عاجل/ رصد طائرات مسيرة حلقت فوق سفن أسطول الصمود..آخر المستجدات ورفع درجة الحذر..    عاجل/ هجوم إلكتروني على هذه المطارات..وهذه التفاصيل..    汽车零部件领域:中国10家供应商代表团赴突尼斯参加对接会    قبل ما تسكر كرهبتك.. اعمل خطوة صغيرة تحمي ''الموتور''!    خطير/صيحة فزع: أكثر من 50% من المؤسسات الصغرى والمتوسطة مهددة بالافلاس والاندثار..    المطر في تونس: وين كانت أكثر الكميّات حسب المدن؟    عاجل: إضراب عام في إيطاليا ...وهذا هو السبب    تاكر كارلسون يُلمح إلى "مؤامرة يهودية" وراء اغتيال تشارلي كيرك    أكسيوس: ترامب طلب عقد لقاء مع زعماء عرب وأردوغان لبحث ملف غزة    جراية التقاعد المبكر للمرأة: شروط، وثائق، وكمية المبلغ... كل شيء لازم تعرفو    كيفاش تعرف السمك ''ميّت'' قبل ما تشريه؟    حفل كبير اليوم في باريس... شوفو شكون من العرب في القائمة    عاجل : مباريات قوية مؤجلة من الجولة السابعة في الرابطة الأولى هذا الأربعاء!    عاجل للتوانسة: عامر بحبّة يحذّر من تقلبات جوية قوية ويكشف هذه تفاصيل    بداية مبشرة مع أول أيام الخريف: أمطار وصواعق في هذه الدول العربية    المفتي هشام بن محمود يعلن الرزنامة الدينية للشهر الجديد    تونس على موعد مع حدث فلكي غريب بدخول الخريف... الشمس تعانق خط الاستواء..شنيا الحكاية؟!    تحذير طبي جديد يخص حبوب شائعة الاستعمال بين النساء...شنيا؟    علامات خفية لأمراض الكلى...رد بالك منها و ثبت فيها ؟    الحماية المدنية : 408 تدخلات خلال الأربع والعشرين ساعة الماضية    بطولة العالم لالعاب القوى: الأمريكي هوكر يستعيد مكانته بتحقيق ذهبية سباق 5000 متر    القصرين: تراجع إصابات داء الكلب وتواصل الحملة الوطنية للتلقيح    قفصة: تسجيل رجّة أرضية بقوّة 3،2 في الساعات الأولى من صباح الإثنين    5 سنوات سجناً لشيخ حاول اغتصاب طفل بحديقة الباساج    أحكام بين 10 و20 سنة سجنا في قضية تهريب مخدرات أطيح بأفرادها عبر "درون"    6 سنوات سجنا لكهل استدرج طفل قاصر وطلب منه تصوير فيدوهات...    انطلاق حملات نظافة كبرى في دور الثقافة والمكتبات العمومية والجهوية    نقابة المكتبيين وموردي وموزعي الكتاب تنظم دورة تدريبية حول "أدوات ادارة المكتبات"    قراءة سوسيولوجية في تطوّر العلوم لدى المسلمين    محاولة تهريب أكثر من 500 كغ من المخدرات: الاحتفاظ بموظفة في شركة خاصة وموظف في الديوانة    تواصل ارتفاع أسعار السيارات الشعبية في تونس.. وهذه أحدث الأسعار حسب الماركات..    الدورة الاولى لصالون الابتكارات الفلاحية والتكنولوجيات المائية من 22 الى 25 اكتوبر المقبل بمعرض قابس الدولي    تنبيه/ احتجاجات وغلق لهذه الطريق..#خبر_عاجل    تقلبات جوية مرتقبة.. ومرصد سلامة المرور يحذّر مستعملي الطريق    القبض على مروّج مخدرات بحوزته كوكايين وزطلة ..    البطولة الفرنسية : موناكو يتفوق على ميتز 5-2    أول تعليق من أمريكا بشأن اعتراف "حلفائها" بدولة فلسطين    عاجل/ آخر مستجدّات فقدان مهاجرين تونسيّين في عرض البحر منذ أسبوع..    أول لقاء علني بعد الخلاف.. تأبين الناشط اليميني كيرك يجمع ترامب وماسك    السينما التونسية تتألّق في مهرجان بغداد السينمائي... التتويج    طقس الاثنين: خلايا رعدية وأمطار غزيرة محليا مع تساقط البرد... التفاصيل    آفاقها واعدة .. السياحة البديلة سند للوجهة التونسية    قابس...انطلاق الاستعدادات للموسم السياحي الصحراوي والواحي    حافلةُ الصينِ العظيمةُ    لأول مرة في تاريخها ...التلفزة التونسية تسعى إلى إنتاج 3 مسلسلات رمضانية    الصينيون يبتكرون غراء عظميا لمعالجة الكسور    في اليوم عالمي للزهايمر: هذه توصيات وزارة الصحة    رابطة ابطال افريقيا : الاتحاد المنستيري يروض اسود الشرق السيراليوني برباعية نظيفة    الحوت الميت خطر على صحتك – الهيئة الوطنية تحذر    كأس الكنفدرالية الإفريقية: النتائج الجزئية لذهاب الدور التمهيدي الأول    المراقبة الاقتصادية تحجز 55 طنا من الخضر والغلال ببرج شاكير والحرايرية    الجمعية التونسية للطب الباطني تنظم لقاء افتراضيا حول متلازمة "شوغرن"    محمد علي: ''الأسطول يقترب كل دقيقة من غزة.. أما أنتم؟ مجرد أصابع ملوثة على لوحة مفاتيح''    درجات الحرارة لهذا اليوم..    غدا الأحد: هذه المناطق من العالم على موعد مع كسوف جزئي للشمس    تكريم درة زروق في مهرجان بورسعيد السينمائي    استراحة «الويكاند»    ما تفوتهاش: فضائل قراءة سورة الكهف يوم الجمعة!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رضا بن سلامة في شهادته حول ملابسات أحداث الخبز: عندما قال بورقيبة لادريس قيقة.. "لا أحد قادر على ليّ ذراع بورڤيبة"
نشر في الصباح نيوز يوم 20 - 04 - 2021

عاد الباحث والإعلامي رضا بن سلامة – بحكم عمله سابقا كمكلف بمهمة بديوان الوزير الأول محمد مزالي- في شهادة تاريخية قدّمها يوم السبت 17 أفريل الجاري بمنتدى الذاكرة الوطنية، إلى ظروف ومُلابسات تطوّر الأوضاع التي أدّت إلى اضطرابات ما يعرف ب"أحداث الخبز" في تلك الفترة.
وحاول بن سلامة في مداخلة حملت عنوان:"أحداث جانفي 1984 المنطلقات والملابسات والتداعيات"، تبيان كيف أن وسيلة بورقيبة وبعض معاونيها كانت تخطط بمعية "زمرتها"، الذين كانوا يترصدون الفُرص لإزاحة مزالي انتقاما لِرفضه الخضوع لإرادة زوجة الرئيس كما كانت تتَوَهَّم إبّان تعيينه.
كما بيّن كيف أن "الماجدة" عملت على إفشال عملية إصلاح منظومة الدعم التي شرعت فيها حكومة مزالي وفق خطة مدروسة تمتد على خمس سنوات، وحاولت بشتى الطرق إقناع بورقيبة بمضاعفة أسعار المواد الأساسية المدعمة بعد أن عملت على ايهامه عن طريق توظيف الإعلام (التلفزة الوطنية) بأن كميات كبيرة من الخبز المدعم يتم رميها بالمزابل وبعضها يتم تقديمه كعلف للدواب.
شهادة الباحث يمكن أن قراءتها لا فقط في سياق تاريخي لكشف حقائق حدث مفصلي هام في تاريخ تونس، لكن أيضا في سياق مقارنة ضمنية لما وقع في تلك الفترة من دسائس ومكائد في قصر قرطاج تكالبا على السلطة، مع أحداث أخرى مشابهة مرت بها البلاد في حقبات مختلفة سواء خلال فترة النظام السابق، أو خلال فترة ما بعد 2011، وهي صراعات سياسية بالأساس ساهمت بشكل كبير في إعاقة التنمية وعطلت عملية الإصلاح الاقتصادي والرقي الاجتماعي، وشغلت السياسيين عن التفرغ لإدارة شؤون الدولة وتطوير المرفق العام والخدمات العامة..
كان الإطار العام السياسي والاقتصادي في تلك الفترة التي تعيشها البلاد مشابها لما تمر به تونس اليوم، فقد سبقت أحداث الخبز إجراءات وقرارات سعت إلى تهدئة الأجواء السياسية المشوبة بالتوتر في الداخل ( أزمة اقتصادية، تداعيات انتخابات 1981) وفي علاقة مع دول الجوار (ليبيا، الجزائر..)، واستعداد حكومة مزالي للمصادقة على المُخطّط السادس للتنمية 1982-1986. وكان من بين الاهتمامات مسألة الصندوق العام للتعويض، الذي تمّ إحداثه بِمقتضى القانون عدد 26 بتاريخ 29 ماي 1970.. وقد بلغ عجز الصندوق في تلك الفترة 132 مليون دينار، وفق ما بينه بن سلامة في مداخلته نقلا عن خطاب الوزير الأول لميزانية الدّولة والميزان الاقتصادي والاجتماعي، في 18 نوفمبر 1980 أمام البرلمان.
استهل بن سلامة شهادته بالإشارة إلى حادثة غريبة حصلت في تلك الفترة عكست تضارب المواقف بين أعضاء الحكومة بعد أن كشف منصور معلى وزير التخطيط والماليّة آنذاك، في أفريل 1983، في برنامج تلفري مباشر عن نِية الحكومة "التراجع عن مجانية التعليم ومُراجعة صندوق الدعم الذي بات سببا في اختلال الموازنة". فاضطرّ مزالي إلى التدخّل عبر الهاتف ليؤكد أنّ "مجانية التعليم مكسب لتونس المستقلّة ولا يُمكن وضعه موضع الأخذ والرد، وأنّ الحكومة لم تتّخذ إلى يومنا هذا أيّ قرار في خصوص الخبز ومشتقّاته".
ووفق بن سلامة استغل هذه الواقعة من وصفهم ب"الفصيل" الذي كان يترصّد الفُرص لإزاحة مزالي لِرفضه الخضوع لإرادة زوجة الرئيس بورڤيبة كما كانت تتَوَهَّم إبّان تعيينه.
مؤامرة محبكة الخيوط
وسرد صاحب الشهادة أطوار ما أسماه ب"حبك مُسلْسل مُريب"، وتوظيف حلقاته في سياق معلوم بِإنتاج وبثِّ تحقيق تلفزي، يَصِحُّ عَنوَنَته "كلمة حق يُراد بها باطل". حين أمرت وسيلة مدير عام الإذاعة والتلفزة في تلك الفترة المنصف بن محمود ليُكلِّف فريقا تلفزيا بِإنجاز تحقيق مُصوّر لِبعض الأماكن التي توجد فيها أكْوَام من الخبز مُلقاة على الطريق. ثم اتصل بن محمود هاتفيا بالوزير الأول لِيُبْلِغه بأنّه أعدّ برنامجا لِترشيد المواطنين حتى يكفّوا من تبذير الخبز. فصدَّقَ مزالي هذا القول واعتبر أنّه من دور الإعلام توعية المواطنين. إلا أن وسيلة لم تكْتف بِدَفْع مدير عام الإذاعة والتلفزة للقيام بهذا التحقيق، بل حدّدت له بِالتدقيق ساعة بثّ البرنامج في الوقت الذي يكون الرئيس بورڤيبة على استعداد ذِهني لِمُتابعة البرنامج حتى يردّ الفعل كما يُنتظر منه.
وتابع بن سلامة قائلا:" لم يَدُر في خلَدِ محمد مزالي آنذاك أنّ هذا التحقيق التلفزي ليس بريئا كما يبدو، بل سيكون نُقطة الانطلاق لِمكيدة مُدَبَّرَة تهدف إلى الدَّفْعُ بالرئيس بورڤيبة إلى الانزعاج واعتبار اضْطِرَارِية مُعالجة المسألة عاجلا، وهو ما حدث فعلا.
واستشهد بلقاء له مع المرحوم المنصف بن محمود بعد بثّ الحصّة التلفزية، قال:"عندما استفسرته حول هذا الموضوع همس لي بِتَلَعْثَمَ وهو ينظر يَمْنَةً ويَسْرَة أنّها "فِكرة الماجدة". كما أنّ الوزير الأوّل ذكر في كتابه ما صرّح به له محمود بلحسين الذي كان يقرأ لبورڤيبة الجرائد الفرنسية، وذلك أثناء لِقاء جمعه به في باريس بعد نوفمبر 1987:"اليوم كلّ شيء انتهى وأشهد للتاريخ أنّي شاهدت حبْك هذه المؤامرة خاصّة عندما دعت وسيلة المنصف بن محمود المدير العام للإذاعة والتلفزة وأمرته بأنْ يقوم بتحقيق تلفزي حول تبذير الخبز ورميه في المزابل".
ووفق رضا بن سلامة فإن نُقطة انطلاق الأحداث كانت من "هذه المُدَاوَرَة التي فتَحَت البَابَ عَلَى مِصْرَاعَيْهِ لأشكال من الضَّغْطِ والإِكْرَاهِ لتلبية نزوة من نزوات الرئيس بورڤيبة ونزوعه من غير تعقّل بِفرض مُضاعفة سِعر الخبز. وقد أكّد الباجي قايد السبسي في كتابه قائلا:"في هذه الأزمة، تمّ الإيقاع بمحمد مزالي في فخ، عندما طلب منه الرئيس لعدّة مرّات الرّفع من سعر الخبز، ومانع محمد مزالي طويلا".
تسميات مريبة
وقبل أنْ يتطرق إلى ظروف انطلاق الوقائع وتسلْسُلها الزمني أواخر ديسمبر 1983 وأوائل شهر جانفي 1984، أشار إلى خلفيات التّسميات ومقاصدها والتي تمّ إقرارها في وزارة الداخلية في مارس 1980، لأنّها ألقت بِظلالها على المشهد. فقد عجَّلَ قصر قرطاج بِتعيين إدريس ڤيڤة وزيرا للداخلية، الذي تم جلبه من بون في ألمانيا على جناح السرعة حيث كان سفيرا لِتونس منذ أنْ أزاحه الهادي نويرة في 31 ماي 1976 من وزارة التربية. [..]
ثم بعد يومين فقط من تعيين مزالي كمُنسِّق للحكومة (مواصلا الإشراف على وزارة التربية)، ومن دون عِلمه تمّ تعيين أحمد بنّور مديرا للأمن الوطني وعبد الحميد السخيري مديرا للشرطة وعامر غديرة آمرا للحرس الوطني[..]
وقال:".. وكان الهدف من وضع اليد على وزارة الداخلية من قِبل وسيلة وزمرتها هو تَقليص إطار الصلاحيات المفوّضة له كمُنسِّق الحكومة (1مارس إلى 23 افريل) ثمّ كوزير أول. وما وجود عامر غديرة، الذي تقلّد من قبل مسؤولية وال في كلّ من قابس وصفاقس والمهدية كآمر الحرس الوطني إلاّ ضَرْبٌ من الترضية، لأنّه كان من أقربائه.. كما قام ڤيڤة بِتقسيم الجِهاز الأمني وتفكيك وحداته إلى إدارة عامة للأمن الوطني وإدارة عامة للشرطة الوطنية وإلى بعث ولاية الشرطة بإقليم تونس..
وتابع:"هكذا، يكتمِل المشهد. فمِن ناحية نجِد وزيرًا أول اضطرّ على عجل وتحت الضّغوط، ونزولا عند رغبة رئيس الدولة، إلى وضع خِطّة مُتكاملة بِالتشاور مع كافّة الجِهات المعنيّة ومع الحِرص على مُراعاة الفئات ضعيفة الدّخل.(بعد إقرار الترفيع في أسعار الخبز بمجلس وزاري ترأسه بورقيبة من 80مليما إلى 160 مليما) ومِن ناحية أخرى، لفيفٌ تسوقه زوجة الرئيس، بعد أن نصب الشِّراك واستعد لإِرْبَاكِ الخِطّة واستغلال ذلك لإزاحة الوزير الأول، لا يهمه في شيء ما سينتج عن هذا العبث والاستخفاف بالمصلحة العامة والسّلم الاجتماعية.
تسلسل الأحداث
ثم يسرد بن سلامة تسلسل أحداث الخبز، التي انطلقت تحديدا يوم الخميس 28 ديسمبر 1983 في دوز من ولاية قبلي، ثم تواصلت يوم الجمعة 29 قبل أنْ تدخل الزيادات المقررة في أسعار الخبز حيز التنفيذ. ولاحظ أنّ والي قبلي الذي يُدعى محمد حفصة، هو من المُقرّبين جدّا "للماجدة" ويتردّد على مجالسها الخاصّة، وتعلم الأوساط السياسية ذلك حقّ العلم." ليتساءل: هل كان ذلك إشارة لبدء الاحتجاجات في الولايات الأخرى؟
ليستطرد قائلا:" وفعلاً تسرّبت العدوى إلى سبيطلة، ومن سخرية الدهر، بإيعاز من رئيس شعبة الحزب الاشتراكي الدستوري بالمكان، وكان يومها موعد السّوق الأسبوعية، ثم الحامّة يوم 31 ديسمبر، وطبلبو المُجاورة لمدينة قابس. وامتدّت إلى عدّة ولايات كقفصة والقصرين يوم الأحد 1 جانفي، وقابس يوم الاثنين 2 جانفي.."
ولاحظ أنه كان من المُقرّر إرسال برقيات من وزارة الداخلية لإعطاء الولاّة الإذن بصرف التعويضات التي رصدتها الحكومة وتوزيعها على الفئات المُدوّنة في سجلاتها والتي عادة ما يتكفّل بها التضامن الاجتماعي (30 ألف عائلة)، قبل بدء العمل بتطبيق الأسعار الجديدة. إلاّ أنّه طرأ بُطء في إرسالها من وزارة الداخلية ممّا ساهم في تأجيج الأوضاع. ليتساءل: هل هو بُطء أم تباطؤ؟
وأبرز بن سلامة كيف أن الاضطرابات وصلت إلى العاصمة وضواحيها ليلا يوم الاثنين 2 جانفي برأس الطابية وباردو والمبيت الجامعي، وأُضرمت الحرائق حتى الثانية صباحًا. وتأكّد أنّ وزير الداخلية "بارح مكتبه في العاشرة صباحًا ولم يعُد إليه تاركًا فراغًا، وبقيت الأمور تجري عشوائيًا في مستوى القيادات الميدانية". ووفق تقرير لجنة التحقيق فإن وزير الداخلية "لم يُعط أية تعليمات في تطبيق الخِطة الأمنيّة المدروسة التي عُثر عليها بظرف سرّي بِمكتبه وهي تقتضي ضبط إجراءات التدخّل في ثلاثة مراحل بالتدرّج وطريقة التحكّم في مداخل العاصمة وشوارعها في حالة طرأت حوادث". ويُفترض، على ضوء ما حدث، أن تكون الإدارة العامة للشرطة مُستعدّة أمام استشعار تواصل الاضطرابات في اليوم الموالي، أي الثلاثاء 3 جانفي في العاصمة وضواحيها".
"شبيّح" يخترق اللاسلكي
وعرّج الباحث عن حادثة أخرى مثيرة للاهتمام تقيم دليلا على وجود مؤامرة تقف وراء أحداث جانفي، وتتمثل في "تسلّل صوت إلى شبكات اتصالات قوّات الأمن اللاّسلكية يُطلِق على نفسه تسمية "شْبيّح" اقتحم موجات اللاّسلكي بصفة مُنتظمة للتحريض وكيْل السّباب والشتائم ضدّ الوزير الأول. وبعد أنْ هدأ الوضع، تمّ إجراء بحث حول واقِعَة "شبيح" الغريبة، لكن حالما تولّى زين العابدين بن علي إدارة الأمن تمّ "السهو" عن إماطة اللّثام حول نتيجته لمعرفة المصدر الحقيقي لِهذا الصنيع. وهو ما يؤكّد في النهاية انطلاقه من داخل الجِهاز الأمني.
وينقل بن سلامة عن الوزير الأول في كتابه ما دار في القصر: "سأل ڤيڤة الرئيس قائلاً : "سيدي الرئيس، هل قرارك لا رجوع فيه. فأجابه بدون تردّد : لا أحد قادر على ليّ ذراع بورڤيبة". فوضع ڤيڤة بين يديه مشروع أمر يقضي بإعلان حالة الطوارئ بجميع أنحاء الجمهورية ومشروع أمر يمنع المظاهرات ويُعلن حظر التجوّل. فأمضاهُما بورڤيبة". وأثناء تناول العشاء مع الرئيس، توجّه إدريس ڤيڤة إلى محمد مزالي مُقترحًا أنْ يؤكّد في كلمة تُبثّ قرار الرئيس بعدم التراجع، فوافقه بورڤيبة الابن وأَيَّدَهما الرئيس. كانت المُناورة تهدف إلى إحراج الوزير الأول أمام الرئيس إذا رفض القيام بذلك، وإذا قبل فظهوره يُمعن في توريطه أمام الرأي العام. وعلى الرغم من استيعاب محمد مزالي لِمقاصد "المُقترح"، فقد ذهب إلى التلفزة وألقى كلمة يُبلغ فيها الرأي العام عدم تراجع الرئيس، من منطلق الانضباط والشعور بالواجب.
واستشهد بن سلامة بشهادة الهادي البكوش أدلى بها في برنامج "شاهد على العصر" بِقناة خليجيّة حين أكد أنّ أحداث الخبز "كانت وراءها حسابات سِياسيّة للقضاء على الوزير الأول محمد المزالي". وأوضح أنّ "وسيلة بن عمار طليقة الرئيس الحبيب بورڤيبة لمّا جاءت انتخابات 1981 وقع اختلاف بينهُما بِسبب اختيار النُواب وانقلبت وسيلة على الوزير الأول وتدهورت العلاقة بينهما فقرّرت إزاحته وكان من بين وسائل الإزاحة افتعال مُظاهرات في الشارع وغضب شعبي واستغلاله لإقناع الرئيس بورڤيبة أنّ محمد مزالي لا يصلُح ليكون وزيرًا أول". ويؤكّد البكوش بدوره نفس الاستنتاج:"يوجد إحساس لدى كثير من المُتابعين للأحداث بِوجود مؤامرة تهدف إلى الإطاحة بحكومة مزالي، قد تكون عدّة أطراف لعبت فيها دورا ما، ولا يتسنى ذلك إلّا بِتضخيم القضية وإراقة الدماء".
ويفيد البكوش بما بلغ إلى علمه يوم 5 جانفي قائلا: "أعلمني أحد الأصدقاء من خارج السلطة أنّ الرئيس قد يتراجع غدا في قرار الحذف.. وعلم الوزير الأول مساء، وبِصفة غير رسميّة، بأنّ الرئيس يعتزم مُخاطبة الشّعب صباح الجمعة 6 جانفي للإعلان عن قراره بِخفض سعر الخبز من 160 إلى 120 ملّيما. وقبْل أنْ يتوجّه بورڤيبة بِكلمته المُرتجلة، تَوَفَّقَ محمد مزالي إلى إثنائه عن المخرج الذي أَوْعَزَ به إليه بعض من حاشيته والذي سيُعقّد الأمور أكثر، وأقنعه بِالرجوع إلى ما كان عليه الوضع. فاسْتَجَاب بورڤيبة قائلا : "نرجعو فين كنّا" [..]
محاكمة قيقة بالخيانة العظمى
ولتبيان درجة نفوذ وزير الداخلية في ذلك الوقت، استشهد رضا بن سلامة بواقعة تكليف إدريس قيقة آمر الحرس الوطني بالذهاب إلى الوزير الأول في بيته وتبليغه تحذيرا منه "بِالاستقالة كريما أحسن من طردِه مُهانا".
وقال إن بورقيبة استقبل في يوم 7 جانفي الوزير الأول وطرح محمد مزالي إمكانية استقالته مُحيطا الرئيس علما بِالرسالة الشفوية التي نقلها آمر الحرس الوطني بتكليف من إدريس ڤيڤة. فذهُل بورڤيبة في البداية ثمّ استشاط غضبا وأمر بدعوة إدريس ڤيڤة للالتحاق بالقصر لِلمثول أمامه. ولم ينته مدير المراسم من تخطّي باب المكتب وإذا بإدريس ڤيڤة يندفع إلى داخل المكتب تتبعه وسيلة، فيأمره بورڤيبة بِأن يُلازم مكانه، ويُلقي عليه السؤال: "لماذا أرسلت آمر الحرس الوطني إلى الوزير الأول وبِأيّ حق تشير عليه بالاستقالة ؟" فارتبك وحاول تبرير موقفة، لكن بورڤيبة أوسعه تقريعًا وانهال عليه بِوابل من السباب، وذكره بأنّ النظام رئاسي وهو الذي يُعين الوزراء ويُقيلهم، مُضيفًا أنّه يُكنّ الاحترام "لِسي محمد" وثقته فيه لا تشوبها شائبة ولذلك يُعفيه من وزارة الداخلية ويُسندها إليه مع الوزارة الأولى، ثم توجّه له حانقًا "تَنَحَّ من أمامي".
واستشهد بن سلامة بتقرير لجنة التحقيق التي أمر بتشكيلها بورقيبة، وتلقّى يوم 12 مارس 84 تقريرها الختامي وأذن بِمحاكمة إدريس ڤيڤة أمام المحكمة العليا بِتهمة الخيانة العُظمى. وفي 16 مارس 84 جاء في البيان الذي ألقاه محمد مزالي أمام مجلس النوّاب باسم رئيس الدولة أنّ نتائج لجنة التحقيق قد أسفرت عن ثبوت تعمُّد قيادة قوّات الشرطة أيّام 5 جانفي شلّ نشاط أعوانها وحمّل الرئيس وزير الداخلية السابق المسؤولية لأنّه تعمّد مُغالطته وقدّم مصلحته الخاصة على المصلحة العامّة ممّا يبرّر اتهامه بالخيانة العُظمى. وبتاريخ 4 جوان 84 شرعت المحكمة العليا بثكنة بوشوشة في النظر في قضيّة الخيانة العُظمى المُورّط فيها إدريس ڤيڤة وحكمت عليه غِيابيا بعشر سنوات أشغال شاقة وحِرمانه من حقوقه المدنية والسياسية.
التكالب على الحكم حال دون التركيز على شؤون التنمية
وخلص بن سلامة إلى القول، أنّ "ما حدث خلال تلك الأشهر كان إهدارا للأرواح وللوقت والجهد والمال، (89 وفاة، 590 مواطنين جرحى، و348 جرحى من أعوان الأمن) وخاصّة تدميرًا ذاتيًا للنّظام السياسي ولِمهابة الدّولة، من قِبل لفيف من المُجازفين تقلّدوا المسؤولية ليس خدمة للمصلحة العامّة العُليا للبلاد بنزاهة في أداء واجباتهم، بل لِأجل تحقيق منافع شخصية بِاستعمال جميع الأساليب ومهما كان الثمن."
وقال إن إصلاح منظومة الدعم التي تمّ برمجتها لِتنفيذها على مراحل، "وقع توظيفها والتضحية بها لأغراض أنانية وللإِسْتِئْثار بالسُّلطة ثم وأدها من قِبل زوجة الرئيس الأسبق، وحِصانها المُفضّل في السّباق إدريس ڤيڤة وزير الداخلية في تلك الفترة."
ولاحظ أن "طُموح الإصلاح بقي مُعلّقًا إلى يومنا هذا، بل تعقّدت الأمور أكثر من ذي قبل أيّما تعقيد، ولا نزال نُكابد تداعيات هذا العبث السياسي."
واستنتج أن ملابسات أحداث الخبز وغيرها، أظهرت "أنّ كواليس التكالُب على الحكم وارتفاع نسق المُناورات في تونس تحُول دون التركيز أساسًا على شؤون التنمية وإدارة البلاد، تحت إِشْراف رئيس دولة لا يتولّى بنفسه إدارة شؤون الحكومة، ولكنّه لا يترك للوزير الأول مُمارسة مهامّه بهامش كافٍ من الأريحية، بل يغَضَّ طَرْفَهُ حيالَ مُدَاوَرَات قَائِمَةٌ عَلَى الخِدَاعِ والْمُرَاوَغَةِ من قِبل زوجته وزُمرتها حتّى لو كان ذلك على حساب مناعة الدولة واستقرارها."
وخلص أيضا إلى أنّ "أوْجه التقارب والتطابق في الرُّؤى بين الحبيب بورقيبة ومحمد مزالي عديدة، وتبرُز من خلال النّزعة الإصلاحية وإرادة التحديث كخيط رابطٍ بينهما، إلاّ أنّ هناك أوجه تباين حول الإدراك بضرورة تطوير النظام السياسي، كخطّ فكريّ وقِيمي. وقد تعرّض هذا النهج لمُكابرة الزعيم ورفضِه لِتغيير أساليب إدارة السلطة، فبقي النظام السياسي يُراوح مكانه في إِعادة إنتاج الأزمات إلى أن اضْمَحَلَّ تماما."


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.