ينصّ الفصل 38 من دستور الجمهورية الثانية على «أنّ الدولة توفّر الوسائل اللازمة لضمان سلامة وجودة الخدمات الصحّية»، ولكن بين ما ينصّ عليه الدستور وما يعيشه المواطن يوميا في مستشفياتنا من ويلات ومن مآس، ثغرة تُحتسب ب»السنوات الضوئية».. وكأن الأسقام والامراض لا تكفي المرضى حتى يُضاف إليها نقص الاطارات الطبية وشبه الطبية، ونقص أطباء الاختصاص، ونقص التجهيزات ورداءة الخدمات المقدّمة وافتقاد أدنى شروط التعامل «الإنساني» مع المرضى في أغلب المؤسسات الاستشفائية العمومية بسبب الاكتظاظ والضغط.. وضعية مأساوية أنتجت أخطاء طبية قاتلة، وسهّلت اختراق منظومة الصحّة من طرف «مافيات» المتاجرة بصحّة المرضى من خلال تزويد صيدليات المستشفيات العمومية والخاصّة بأدوية منتهية الصلوحية أو فاسدة مثلما حصل مع «اللوالب القلبية» أو جرعات «التخدير القاتلة»، أو من خلال نهب هذه الادوية والاتجار بها بعد ذلك بطريقة غير شرعية عبر تهريبها لأقطار مجاورة.. وبعد تفجّر قضية قتل الرضع بسبب ما سمّي بال»Infection nosocomiale» أو عدوى المستشفيات الشديدة الناتجة بالأساس عن تعفّن جرثومي يشتبه - وفق التحقيقات الأولية - أنه انتقل لحوالي 14 رضيعا وأدّى إلى وفاتهم طبقا لما تسنّى لنا من معطيات شبه مؤكّدة رغم أن الوزارة في مرحلة أولى اعترفت فقط بحوالي 11 رضيعا يوم السبت، لتضيف يوم أمس الوزيرة المعينة بالنيابة سنية بالشيخ حالة وفاة جديدة، ليرتفع عدد الرضع الذين وافتهم المنية في ظروف مسترابة وفق الرواية الرسمية لوزارة الصحّة إلى حوالي 12 حالة وفاة، في حين تتحدّث مصادر أخرى ومنها رئيس الجمعية التونسية لضحايا الاخطاء الطبية الأستاذ صابر بن عمّار أن قسم الولدان بمستشفى الرابطة يشهد تفشّي حالة «وبائية» بالقسم وأنه لا يثق في لجان التحقيق الوطنية وأن الجمعية وجّهت مراسلة رسمية لل»يونيسف» ولمنظمة الصحّة العالمية لمطالبتها بإرسال بعثة دولية للتحقيق في اجتياح الحالات الوبائية لبعض المستشفيات العمومية !.. وقد بات لزاما اليوم أن ينظر الى هذا الملف من زاوية أعمق وهي زاوية تعقيم المستشفيات العمومية خاصّة وأن هذا التعفّن الجرثومي انتقل للرضع في المصل الغذائي الذي تم إعداده بمخبر أو بصيدلية المركز وفق تحقيق أوّلي أجرته رئيسة قسم الولدان، التي تؤكّد بعض مصادرنا من داخل الوزارة وكذلك المستشفى أن هناك «أكباش فداء» ستقدّم للتستّر عن»الجريمة» الأخطر والأكبر.. فهل تحترم المستشفيات العمومية والخاصّة ومخابر اعداد المحاليل الغذائية وغيرها من المحاليل وخاصّة الخلطات الوريدية، شروط التعقيم التي يفرضها القانون خاصّة وأن بعض المصادر تشير الى أنه ورغم التحذيرات المتكرّرة من عدم استعمال تقنية «l'onyde d›ethylène» الممنوعة دوليا منذ 2006 بسبب ثبوت إحداثها حالات تعفّن وتسمّم وفي الاصابة بأمراض خطيرة مثل السرطان في تعقيم المستلزمات الطبية داخل المستشفيات والمصحات إلا أن العديد من مستشفياتنا تقدم على استعمالها. ماذا يحدث في مستشفياتنا؟ ذلك السؤال الذي يفترض على مسؤولي الدولة وخاصّة مسؤولي قطاع الصحّة الاجابة عليه بكل مسؤولية ودون «محاولات للتبرير».. تعقيم المستشفيات.. المأساة في تصريح ل«الصباح» أكّد رئيس جمعية ضحايا الاخطاء الطبية أن وزير الصحّة المستقيل عبد الرؤوف الشريف كان قد وجّه منذ أسبوعين منشورا داخليا يطالب فيه بضرورة تعقيم بعض الأقسام الحساسة والدقيقة داخل المستشفيات الكبرى والتي تكون فيها عدوى انتقال الاصابات الجرثومية والبكتيرية سهلة، ولكن هذا المنشور الوزاري بقي حبرا على ورق ولم يفعّل نتيجة البيروقراطية، وأن بعض المستشفيات العمومية لم يتم تعقيمها منذ سنوات رغم أن القانون يفرض التعقيم كل ثلاثة أشهر. هذا ويذكر أنّه منذ أشهر تم اغلاق أحد أقسام مستشفى الأطفال بباب سعدون لتعقيمه وذلك بعد الاشتباه في وفاة مسترابة لخمسة أطفال، كما أكّد لنا الأستاذ صابر بن عمّار انه مع بداية شهر فيفري شهد مستشفى صفاقس، 5 حالات وفاة مسترابة ومشابهة لوفاة رضّع الرابطة، خاصّة وأنه مع بداية السنة شهدت مستشفيات كل من صفاقسوسيدي بوزيد وكذلك سيدي بوزيد حالات وفاة مسترابة لأطفال تم الاشتباه بانهم موتهم ناتج عن مرض الحصبة وهو مرض فيروسي معدي ولكن بعض المصادر الطبية حينها شكّكت في أسباب الوفاة، ولعلّ كارثة مركز طب الولدان بالرابطة تؤكّد الشكوك بشأن حيثيات حالات الوفاة السابقة. ويذكر أن منشور عدد 08 لسنة 2015، الذي راجع منشور عدد 60 المؤرّخ في 14 أوت 2013 المتعلّق بتنظيم خدمات تعقيم المستلزمات الطبية بالهياكل الصحيّة العمومية وتعزيز جودتها ونجاعتها في اتجاه مزيد إحكام الاجراءات الخاصّة بعمليات التعقيم من ناحية وتعميمها لتشمل المؤسسات الخاصّة، أقرّ اجراءات بعد معاينة حالات تسمّم وتعفّن ناتجة عن نقص «التعقيم» في أغلب المؤسسات الصحية، ومن بين هذه الإجراءات الجديدة، نجد منع إعادة تعقيم المستلزمات الطبية ذات الاستعمال الواحد منعا باتّا، واعادة تنظيم خدمات التعقيم للتدرّج نحو منظومة التعقيم المركزي على مستوى كل مؤسسة وذلك في أجل لا يتجاوز خمس سنوات من تاريخ اصدار هذا المنشور. ولكن أخطر ما نصّ عليه هذا المنشور هو التخلّي نهائيا عن طريقة التعقيم بالحرارة الجافّة في أجل لا يتجاوز السنتين من تاريخ اصداره، والتخلّي نهائيا عن طريقة التعقيم ب»الأكيد دييلتيلان» oxyde d'éthylène في أجل لا يتجاوز سنة واحدة من تاريخ إصداره ولكن بعض المعطيات تشير وأنه بعد أربع سنوات من اصدار هذا المنشور ما تزال المستشفيات والمصحّات تعمل بذات تقنيات التعقيم! المنشور يوصي أيضا بضرورة تعيين مسؤول قار يكون «طبيبا أو صيدليا أو مهندسا أو فنّي سامي من ذوي الخبرة في مجال تسيير عمليات التعقيم وتنظيمها ومراقبتها ومؤهّل على مستوى كل مؤسسة للاشراف على تركيز وتسيير عمليات التعقيم بما في ذلك تنظيمها ومراقبتها والتثبّت من كل المعطيات المتصلة بانجاز دورة التعقيم والعمل على تكوين أعوان التعقيم لتطوير خدمات التعقيم بالمؤسسات الصحية والعمومية والخاصّة.» لكن الواقع يثبت أن الطاقم المشرف على عمليات التعقيم – ان حدثت طبعا- يكون من غير الاطارات التي ضبطها المنشور! والى جانب النقص الحاصل في تعقيم المستشفيات كشف تقرير صادر سنة 2015 ومتزامن مع المنشور عدد 08 بعنوان «مسح وطني حول تحضير خلطات التغذية الوريدية لدى حديثي الولادة في المستشفيات التونسية» عن إخلالات عديدة في طريقة تحضير الخلطات التغذية الوريدية والتي توجّه عادة لمرضى في حالات حرجة أو لأطفال حديثي الولادة أو يعانون من نقص في النمو كما هو الوضع بالنسبة لرضّع مركز «طب الولدان» .وقد انتهت الدراسة إلى أن 25 % فقط من إعداد خلطات التغذية الوريدية تتم تحت المسؤولية الصيدلانية أي تحت إشراف صيدلي و أن متوسط الإنتاج السنوي لهذه الخلطات هو 1735 وحدة أي أن حوالي 433 خلطة وريدية فقط تكون مطابقة للمواصفات العلمية وتحترم الشروط الصحّية.. الدراسة أشارت أيضا إلى أن نصف الخلطات التي تُعطى للرضع يتم مراقبتها عبر الفحص البصري فيما يتم القيام بفحص التعقيم في 25 % فقط من الحالات.. ومن بين الاخلالات التي ذكرتها الدراسة أنه أثناء تحضير الخلطات لا يتم التحقّق من الأدوية المكوّنة لها وأوصت الدراسة في النهاية باتخاذ تدابير ضرورية لمعالجة الإخلالات لهذه الخلطات الوريدية التي تُقدم للأطفال الرضع فور الولادة.. ولكن هذه الدراسة ظلّت حبيسة الأدراج والنتيجة وفاة بالعشرات للأطفال حديثي الولادة، البعض منها تحوّل إلى شكل وبائي كما حصل في القضية الأخيرة لوفاة الرضّع. تسليم الرضع استفزّت طريقة تسليم الرضّع بعد وفاتهم المسترابة الرأي العام، وكانت صورة نقلهم في كراذن من طرف عائلاتهم مؤلمة وغير انسانية، ولئن توعّدت الوزيرة بالنيابة أنه لن يتم مستقبلا تسليم جثث الرضع والأطفال في»كراذن» الاّ أن المأساة لم تتوقّف هنا... فالأستاذ صابر بن عمّار أكّد ل»الصباح» أن عند تسليم جثث الرضّع ورغم ظروف الوفاة المسترابة لم يتم اعلام وكيل الجمهورية ولم يتم اخضاعهم للتشريح للوقوف على أسباب الوفاة كما هو معمول به في قضايا مشابهة، ويقول بن عمّار»هذا التصرّف لا يفهم منه الاّ أنه يرمي الى غلق الملف والتكتّم والتستّر على المورطين». كما أكّد صابر بن عمار، على أنه خلافا لما أعلنت عنه وزيرة الصحّة، فإنّ ‹›السيروم›› الذي تم استعماله في إعداد المستحضر الذي تم تقديمه للرضع هو المتسبب في حالات الوفاة، داعيا إلى ضرورة توضيح مصدر هذا ‹›السيروم›› الذي لا يعرف ان كان صنع داخل أو خارج المستشفى، مؤكّدا أنه على استعداد لتقديم شهادته أمام القضاء رفقة شاهد آخر من مستشفى الرابطة. منية العرفاوي