قد لا تكون "صرخات" السيناتور الأمريكي جون ماكين، والتي عبر من خلالها أن "الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أكبر تهديد للنظام العالمي منذ الحرب العالمية الثانية عن رغبته بأن ينضم الحلفاء الأوروبيون لجهود احتوائه"، إلا افرازات واقع دولي جديد يعكسه التطورات التي حصلت في سوريا، والتوزيع الجديد للقوى في منطقة الشرق الأوسط. وقد لا نختلف في تفسير كلام ماكين عن النظرة التي ترى الإدارة الأمريكية بها (سواء ديمقراطية أو جمهورية) للقوة الروسية وفق نظرة أحد مؤسسي الجيوسياسة البريطاني هالفورد ماكندر، أو "نظرية قلب الأرض"*، في بناء العلاقات الدولية الأمريكية بعد الحرب العلمية الثانية وحتى الدخول إلى "النظام العالمي الجديد" بداية من تسعينيات القرن الماضي. فالملاحظ أنه وحتى بعد افول نجم المنظومة السوفياتية السابقة فإن السياسات الأمريكية تجاه روسيا لم تتغير، حتى وان كانت أقل وتيرة في عهد الرئيس السابق بوليس يلتسين، الا انها لم تتغير مع اتخاذ السلطة هناك منحى تصاعديا في مختلف الأشكال خاصة من حيث البراغماتية في التحالفات الاقتصادية والسياسية (الصين خاصة) التي اتخذتها السلطة السياسية الجديدة مع بوتين منذ سنة 2000، وكذلك الدور الجديد للسياسة الخارجية الذي ارتفعت وتيرته مع ازدياد صلابة النظام الروسي، واتخاذه لخطوات غير مسبوقة منذ انحسار «تخوم الصراع البارد»، وخاصة منها التدخل العنيف في أوكرانيا و»روسنة" شبه جزيرة القرم، ومن ثم التدخل في روسيا والدفاع عن موطئ قدم متقدم في المياه الدافئة، وهو ما لا يخدم «ماكندرية» الاستراتيجية الأمريكية منذ ان قام الصراع بين الشرق والغرب بعد الحرب العالمية الثانية والتي تواصلت حتى بعد سقوط الستار الحديدي في 1989 . فالبنسبة للأمريكيين فإن «احتواء الروس» في المنطقة الباردة من العالم يضمن لهم اللعب على كل الأوتار في الشرق الأوسط لتحقيق مصالحهم هناك وفق عدة أطر واستراتيجيات أهمها «الشرق الأوسط الكبير» حسب التسمية الأمريكية أو الشرق الأوسط الجديد وفق النظرة الإسرائيلية للاستراتيجية المطروحة في قلب النسيج الشرق الأوسطي الممزوج بعدم الاستقرار والعداء للهيمنة الدخيلة والممانعة لها على واقع المنطقة الجغرافي. "المعادلة الأمريكية" و"المعادلة الروسية" فتلك الاستراتيجيات كانت خلاصة المراحل التي عملت الإدارة الأمريكية على ترتيب المنطقة وفق منطق "دمقرطتها"، ووفق منطق فك محور الممناعة للسياسة الأمريكية من قبل عدة قوى إقليمية حتم عليها وزنها جيواسراتيجي أن تكون فاعلة في المنطقة، وتمارس سياسات تكون متقاطعة مع الفرض الأمريكي الجديد والذي لم تمانع واشنطن في أن يكون تأسيسه حتى عن طريق "الدبابة". هذا الفرض الذي أخذ صبغة مباشرة (العراق وأفغانستان)، أو بالوكالة (لبنان 2006) أو غير مباشرة (الحرب السورية منذ 2011)، هو الذي ألزم طرفا آخر في المعادلة، لإعادة دخول معترك الحفاظ على آخر موطئ قدم في المنطقة وإعادة الاندماج في النسيج السياسي والعسكري في الشرق الأوسط وفق صيغ الحفاظ على الموجود والظهور بمظهر جديد، يعيد للأذهان «صحوة» الدب الروسي في الشرق الأوسط، بعد "مغامرة إعادة القرم الى روسيا الأم" من أوكرانيا، في خضم الثورات الملونة التي لعب فيها الطرفين داخليا لحسم المعارك السياسية (ثورة برتقالية أتت بسلطة موالية للغرب ثم ثورة زرقاء أطاحت بالأخيرة وولت أمرها لرئيس مسنود من الكرملين)، لترتسم خطوط الصدع على. ولعل نجاح بوتين في هذه "المغامرة" هو الذي سرع في الظهور مجددا في ساحة أخرى ل"حماية حدودها السابعة» القديمة أو «عينها في المتوسط"، سوريا. فبوتين مقتنع أن الأمريكيين لم يتخلوا عن "الماكندرية" في استراتيجيتهم ضد بلاده، كما أدركوا ذلك في العقد الأول من الألفية الجديدة من خلال حرب جورجيا (2008) وكذلك الثورات الملونة في أوكرانيا منذ 2006، وكذلك «اللعب الأمريكي الخفي» في بلدان المنظومة السوفياتية السابقة من خلال نفس "الثورات الملونة" (الثورة البنفسجية في قيرغستان سنة 2010). كان التدخل الروسي العسكري المباشر في سوريا سنة 2015 اعلانا عن بدأ منعطف جديد في السياسة الخارجية الروسية من خلال التدخل العسكري المباشر (خاصة بعد الإطاحة بالزعيم الليبي معمر القذافي)، وكان ذلك من خلال استعمال قاعدتين أساسيتين الضربات الجوية وكذلك هجومات القوات الخاصة، وبذريعة سياسية الإبقاء أبرزها الإبقاء على النظام ومنع تقسيم سوريا وتعلة أخلاقية وأمنية وهي محاربة الإرهاب في هذا البلد. انقلاب المعادلة ان التوزع الجديد للقوة الروسية في عدة مواقع استراتيجية جغرافيا، كشبه جزيرة القرم في شمال البحر الأسود، وكذلك تمكن الكرملين من ضمان قاعدته في طرطوس السورية جعل من تركيا تفكر جيدا في هذا الامتداد وإعادة التفكير في العلاقة «السيئة» بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في الصيف الماضي، إضافة لتحمل انقرة كلفة «الانعزالية» الدولية والإقليمية التي فرضت عليها بعد «العداء الروسي» بعد اسقاط الطائرة الروسية، وكذلك في علاقة بالمحور الإسلامي الذي كانت تدور فيه تركيا، وهو ما سارع بالرئيس التركي لإعادة صياغة العلاقات مع روسيا، خاصة مع "جفاء أوروبي" وهروب أمريكي ميداني في سورياوالعراق للتحالف مع الأكراد. فالتموضع الروسي الجيوسياسي الجديد حتم على سلطات أنقرة التفكير في نسج علاقات "براغماتية" مع روسيا متعلقة أساسا بمحورين وهما الصراع الدائر في حدودها الجنوبية وخاصة منه محاربة الإرهاب الإسلامي المتطرف (كانت تركيا من أكبر داعميه)، وكذلك اقتصاديا وهو الأمر المتعلق بخط نقل الغاز العابر للبحر الأسود وهو ما يمثل عصب الاقتصاد الروسي. ان هذا الانخراط التركي في شبه حلف براغماتي مع روسيا مكن من إعادة صياغة المشهد في سوريا وكذلك إعادة خلط الأوراق من جديد في الشرق الأوسط. فالعناصر المكونة للمشهد العام في الشرق الأوسط قبل انتهاء معركة حلب (معركة انتهت باستعادة الجيش السوري وحلفائه السيطرة على ثاني مدينة استراتيجية سورية) لم تعد هي المؤثر في حله على المدى المتوسط، خاصة إذا ما قارناها بتلك التي كانت قبله، وهنا الحديث خاصة على أساس مسارات السلام الفاشلة في جنيف (جنيف 1 و2) والتي حولتها موسكو الى آستانة بعد «عودة حلب»، والتي اشارت على لسان وزير دفاعها أن «أمريكا لم يعد لها أي تأثير على سوريا». العولمة الأمريكية والتموقع الروسي كلام وزير الدفاع الروسي لو قارناه بكلام السيناتور الأمريكي فإننا قد نجدهما في طرفي نقيض، فالأول يرى أنه يجب مواصلة احتواء "خطر بوتين" والثاني يرى أن الدور الأمريكي انتهى، ما يعني انه يعلن عن بداية جدية في العلاقات الدولية تلغي "العولمة الأمريكية" التي عملت على «تفتيت المفتت» لضمان مصالحها العبر قطرية والثاني عملت على التموقع من جديد لدرء خطر «العولمة» على حصرها في "الربع البارد" من الأرض، وهو ما قد يحتم إعادة تشكل جيوسياسي للعالم وخاصة في اروبا والشرق الأوسط وإعادة رسم "تخوم الصراع" بين مشروعين، قد يأتي على آخر طموح العولمة ويعطي بداية نظام دولي جديد، قد يرجع للدولة بعضا من تأثيرها في العلاقات الدولية، وقد يؤثث لصراعات جديدة وصغيرة جغرافيا لكن مؤثرة إقليميا. ولعل هذه المعادلة الجديدة المؤسسة للنظام الدولي قد بدأت بحلم وقد تأخذ طريقها إلى الشرق الأقصى على ضفاف بحر الصين الجنوبي. نزار مقني ----------- *نظرية ماكندر «قلب العالم» وضع هذه النظرية العالم الجغرافي ماكندر، أحد مؤسسي «الجيوبوليتك». ومن الأفكار التي تنادي بها هذه النظرية أن الذي يسيطر على أوروبا الشرقية تسهل عليه السيطرة على المنطقة الرئيسية ومن يسيطر على المنطقة الرئيسية يمكنه أن يحكم العالم أو الجزيرة العالمية. بعد ماكندر نشر محلل آخر وهو نيوكولاس سبايكمان، تحليله الشهير منتصف القرن الماضي يشير فيه أن «من يحكم رملاند يحكم أوراسيا، ومن يحكم أوراسيا يسيطر على مقاليد العالم»؛ ورملاند هي المنطقة التي يطلق عليها حافة اليابسة. وحافة اليابسة هي قوس الأزمات عند بريجنسكي وهي العالم العربي الإسلامي وتسمّيه الولاياتالمتحدة الشرق الأوسط الكبير.