السجال الدستوري بين رؤوس السلطة السياسية مهاترات حياد الإدارة هو قبل شيء عقلية وثقافة ونمط سلوك يتواصل الصراع والتنازع منذ 10 سنوات حول وزارات السيادة وأهمها وزارة الداخلية كما لم يتوقف الجدل والتجاذبات بشأن التعيينات والاتهامات المتبادلة بضرب مبدأ دستوري وهو حياد المرفق الإداري. حول هذه المسائل تحدثت "الصباح" مع عبد القادر اللباوي رئيس الإتحاد التونسي للمرفق العام وحياد الإدارة الذي اعتبر حياد الإدارة هو قبل شيء عقلية وثقافة ونمط سلوك وان المحاصصة حالت دون النأي بالإدارة عن دوائر الصراع السياسي وبؤر تقاسم الغنائم. *كيف تقيم الجدل القائم اليوم حول تأويل الدستور في علاقة بالقوات الحاملة للسلاح في ظل تنامي مخاوف من إقحام المؤسسة الامنية والعسكرية في أتون الصراع السياسي؟ -للإجابة على سؤالك أعتقد أنه من الواجب التذكير بالمبادئ الدستورية التالية: ينص الفصل الثاني من الدستور التونسي على أن "تونس دولة مدنية، تقوم على المواطنة، وإرادة الشعب، وعلوية القانون، لا يجوز تعديل هذا الفصل". وينص الفصل 15 على أن "الإدارة العمومية في خدمة المواطن والصالح العام، تُنظّم وتعمل وفق مبادئ الحياد والمساواة واستمرارية المرفق العام، ووفق قواعد الشفافية والنزاهة والنجاعة والمساءلة." كما ينص الفصل 18 على أن "الجيش الوطني جيش جمهوري وهو قوة عسكرية مسلحة قائمة على الانضباط، مؤلفة ومنظمة هيكليا طبق القانون، ويضطلع بواجب الدفاع عن الوطن واستقلاله ووحدة ترابه، وهو ملزم بالحياد التام. ويدعم الجيش الوطني السلطات المدنية وفق ما يضبطه القانون." والفصل 19 على أن "الأمن الوطني أمن جمهوري، قواته مكلفة بحفظ الأمن والنظام العام وحماية الأفراد والمؤسسات والممتلكات وإنفاذ القانون، في كنف احترام الحريات وفي إطار الحياد التامّ." تفضي القراءة المزدوجة لهذه الفصول إلى أن القوات المسلحة العسكرية وكذلك المدنية تعمل لخدمة الصالح العام في إطار دولة مدنية وليست عسكرية أو دينية. تضطلع هذه القوات بواجباتها في كنف الحياد التام، دون أدنى ولاء للأشخاص مهما كانت صفاتهم ومواقعهم أو للأحزاب مهما كان تموقعها. فلا ولاء للقوات الحاملة للسلاح إلا للوطن وفي إطار الدستور والقانون. وتأسيسا على ذلك، فإن السجال الدستوري القائم اليوم بين رؤوس السلطة السياسية في تونس حول أحقية طرف معين دون سواه في قيادة كامل القوات الحاملة للسلاح عسكرية كانت أم مدنية، لا يعدو أن يكون مجرد مهاترات وتجاذبات غير ذات وعي ولا صلة بحقيقة وحجم الاستحقاقات والتحديات المطروحة علينا اليوم. كان من الأجدى أن يتجادل الرؤساء في ما ينفع الناس وأن يحرصوا أكثر من أي كان على النأي بالإدارة العمومية العسكرية والمدنية قضائية كانت أم تنفيذية، عن هذه المماحكات عديمة الجدوى! "فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض". *في السياق ذاته المتصل بضمان حياد الإدارة والمرفق العام كيف وجدتم تكرر الأزمات من وقت لآخر بعد التعيينات على رأس المؤسسات العمومية وآخرها الجدل الحاصل بعد التعيين على رأس وكالة تونس أفريقيا للأنباء؟ -إن حياد الإدارة هو قبل شيء عقلية وثقافة ونمط سلوك. فلا معنى لمبدإ تم إقراره بالدستور ليبقى حبيس النص دون أن يتجسد واقعا ملموسا في عقول المسؤولين العموميين وأعمالهم وقراراتهم. إن احترام مبدإ الحياد وتكريسه على مستوى الممارسة يعتبر من أوكد وأهم شروط نجاح أي مقاربة ترمي إلى الارتقاء بالأداء والمردودية داخل المؤسسات والهياكل العمومية في كل القطاعات. وحيث أن أداء وفعالية الهياكل والمرافق العمومية، إدارة عمومية كانت أو مؤسسات إعلامية، مرتبطة بشكل وثيق بمدى توفر خاصية التشاركية في المقاربات المعتمدة وبمنسوب الثقة بين كافة الأطراف الفاعلة وبمردودية العنصر البشري المكون لهاته الهياكل والمؤسسات. فالموارد البشرية هي إحدى الركائز الأساسية للنهوض بالهياكل والمؤسسات وتأهيلها للاندماج في محيطها الاجتماعي والاقتصادي والمساهمة في رفع التحديات التي يفرضها الواقع المحلي والإقليمي والدولي. وكي يتسنى الارتقاء بمنظومة التصرف في الشأن العام على جميع أصعدته ومستوياته، لابد أن ينصب الاهتمام على تكريس الشفافية وضمان تكافؤ الفرص في التوظيف والترقية بالإدارات والهياكل العمومية. كما يتعيّن ضبط آليات ومعايير موضوعية وشفافة للحصول على مناصب المسؤولية (التسمية على رأس المؤسسات والمنشآت العمومية، إسناد الخطط الوظيفية، التكليف بالوظائف المدنية العليا …). وعلى هذا الأساس ينبغي تحديد الإجراءات الواجب اعتمادها لهذه الغاية، حيث يقترح مثلا تعميم آلية التناظر لولوج هذه المناصب، بناء على معايير الكفاءة والاستحقاق والجدارة وبالاحتكام إلى تصنيفة وطنية للوظائف والكفاءات. ومن جهة أخرى يتعيّن وضع نظام فعال لتقييم أداء المسؤولين يكون كفيلا بتقدير مردوديتهم الحقيقية، بالإضافة إلى إقامة نظام جديد للترقية يأخذ بعين الاعتبار نتائج تقييم الأداء بناء على معايير الكفاءة والاستحقاق والجدارة والمردودية، دون الاقتصار على شرط الأقدمية الذي أثبتت الممارسة قصوره في الارتقاء بالأداء والمردودية وتطوير المسار المهني والوظيفي للعون العمومي، في صورة اعتماده كمعيار وحيد أو حتى أساسي للترقية والتكليف. كما لا ينبغي السقوط في معايير ترتكز على الولاءات الشخصية أو الانتماءات الحزبية أو الجهوية أو تستبطن المحاباة والمحسوبية. وفي هذا الإطار يقترح تركيز مقاربة تشاركية جديدة لهيكلة مختلف الأنظمة الأساسية، تتضمن تعريفات وضوابط مرجعية وبطاقات وصفية للوظائف والكفاءات تعد اللبنة الأساسية لإرساء آليات التسيير التوقّعي للوظائف والكفاءات وذلك في إطار تصنيف مرجعي موحد يشمل كل القطاعات بما في ذلك الإعلام العمومي. *لماذا بعد 10 سنوات من الانتقال الديمقراطي مازلنا في المربع الأول المتصل بالمخاوف من توظيف الإدارة ومن خرق الحياد.. أين الخلل برأيكم؟ -إذا سلمنا جدلا أننا فعلا قد أمضينا السنوات العشرة التي انقضت في تركيز دعائم الانتقال الديمقراطي، وهو حسب رأيي أمر غير ثابت ويحتاج كثيرا من التمحيص للتمكن من إقراره أو نفيه. ولعل المسألة أقرب إلى النفي منها إلى الإقرار! ومع ذلك وبالرغم من ذلك، أعتقد أن جلّ الحكومات والبرلمانات المتعاقبة على حكم البلاد، إن لم نقل كلّها، لم تكلّف نفسها عناء الاهتمام بمسألة حياد الإدارة، لا لشيء إلا لأن الغالبية القصوى من مكوناتها سعت دائما إلى تكريس منطق المحاصصة، وهو ما حال دونها ودون النأي بالإدارة عن دوائر الصراع السياسي بؤر تقاسم الغنائم. لذا فقد بات من الضروري والمتأكّد والعاجل، إحداث هيئة تعديلية مستقلة تعنى بحياد الإدارة، على غرار الهيئات التي تم إحداثها على مستوى القضاء والإعلام والانتخابات وشهداء وجرحى الثورة. ويقترح أن تضم الهيئة ضمن مكوناتها مرصدا وطنيا لحياد الإدارة ومركز بحوث ودراسات يعنى بإعداد تصورات واقتراح نصوص لمراجعة الأنظمة الأساسية العامة والخاصة لأعوان القطاع العمومي بالإضافة إلى تكوين قاعدة بيانات أو بنك معطيات لكل ما يتّصل بالمرافق العمومية وخاصة الكفاءات الوطنية داخل وخارج البلاد قصد إعداد قائمة وطنية للكفاءات حسب الاختصاص والقطاع وذلك بالتنسيق مع الأطراف ذات الصلة (الإدارات والمؤسسات والمنشآت العمومية بما في ذلك الجماعات المحلية، الجامعات، مدارس التكوين، المنظمات الوطنية، الهيئات المهنية).