيانة العُظمى المُورّط فيها إدريس ڤيڤة وحكمت عليه غِيابيا بعشر سنوات أشغال شاقة وحِرمانه من حقوقه المدنية والسياسية.
التكالب على الحكم حال دون التركيز على شؤون التنمية
وخلص بن سلامة إلى القول، أنّ "ما حدث خلال تلك الأشهر كان إهدارا للأرواح وللوقت والجهد والمال، (89 وفاة، 590 مواطنين جرحى، و348 جرحى من أعوان الأمن) وخاصّة تدميرًا ذاتيًا للنّظام السياسي ولِمهابة الدّولة، من قِبل لفيف من المُجازفين تقلّدوا المسؤولية ليس خدمة للمصلحة العامّة العُليا للبلاد بنزاهة في أداء واجباتهم، بل لِأجل تحقيق منافع شخصية بِاستعمال جميع الأساليب ومهما كان الثمن."
وقال إن إصلاح منظومة الدعم التي تمّ برمجتها لِتنفيذها على مراحل، "وقع توظيفها والتضحية بها لأغراض أنانية وللإِسْتِئْثار بالسُّلطة ثم وأدها من قِبل زوجة الرئيس الأسبق، وحِصانها المُفضّل في السّباق إدريس ڤيڤة وزير الداخلية في تلك الفترة."
ولاحظ أن "طُموح الإصلاح بقي مُعلّقًا إلى يومنا هذا، بل تعقّدت الأمور أكثر من ذي قبل أيّما تعقيد، ولا نزال نُكابد تداعيات هذا العبث السياسي."
واستنتج أن ملابسات أحداث الخبز وغيرها، أظهرت "أنّ كواليس التكالُب على الحكم وارتفاع نسق المُناورات في تونس تحُول دون التركيز أساسًا على شؤون التنمية وإدارة البلاد، تحت إِشْراف رئيس دولة لا يتولّى بنفسه إدارة شؤون الحكومة، ولكنّه لا يترك للوزير الأول مُمارسة مهامّه بهامش كافٍ من الأريحية، بل يغَضَّ طَرْفَهُ حيالَ مُدَاوَرَات قَائِمَةٌ عَلَى الخِدَاعِ والْمُرَاوَغَةِ من قِبل زوجته وزُمرتها حتّى لو كان ذلك على حساب مناعة الدولة واستقرارها."
وخلص أيضا إلى أنّ "أوْجه التقارب والتطابق في الرُّؤى بين الحبيب بورقيبة ومحمد مزالي عديدة، وتبرُز من خلال النّزعة الإصلاحية وإرادة التحديث كخيط رابطٍ بينهما، إلاّ أنّ هناك أوجه تباين حول الإدراك بضرورة تطوير النظام السياسي، كخطّ فكريّ وقِيمي. وقد تعرّض هذا النهج لمُكابرة الزعيم ورفضِه لِتغيير أساليب إدارة السلطة، فبقي النظام السياسي يُراوح مكانه في إِعادة إنتاج الأزمات إلى أن اضْمَحَلَّ تماما."


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.