تستهل الأحزاب السياسية السنة الإدارية الجديدة، وهي في حالة إستنفار ومنافسة مع إقتراب الإستحقاق الإنتخابي البلدي الذي تستعد البلاد لتنظيمه يوم 6 ماي القادم، وهو ما يدفع إلى طرح تساؤلات عديدة حول أداء هذه الإحزاب والصراعات التي تخوضها في ما بينها في السر والعلن، واعتزام عدد منها الدفع في إتجاه إجراء تحوير مفصلي للنظام السياسي في البلاد. ولم تجد أغلب هذه الأسئلة التي تحوم حول المشهد السياسي أجوبة واضحة، ولا حلولا عملية لتجاوز هذا الوضع المضطرب لمكوناته الحزبية، بعد سبع سنوات من الثورة التونسية، نظرا للتقلبات المتسارعة التي تتسم بها «التحالفات» وما تلعبه من دور في «التجاذب» الحاصل بين رأسي السلطة التنفيذية (رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة)، وعلاقة كل ذلك بمطالبة بعض الأحزاب بتغيير طبيعة النظام السياسي شبه البرلماني القائم حاليا. كما تتصاعد التخوفات يوما بعد يوم، من إمكانية التراجع عن المكاسب التي تحققت للبلاد إبان الثورة كالديمقراطية وتنظيم إنتخابات تشريعية ورئاسية نزيهة وشفافة وغيرها من المكاسب.. مثلما عبرت عن ذلك أغلب الأحزاب المعارضة في أكثر من مناسبة. كما كان المناخ الإنتخابي المشحون الذي طبع العلاقة بين الأحزاب في الثلاثية الأخيرة للسنة الجارية، أبرز الأسباب التي إستند إليها الائتلاف الحاكم الثلاثي الجديد (حركتا النهضة ونداء تونس وحزب الإتحاد الوطني الحر) لمطالبة الهيئة العليا المستقلة للانتخابات تأخير موعد الإنتخابات البلدية، بعد أن كانت مقررة ليوم 25 مارس 2018 . فما مدى مشروعية مطالبة أحزاب بارزة بتغيير نظام الحكم في تونس؟ وهل أن البلاد تعيش فعلا أزمة حكم متواصلة بسبب «تشتت» السلطة التنفيذية ؟ وهل أثر آداء هذه الأحزاب وطبيعة التحالفات الحالية القائمة، على نسق نمو الديمقراطية الناشئة بالبلاد وتطور المشهد السياسي والحزبي في تونس؟ وما جدية التخوفات المصرح بها بخصوص إمكانية التراجع عن شفافية الإنتخابات ونزاهتها، وعن مكسب الديمقراطية بصفة عامة؟ فبعد أكثر من ثلاث سنوات على دخول الدستور الجديد حيز النفاذ، والاجماع الحاصل حول مضامينه، مازالت بعض الأحزاب تفكر بصوت عال، منتقدة طبيعة النظام السياسي الذي أقره الدستور، في حين تفكر أخرى في سبل «إصلاح» أو «تعديل» هذا النظام شبه البرلماني، وإحالة «المركزية» على القصر الرئاسي بقرطاج، عبر منح صلاحيات أشمل وأوسع لرئيس الجمهورية، وتقليصها بالنسبة إلى رئاسة الحكومة. النظام السياسي في موضع تساؤل يعتبر لطفي زيتون القيادي بحزب حركة النهضة، من أوائل المبادرين بالدعوة إلى ضرورة إجراء تعديل دستوري، يتم بمقتضاه توسيع صلاحيات رئيس الجمهورية، وذلك عبر مقال نشره بعيد انجاز الانتخابات الرئاسية سنة 2014 ، معللا ذلك بأن « الدستور الحالي سبب أزمة الحكم التي تردت إليها البلاد، لأنه أقر نظام حكم شبه رئاسي شبه برلماني»، وفق تعبيره. من جانبه، أكد برهان بسيس المكلف بالشؤون السياسية بحركة نداء تونس، خلال استضافته في برنامج تلفزي بث يوم 13 سبتمبر 2017، أن حزبه يفكر رسميا في تنظيم استفتاء بخصوص تغيير النظام السياسي الحالي، معتبرا أن النظام الحالي يحتاج إلى رأي الشعب التونسي فيه، خاصة وأنّه «بلغ أقصاه ولا يمكنه أن يقدم أكثر مما قدمه». وفي مقابل ذلك، تعارض مكونات واسعة من الأحزاب المعارضة هذا الاقتراح بشدة، على غرار الجبهة الشعبية والتيار الديمقراطي، معربة عن تخوفها من امكانية التراجع عن الديمقراطية والعودة الى مربع الاستبداد في صورة تغيير النظام السياسي القائم حاليا، ومركزة الحكم برئاسة الجمهورية. ومن الملاحظ، أن هذا التجاذب بدأ يطفو على السطح بشكل لافت، بعد إقرار رئاسة الجمهورية إحداث لجان مختصة ذات إختصاصات عدة كالتعليم والنقل، مرتبطة مؤسساتيا بمجلس الأمن القومي الذي يترأسه رئيس الجمهورية. وقد تعالت الأصوات المنتقدة لهذا الإجراء، رغم تأكيد مستشار الأمن القومي برئاسة الجمهورية، الأميرال كمال العكروت في حوار نشر له بأسبوعية «الشارع المغاربي» (الصادرة في 18 ديسمبر 2017)، أن اللجان التي تمّ إحداثها مؤخرا صلب المجلس ليست سابقة بل هو إجراء نصّ عليه أمر رئاسي صدر سنة 1990 ، ويتعلّق بتنظيم عمل مجلس الأمن القومي، مشيرا الى أنها «عمل جماعي وتشاركي لا علاقة له بالعمل الحكومي... وبأن هذا المجلس ليس حكومة ظلّ مثلما يقع الترويج له». كما برز في الفترة الأخيرة، «نوع من الإختلاف في الخطاب»، بين رئاسة الجمهورية (ممثلة في تصريحات الناطقة الرسمية باسمها) ووزارة الشؤون الخارجية ، بخصوص الأزمة الحاصلة مع شركة الخطوط الإماراتية للطيران، بعد منعها التونسيات من السفر على متن طائراتها، وهو ما أثار فضول الرأي العام وتساؤل التونسيين بشأنها، حيث أكدت سعيدة قراش أن الاشكال فني ولا يمس من العلاقات السياسية بين البلدين، في حين طالب خميس الجهيناوي الإمارات بتقديم إعتذار رسمي لتونس، في تصريح لإحدى الإذاعات الخاصة. ويرى الكاتب والصحفي الهادي يحمد، أن عملية التحول التي تعيشها البلاد منذ سبع سنوات فرضت قواعد سياسية جديدة، مما أربك الفاعلين السياسيين القدامى والجدد، وهو ما يفسر حالة «عدم التأقلم مع النظام السياسي الجديد»، معتبرا أنه أمر طبيعي نظرا إلى أن فترة الإنتقال الديمقراطي في تونس كانت قصيرة نسبيا مقارنة بنظيراتها التي جرت في عدة بلدان أخرى. ويقول يحمد « إن ما يراه الكثيرون «تشتيتا» للسلطة السياسية ربما يكون في الحقيقة عملية صحية في الديمقراطيات الناشئة «، نافيا أن يكون الوضع الراهن ناتج عن أزمة سياسية ، مستعيضا عنه بمصطلح «الانحباس السياسي» الذي جاء نتيجة عملية «التوافق» التي أدت الى التقليص من حدة الإستقطاب، لكنها في المقابل دفعت بالمشهد السياسي الوطني الى وضعية الانحباس والشلل، حسب رأيه. وتابع قوله «في كل الديمقراطيات هناك حزب حاكم فائز في الإنتخابات ومعارضة رئيسية، وهي ثنائية غابت في الساحة السياسية في تونس، مما تسبب في حالة الانحباس التي تهدد تطور التجربة الديمقراطية الناشئة». آداء الأحزاب و «الإنحباس» السياسي يظل «خيار التحالفات» القائم بين جزء واسع من الأحزاب السياسية في تونس، في موضع سؤال ونقد مستمرين، على الأقل بالنسبة إلى التحالفات الفاعلة في الواقع. ويعتبر التحالف الذي يجمع النقيض بنقيضه، والقائم بين حركة نداء تونس (حركة دستورية ليبرالية اجتماعية) وحركة النهضة (حركة اسلامية)، أكثر التحالفات «المربكة» للمشهد السياسي بشهادة قياديين من كلا الحزبين. فبعد توافقات كثيرة وعسيرة ، جمعت هذين الحزبين منذ الإنتخابات التشريعية لسنة 2014 ، كان لنتائج الإنتخابات التشريعية الجزئية بألمانيا التي جرت مؤخرا وقع حاد على الشريكين في الحكم، حيث أكدت حركة نداء تونس على إثرها إعتزامها تقييم ومراجعة هذا التوافق. ويرى الهادي يحمد في هذا الصدد، أن التحالف الرئيسي القائم اليوم، هو ذلك الذي يجمع حركتي نداء تونس والنهضة، لكنه في المقابل غير مبني على رؤية ومشاريع متقاربة أو مشتركة، معتبرا أن بقية التحالفات «ثانوية» ولم تغير كثيرا من المشهد السياسي. ولاحظ أنه يراد لهذا التحالف أن يكون إستراتيجيا في نظر حركة النهضة على الأقل، وهو ما أدى الى «إنحباس» الحياة السياسية وتكلسها، على حد تعبيره. من جهة أخرى، ظلت بعض الأحزاب مضطربة صلب تحالفاتها، مثل حزبي آفاق تونس والإتحاد الوطني الحر، الذين وقعا على «وثيقة قرطاج» وأعتبرا من ضمن المكونين الرئيسيين للإئتلاف الحاكم منذ سنة 2014، قبل أن يخرج حزب الإتحاد الوطني الحر من الحكم ليعود بعدها إلى التحالف مع حركتي نداء تونس النهضة في أقل من سنة، وقبل أن يقرر حزب آفاق تونس مغادرة الحكم، ودعوة ممثليه بالحكومة إلى الإستقالة منها. وينتقد الباحث في الاعلام والصحفي محمد أمين بن مسعود مكونات المشهد الحزبي، معتبرا أن معظم الأحزاب التي ولدت في فترة حكم بن علي وبورقيبة لم تجد المقدمات والمقومات التأصيلية للبقاء والتعامل مع الواقع الجديد، مما فتح الباب أمام أحزاب «قديمة جديدة» وأخرى جديدة لدخول المعترك السياسيّ، لكنّها في الواقع أحزاب مبنية على الأفراد وليست على المشاريع السياسية والفكرية، ومبنية على الطمع الانتخابي السهل وإستدرار المغانم السياسية دون عمل قاعدي حقيقيّ، وفق تقديره. وأضاف أن هذه الأحزاب، هي جزء من مشهدية المال والإعلام والعلاقات مع الخارج، بما يكرس واقع «الديمقراطية بلا أحزاب ديمقراطية» ويزيد من حالة الهجانة التي عليها النظام السياسيّ القائم. ولاحظ بن مسعود، أنّ حالة التّشتت التي تتسم بها التحالفات بين الأحزاب، تعود بالضرورة إلى طبيعتها باعتبارها «إنتخابية وبراغماتية بامتياز»، حيث تتجمّع مع المصلحة الإنتخابية لتنفرط بعدها بمجرّد الانتهاء من هذه الإستحقاقات، أو تستجمع أطرافها لاقتسام كعكة السلطة. ويقول في هذا الصدد «إن المتمعن اليوم في حالة التشتت التي يتصف بها التحالف الحاكم، بامكانه أن يبصر الإستحقاق الانتخابي البلدي القادم كعنصر مفسّر قويّ، والذي بات حصان الرهان القويّ، بعد أن صار نظام الحكم رئاسياّ في قرطاج وبرلمانيا بالنسبة للإستحقاق البلدي وفق نصّ الدستور، الأمر الذي يفسّر حالة التجاذب الحاصلة ما بين حركتي النهضة والنداء من جهة ومع حزب آفاق تونس من جهة أخرى». تخوفات من " تراجع " الديمقراطية وتدخل مكونات المشهد السياسي وخاصة منها الأحزاب، العام الجديد، في ظل تعالي أصوات بعضها متخوفة من إمكانية التراجع عن الديمقراطية، وأخرى محذرة من إمكانية المس من شفافية ونزاهة العملية الإنتخابية (أغلب أحزاب المعارضة، وعدد من الأحزاب الموقعة على «وثيقة قرطاج» على غرار الجمهوري وحركة مشروع تونس والمسار وحركة الشعب). وتشترك جميع هذه الأحزاب في رؤيتها للتوافق بين حركتي النهضة ونداء تونس، الذي أفرز وفق تقديرها توجها نحو تغول هذين الحزبين، و نتج عنه محاصصة حزبية في الحكم شملت أيضا الهيئات الدستورية المستقلة، مثل الهيئة العليا المستقلة للانتخابات التي تم إنتخاب رئيس جديد لها بعد فشل عدة جلسات عامة إنتخابية في ذلك. ويعتبر هادي يحمد، هذه التخوفات مشروعة وحقيقية، لأن العملية السياسية جامدة ولم تستطع التطور حتى الآن، معربا عن خشيته من أن يودي هذا الوضع إلى تسجيل تجاوزات تمس العملية الانتخابية تحت مسمى «مصلحة البلاد والاستقرار السياسي». وقال في هذا الصدد «إن صفقة الوفاق (المقصود بين حركتي النهضة ونداء تونس) أدت حتى الآن إلى ضرب التنافس السياسي، وقد تودي مستقبلا إلى تجاوز كل آليات التداول السلمي على السلطة، وبالتالي تجريد العملية الإنتخابية من دورها، مما قد يجهض التجربة الديمقراطية برمتها» . من ناحيته، يرى بن مسعود أنه لا مجال للخوف من تسجيل تراجع في مستوى نزاهة وشفافية الإنتخابات، بفضل التجارب التي راكمتها هيئة الإنتخابات في هذا المجال، وما يتحلى به المجتمع المدني من يقظة قادرة على الحيلولة دون خسارة المكسب الانتخابي الذي ناضل في سبيله التونسيون. وفي المقابل، يذهب الاتحاد العام التونسي للشغل الى أبعد من ذلك، حيث أكد أمينه العام نور الدين الطبوبي يوم 17 ديسمبر الجاري في سيدي بوزيد، على ضرورة أن يذهب المواطنون الى الاقتراع، نظرا لوجود نوايا لدفع التونسيين نحو الاستقالة من العملية الانتخابية والعزوف عن الشأن العام، مهددا بأن الاتحاد سيطالب بإعادة أمانة السلطة الى المواطنين، وتنظيم انتخابات تشريعية مبكرة تعيد تشكيل المشهد السياسي، وتخرج البلاد من أزمة الحكم المتواصلة