لا يمكن قراءة زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لروسيا ولقائه بالرئيس الروسي فلادمير بوتين إلا أنها تمثل "بداية جديدة" للعلاقات الروسية-التركية التي تحكمها "البراغماتية" وتؤثثها جملة من المتغيرات الاستراتيجية والسياسية التي حصلت من "لحظة سقوط الطائرة الروسية" إلى دخول الأكراد إلى مدينة منبج في سوريا وانتشار العمليات الارهابية في القلب التركي وإعادة إحياء تركيا لسياسة "تصفير الأعداء". تداعيات هذا التطور تأتي في اطار التفاهم الجديد بين رأسي الحكم في البلدين فيما يتعلق بالملف السوري، والذي تبرز فيه نقطتان أساسيتان وهما "ضرورة اغلاق تركيا لحدودها مع سوريا"، وكذلك وجوب "محاربة الارهاب" بكل ما يحمله هذا المصطلح من "ثنائيات عديدة" في مقاربات البلدين للصراع في سوريا والشرق الأوسط بصفة عامة. "الارهاب التركي" و"الارهاب الروسي" فالمعلوم أن الأتراك ينظرون إلى أن الارهاب يتمثل في رأسين كبيرين وهما تنظيم "داعش" وكذلك الجماعات الكردية بمختلف تشكيلاتها العابرة لحدود بلدان الشرق الأوسط. أما الروس فهم يرون أن الارهاب له رأس واحدة ووحيدة وتتمثل بالأساس في الجماعات المسلحة الاسلامية التي تحارب ضد قوات الجيش السوري سواء كانت "داعش" أو تحالف قوات المعارضة تحت ما سمي "جيش الفتح" والذي تعتبر "جبهة النصرة" أكبر ممثليه -أعلنت مؤخرا خروجها عن تنظيم القاعدة في مناورة تكتيكية وبعد ضغط كبير من البلدان الداعمة لها وخاصة من السعودية وقطر وتركيا والخروج من "بوتقة" التنظيمات الارهابية والظهور بصورة حركة مسلحة معارضة للرئيس السوري بشار الأسد-. ولا يبدو هذا التفاهم الجديد إلا محاولة من تركيا للالتفاف -من الباب الروسي- على طموحات الأكراد لتشكيل مناطق حكم ذاتي في المناطق التي تسيطر عليها في شمال سوريا وبمساعدة أمريكية واضحة وخاصة في المناطق التي انتزعها الأكراد (قوات سوريا الديمقراطية) التي تدعمها الولاياتالمتحدة وتوفر لها التدريبات بل وتشارك في معاركها قوات من النخبة الأمريكية كما حصل في مدينة منبج القريبة من حلب والتي كانت تحت سيطرة تنظيم "داعش". ولعل مثل هذه التفاهمات الجديدة بين روسياوتركيا تدخل ضمن معطيات استراتيجية وجيوسياسة جديدة طرأت على الساحة التركية خاصة في العلاقة بين تركيا وحلفائها من البلدان الغربية وبلدان حلف الشمال الأطلسي، وما طرأ من مستجدات في تركيا وخاصة الهجمات التي تعرضت لها في مختلف مناطقها، وكذلك محاولة الانقلاب التي قام بها ضبط من الجيش التركي في 15 جويلية الماضي التي تسوق في الاعلام التركي على أن "للغرب يد فيها". "الحلم الكردي" و"الخطوط الحمراء" ان "الحلم الكردي" والتحرك الكبير سواء في العراق او في سوريا ضد تنظيم "داعش" يدخل ضمن "محاربة الارهاب"، وهذا على الأقل ما تريده أمريكا وما تسعى إليه أوروبا على المديين القصير والمتوسط بعد سقوط الأهداف السابقة وخاصة منها اسقاط النظام السوري وصعود نظام "منصاع" لإرادة الغرب وما يستجيب لرؤية "الشرق الأوسط الجديد" المطبع مع إسرائيل. ولعل مفهوم "إغلاق الحدود" قد يقرأ في هذا المنظور على أنه يعتبر تنازلا من تركيالروسيا في إطار دعمها للجماعات المسلحة التي تخوض معركة كبيرة في حلب ضد الجيش السوري وحلفائه من إيرانيين ومن مسلحي حزب الله وخاصة من الروس، والتي تعتبر معركة فاصلة في مسار الحرب في سوريا. وكذلك يعتبر "تجاوزا للخطوط الحمراء" التي سطرتها تركيا منذ سنة 2011 في اطار استراتيجية الاطاحة ب"مثلث الممناعة" (المثلث الشيعي) من قبل المحور التركي القطري السعودي ومن ورائهم واشنطن. لكن مسارات الأزمة في سوريا منذ 2011 لم تسر بما تشتهيه السفن الغربية وبرز في استراتيجية الغرب مخلفات كبيرة أبرزها تأسيس تنظيم "داعش" وانتفاخه، وهو ما أدى إلى "انقلاب" نتائجها عكسيا على الدول التي دعمت الحلف ضد نظام الأسد، أصاب الجميع بشظايا انفجاره فكانت عمليات إرهابية كبيرة سمع صداها من سيدني باستراليا إلى سان فرانسيسكو في الولاياتالمتحدة، وضربت أبرزها في أوروبا. ولعل هذا "الفلتان" أدى إلى دخول عناصر جديدة إلى الصراع الروسي خاصة وان خطر هذا "الانتفاخ" أصاب العراق وأصبح يتمدد إلى أن بلغ عاصمة الرشيد، ومنه تغيرت قواعد الاشتباك واصبح الغرب "يلعب مباشرة" في سوريا، ومنه دخلت روسيا المعترك مباشرة للدفاع عن "مصالحها" الجيوسياسية في سوريا، فأصبح التوجس سيد المقف خاصة بعد أن اسقطت تركيا طائرة عسكرية روسية. الحسابات الجديدة-القديمة تلك نقطة الاختلاف فروسيا تدرك جيدا أن تركيا تبحث دعم نفسها وتعويض كلفة الصراع الدائر في حدودها الجنوبية بأرباح اقتصادية جديدة من مختلف الاتجاهات ومنها السوق الروسية شمالا وكذلك التعاون مع أوروبا غرب، والتجارة مع الإيرانيين شرقا. الا أن اسقاط الطائرة جعلها تتعرض لضغوطات من مختلف الاتجاهات وخاصة من ايران ومن خلفهم روسيا، وكذلك أضحت في تصادم مع الأوروبيين واشكالية اللاجئين السوريين فيما يعرف باتفاق اللاجئين. هذا ما طرح عزلة دولية على تركيا لم تستطع مواجهتها خاصة بعد تعدد العمليات الارهابية على أراضيها، إضافة إلى تصرف "الحلفاء الأمريكان" مع الأكراد في سوريا و"ترحيبهم" بمحاربتهم ل"الإرهاب الداعشي" وذلك بدعم "الارهاب الكردي" وفق المقاربة التركية للصراع الدائر في المنطقة، مقابل مساندة واشنطن لحلمهم في تأسيس "وطن قومي كردي" على أراضي الأكراد التاريخية. الاقتصاد و"الجفاء الأوروبي" وهذا كله يعتبر منطلقات في إعادة تركيا رسم خارطتها للسياسة الخارجية وإعادة مفهوم "تصفير العداء" الذي ميز علاقتها قبل سنة 2011، فتلك السياسة هي التي مكنتها من تطوير اقتصادها ونسجه وفق ما يخدمها، إلا أن غلبة "ايديولوجيا" الحزب الحاكم في البلاد وهو حزب العدالة والتنمية على أجندتها للسياسة الخارجية أخذ يشكل منعرجا خطيرا آخره "تجاوز الحلفاء للخطوط الحمراء" خطوط قد تصل بها إلى أن ترضخ إلى "اجترار" قطعة من هضبة الأناضول لصالح تأسيس "الحلم الكردي" انطلاقا من شمال سوريا إلى العراق مرورا بتركيا. من هذا المنظور تسعى تركيا اليوم إلى اعادة تطبيع علاقتها بتل أبيب بعد أكثر من 6 سنوات من القطيعة، وكذلك من نفس المنظور تسعى إلى إعادة تأسيس علاقتها بروسيا، وإعادة "تدوير" علاقتها بالقاهرة، وكذلك محاولة "تذليل العلاقات" مع دمشق بوساطة إيرانية غير مباشرة. فالملاحظ أن التفاهمات بين رأسي السلطة في البلدين أخذ بعين الاعتبار كل ما جئنا عليه سابقا وخاصة فيما يتعلق بالتعاون الاقتصادي وتفعيل خط أنابيب السيل التركي للغاز، وتمويله مناصفة بين روسياوتركيا ويشق البحر الأسود من روسيا في اتجاه أوروبا، إضافة إلى التراجع التركي عن اعتبارها وجهة غير مناسبة للسياح الروسيين واتفاقيات أخرى جمدت لحظة "دمار الطائرة الروسية". من هذه الوجهة يمكن ادراك مدى البراغماتية المتجددة التي اضحت تحكم العلاقات بين روسياوتركيا خاصة مع "الجفاء" الذي تبديه أوروبا تجاه انقرة، خاصة فيما يتعلق بانضمامها للاتحاد الأوروبي، وهو ما تحتاجه فعلا أوروبا لكن بعيدا عن أردوغان، خاصة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.