د. عبدالله الزين الحيدري أستاذ علوم الإعلام والاتصال كثيرا ما ينخرط الإعلام الجماهيري في لعبة الكشف والحجب، ولنقل إنّها فرضيّته الأساسيّة، بل هي شرطه الأوّل في العمل كحقل تدور بداخله ألعاب بلاغيّة هيّ بلا ريب أكثر خطورة من سابقتها، لأنّه في الميديا على وجه الخصوص، الكشف لا يتمّ إلا لتحقيق النقيض. فإذا كان هدف الإعلام في كلّ طور من أطواره هوّ الكشف عن الحقائق ومعالجتها، فإنّ غايته الأولى هيّ الحجب لما من شأنه أن يؤدّي بنجاح إلى ممارسة السّلطة، ذلك أنّ الكشف المطلق لا يمكن تحقيقه في مستوى الإعلام الممأسس، الذي تحكمه المصالح المختلفة، ويسكنه الصّراع بكل أنواعه الفكري والثقافي والأيديولوجي، ويظلّ بمقتضى هذا الحال ممارسة ممنوعة لأنّه يعيق آليّة تحقيق مصالح البعض من الفئات المهيمنة في المجتمع، وهذا هو شأن "الحقيقة" بشكل عام. يؤكّد هوبس (Hobbs) في هذا المضمار أنّ حقيقة واحدة تحظى بترحاب كلّ الناس، تلك التي لا تتعارض مع أيّة مصلحة ولا مع أيّة رغبة إنسانيّة. وهذه الحقيقة لا وجود لها على الإطلاق.
ولعلّنا نجد في نظريات الإعلام والاتصال المعنى الأكثر وضوحا لما أسميناه بلعبة الكشف والحجب. فنظريّة دوّامة الصمت Spiral of Silence، وهي إحدى النظريّات التي تعتبر وسائل الإعلام الفاعل الرّئيس في صناعة الرّأي العام، تبيّن وجود دوائر صمت تحدثها الوسائل ذاتها في اهتمامها وتركيزها على قضايا معيّنة تشغل الرّأي العام وتؤثّر على اتجاهه على المدى البعيد، ويعرف هذا التأثير عند إليزابيث نيومان (Elisabeth Neumann) بالتأثير التراكمي من خلال التكرار. ولا تعدو أن تكون دوائر الصمت هذه حجبا مقصودا لواقع يعيشه في صمت، البعض من الأفراد والفئات الاجتماعيّة. ونجد كذلك نظريّة وضع الأجندة Agenda-Setting Theory المعروفة بنظريّة ترتيب الأولويات، وتشير فروض هذه النظريّة إلى حرص وسائل الإعلام على إبراز قضايا دون أخرى وجعلها في بؤرة اهتمام الجمهور ممّا يفسّر أن وسائل الإعلام الجماهيري، في متابعتها ومعالجتها للأحداث الجارية في المجتمع، إنّما تكشف عن جانب معيّن من واقع الأحداث وتغفل بشكل مبني جوانب أخرى. ومن الأمثلة البارزة لفهم لعبة الكشف والحجب في الإعلام العربي، نستعرض في البداية وباختصار الإستراتيجية الميدياتيكيّة التي توخّتها قناة الجزيرة الإخباريّة لمتابعة أحداث الثورات المتسارعة في بعض البلدان العربيّة، في سياق التغطية الإخبارية لأحداث ما أصبح يعرف بالربيع العربي.
مخاطر حجب السّياق في العمل الميدياتيكي على امتداد الفترة التي استمرّت فيها ثورة البحرين (1)، كانت قناة الجزيرة موغلة في نقل أحداث الثورة الجارية في ليبيا بشيء من العناية الإعلاميّة الفائقة، القائمة على التحقيق الميداني، والنقل الفوري لأبرز ملامح الصّراع بين الثوّار وكتائب الزّعيم الليبي معمر القذافي، والمقابلات التلفزيونيّة مع رموز من المعارضة الليبيّة، والتحليل المستمرّ لتطوّر الأوضاع السياسيّة والعسكرية في حضور خبراء عسكريين ومفكرين وإعلاميين ومحلّلين سياسيين. لقد كان المشهد الليبي حاضرا بقوّة على شاشة الجزيرة.
على بعد عشرات الكيلومترات فقط من مقرّها بقطر، لم تكن قناة الجزيرة عابئة بمفاصل الثورة المشتدّة في البحرين، بل كانت تحجبها عبر صيغ من الكشف المزدوج. أمّا الأوّل، فهو كشف توضيحي يعبّر عنه رولان بارت (2) بالمتابعة، ويتمثّل في إدراج تقارير إخباريّة شاحبة، خالية من العمق الإخباري، تقارير موجّهة نحو إبراز المساعي الرّسميّة لاحتواء حركة الاحتجاج المتصاعدة. ففي الوقت الذي كانت تدور فيه أحداث دامية بدوّار اللؤلؤة، أحداث حبلى بالرّهانات الخطيرة الجيوسياسيّة والاقتصادية والثقافيّة، كانت قناة الجزيرة ترسم لمشاهديها المنظور الذي يجب رؤية المشهد منه، وذلك من خلال بثها لصور عربات الجيش ودباباته المنتشرة في شوارع لا تسيل فيها الدماء، صور مصحوبة بخطاب متكرّر لرموز من السّلطة. وهذا هوّ الذي يسمّيه رولان بارت الإرساء الذي له وظيفة أيديولوجيّة حين يتمّ "استخدام العناصر "اللّسانيّة "لإرساء" (أو تقييد) القراءات المفضّلة للصّورة : "لتثبيت سلسلة المدلولات المناسبة" (3)، والحال أنّ ما كان يتراكم من أحداث في دوّار اللّؤلؤة مليء بالفوضى بالمعنى الفيزيائي للكلمة، ويمثّل بالتالي مادة إخباريّة جديرة بالتغطية الإعلاميّة من زوايا مختلفة (4) وجديرة كذلك بأن تحتلّ صدارة المواد الإعلاميّة المدرجة في النشرات الإخبارية والمواجيز على غرار ما دأبت عليه القناة ذاتها في تغطيتها لثورتي تونس ومصر من زوايا متعدّدة.
أمّا الصنف الثاني فهو الذي نسمّيه بالكشف الإجرائي الرّامي إلى حصر الاهتمام بالقضايا الواردة في أولويّة أجندة القائمين بالاتصال، وصورة ذلك في مضمارنا هوّ أنّ قناة الجزيرة، في متابعتها اليقظة، المستمرّة للثورات في سوريا وليبيا واليمن، كانت تمنح الانطباع لمشاهديها بوجود إحاطة إعلاميّة دقيقة، تنتجها بحرصها "المعهود" على "التغطية المستمرّة" لكلّ الأحداث في العالم من دون استثناء، وحرصها كذلك على الوفاء لشعارها "الرّأي والرّاي الآخر"، وفي الوقت ذاته، كانت تحجب وراء تلك الجهود الصّحفيّة المبذولة للكشف عن تطوّرات الأوضاع في صنعاء وعدن وبنغازي وطرابلس وغيرها من المدن والقرى اليمنيّة والليبيّة، كانت تحجب أطوار الثّورة العارمة في البحرين، وهي الثورة التي لا تقلّ أهميّة عمّا يجري في سائر بعض البلدان العربيّة، من حيث الرّهان السّياسي المطروح محليّا وإقليميّا ودوليّا، ومن حيث القيمة الأنثروبيّة للأحداث بحدّ ذاتها. وعندما تحجب القناة الواقع المشار إليه وراء عمليّة الكشف المنظّم، تلغي السّياق، كعنصر أساسي في التواصل شدّد على أهميّته ياكوبسون (Jakobson)، فتتحوّل وظيفة الكشف من وظيفة إخباريّة إلى وظيفة تضليليّة مفضوحة تؤدّي غالبا إلى انهيار المؤسّسة الإعلاميّة مهنيّا وأخلاقيّا.
هندسة هذه اللعبة في الساحة الميدياتيكية في تونس، لاحت خطورتها قبل أن تباشر حكومة السيد حمادي الجبالي المنتخبة مهامّها الثقيلة لإرساء دولة الحقّ والقانون، وتوفير ما يسمّيه كانط بالكرامة الشّخصيّة، وقبل أن تضطلع بمسؤوليّة كنس الفساد من مؤسّسات المجتمع المدني، والانكباب الفعلي على تدبير الحلول الاقتصاديّة واحتواء المشكلات الاجتماعيّة الجاثمة منذ عقود على حياة النّاس، إذ بدأ يطفو على السّطح الميدياتيكي خطاب ينذر بخطورة الحالة السّياسيّة وتدحرجها إلى أسوإ ما كانت عليه قبل الثورة. وسرعان ما بدأ هذا الخطاب يزدهر في تناغم مثير بين قنوات الإعلام السّمعي المرئي بالخصوص. خطاب يسخر من أوّل رئيس يُنتخب، ويُقبّح من دون منظار أوّل حكومة شرعيّة، ويتصدّى بقوّة لفتح باب تحوّل المبادئ التي أفرزتها الثورة، ولا يتوانى في عدّ اختيار الشعب اختيارا ساذجا، مقدّمة للإفصاح عن فشل الحكومة والدعوة إلى إسقاطها وإلغاء دورها، لأنّ الخطاب في بعض مفاصله ينذر أيضا بأنّ استمرار هذه الحكومة سؤيدّي إلى خراب المحتوى الرّمزي والديمقراطي للدولة.
ولم يكن لهذا الهدير منظومة فكريّة مترابطة، إنّما جرى على نحو ساذج الأبعاد تقابل فيه تزوير الحقائق والحوادث (5) مع حملات تشويه الأداء الحكومي، وعرضه في المجال العمومي على أنّه المقصّر الأساسي والعلّة العليا للتدهور الأمني والاقتصادي والثقافي في تونس. وتضخّمت صورة التدهور في الأذهان عبر الكشف المدروس بما لا يدع مجالا للشكّ من أنّ الحكومة هيّ المولّد الحقيقي لهذه الحالة التي لم يعهدها التونسيون.
كما لم يكن هذا الهدير وليد فلسفة في الاختلاف. وحتى إن لاح في ظاهره ضرب من ضروب الاختلاف، فإنّه اختلاف باغي غير صادق يخفي حقيقة كبيرة، لأنّه كلما تراكم، وابتعدنا عن زمن أحداثه، تجلّى وجهه الحقيقي بوضوح. إنّه اختلاف من أجل الإطاحة بخصم سياسي فيه ابتعاد عن الإدراك العميق لجوهر الحقّ في الاختلاف. فهو لم يكن بالمرّة قائما على جدليّة الفعل السياسي الخالص الرّامي إلى بناء الوطن وحماية المبدأ الديمقراطي (6).
ظلّت هندسة الكشف الميدياتيكي، في هذا المشهد المتلاطم بالمصالح الضّيقة، منحصرة في إبراز العناصر الملائمة التي تجيز طرح سؤال مركزي : "كيف ينبغي إسقاط هذه التشكيلة السياسية المنتخبة". ولقد انخرطت الميديا في همّ هذا السؤال بهوَس المتصدّين للسلطة الجديدة، لتجعل منه موضوعا محوريّا مثيرا للاستقطاب عبر صناعة إعلاميّة، لا تستند في الأصل إلى موازين العمل الميدياتيكي الخاضعة للتدبّر العلمي والمعرفي، ولا إلى المنابع الفكريّة والمنهجيّة الصّحيحة المعتمدة في صناعة الرّأي العامّ.
ويستمرّ حال الكشف "المدبّر" اليوم بوتيرة قويّة تركّزت بالخصوص على سلسلة من الأحداث هزّت المجتمع التونسي كالاغتصاب، والاغتيال السياسي، وتدهور الحالة الأمنيّة والاقتصاديّة، كشف يرمي من جديد إلى إفشال حكومة السيد على العريض الحاليّة، ويؤسّس لإسقاطها. ولا تعدو أن تكون هذه الحالات نماذج لأحداث طبيعيّة في عهد الرئيس السابق بن علي : طبيعيّة حين كان يحجبها إعلام السلطة، ليصوّر للمجتمع، وبتواطئ مع العديد من الإعلاميين والمثقفين والجامعيين، مشهد "الازدهار" الثقافي والاقتصادي والسّلم الاجتماعية الذي كانت تعيشه تونس في عهد السابع من نوفمبر. والأصحّ هوّ أنّ قوّة الكشف "للنجاح" السياسي والاقتصادي لنظام بن علي، كانت تحجب حالات التدهور الأمني والأخلاقي والاقتصادي التي عاشها التونسيون على امتداد أكثر من نصف قرن. وحتى إن طفا بعضها على السطح، فإنها، بفعل قوّة الكشف المشار إليه، كانت تلوح بمثابة الأحداث العارضة التي لا قيمة لها. وقوّة الكشف في هذه المضمار، آفة مدمّرة للألياف الأخلاقية في المجتمع، وهي في الوقت ذاته محرّك أساسي لاستمرار السلطة.
ولكن المتابعين لمضامين الإعلام، لا يغيب عن أذهانهم في بنائهم للمعنى، خلفيّة الاستخدام الإعلامي ل "الكشف"، لأنهم، يعيشون السّياق، سياق الأحداث، بوصفهم متابعين، فينصرف إدراكهم إلى ما حُجب، من خلال متابعاتهم لما كُشف، فيتزايد اهتمامهم بالحجب أكثر من اهتمامهم بالكشف. وقد نجد اليوم في العبارة الشعبيّة التي يطلقها التونسيون على الإعلام في تونس : "إعلام العار"، دليلا على اهتمامهم بالحجب أكثر من اهتمامهم بالكشف، وعلامة بارزة على أنّ الكشف الذي تمارسه وسائل الإعلام التونسيّة لا يؤسّس لبناء دولة ديموقراطية، بقدر ما يعمل على هزم خصوم سياسيين. واهتمامهم بالحجب أكثر من اهتمامهم بالكشف، هوّ أيضا خلاصة الدّرس الذي تعلّمه المجتمع من وظائف الإعلام الجماهيري، ذلك أنّ الأفراد الاجتماعيين، مثلما يقول أوتاش كوفولاكيس (Eutache Kouvelakis) يعرفون أنّهم يُخدعون يوميّا، فتنصرف عنايتهم إلى المحجوب من الأمور للكشف عنها بالوسائل المتاحة لديهم من خلال الميديا الاجتماعية (Self Media).
فالحجب هوّ حينئذ لعبة الإعلام القديمة الحديثة. ويحدث حتى في مستوى المواقع المتصدّية لهذا السلوك، مثل موقع ويكيليكس. ويتحدّث العديد من المفكرين والملاحظين عن "شحّ المعلومات " المتصلة بجرائم إسرائيل في فلسطين المحتلّة ضمن التسريب الإعلامي، ممّا يعني حجبها في "انحراف" ويكيليكس عن أهدافه الأصليّة كما بيّنها مؤسّس الموقع.
لا تخلو ملامح الإعلام الجديد من ألعاب الكشف والحجب لأنه مثلما أوضحنا، الحجب في الإعلام ممارسة لا تتمّ إلاّ بالكشف، وقوّة الكشف لا تتحقّق إلاّ بالحجب، ذلك أنّ الصناعة الإعلامية على اختلاف ألوانها ومقاصدها، تحدّدها سلسلة من الأعمال التقنيّة والرّمزيّة تبدأ بفعل حاسم من البداية، هوّ تحديد الزاوية (زاوية الموضوع الإعلامي أو الاتصالي) : من أيّة زاوية ينبغي معالجة الموضوع ميدياتيكيّا ؟ والمعنى السّياقي للسّؤال يقود إلى سؤال فرعي ولكنّه جوهري في واقع الأمر لأنّه يشير بشدّة إلى الزّاوية التي يجب على المتلقي رؤية الموضوع منها، كيف للقائم بالاتصال تحديدها ؟ فكلّما تحدّدت زاوية لمعالجة حدث أو موضوع، اختفت أخرى. فالموضوع الواحد له زوايا متعدّدة من خلالها يتحقّق فهم الموضوع والإحاطة بعناصره. وإنّ تحديد الزاوية في حدّ ذاته، كعمليّة فكرية تهدف إلى كشف المعاني وإبراز محاور الاهتمام في الموضوع، يدلّ على وجود علاقة إيديولوجيّة بين الزاوية والمحدّد لها.
وعلى حين نجد الإعلام الغربي يمارس لعبة الكشف والحجب لتحقيق ازدهار اجتماعي وفرض هيمنة ثقافية واقتصادية في العالم وانتصار الأفكار، نجده في العديد من المواقع العربيّة يمارس هذه اللّعبة لهزم الخصوم السياسيين وانتصار الأفراد حتى وإن أدّى ذلك إلى تدمير الوطن.
الهوامش *د. عبدالله الزين الحيدري، نظريّة الكشف والحجب في السّرد الميدياتيكي، (تحت الطبع). 1)اندلعت ثورة البحرين في 14 فبراير 2011 بمسيرات احتجاجيّة تطالب بإصلاحات سياسيّة شاملة، واستمرّت في شكل اعتصامات بدوّار اللّؤلؤة، إحدى أكبر الساحات الرئيسة في العاصمة المنامة، إلى أن تدخلت قوات درع الجزيرة وتمّ فض الاعتصام في 16 مارس 2011 أعلن ملك البحرين على إثره حالة الطوارئ لمدة ثلاثة أشهر. Barthes, The Rhetoric of image, in: Barthes: Image, music. Text, p. 41, and The Responsibility of forms: Critical 2) essays on music, art and representation, pp. 21-40 3) د. تشاندلر، أسس السيميائيّة، ترجمة طلال وهبه، المنظمة العربية للترجمة، 20083) 4) لقد بيّنا في مؤلفنا الصّورة والتلفزيون بناء المعنى وصناعة المضمون أنّ هندسة الهرم المقلوب هندسة قاصرة عن معالجة الخبر معالجة سليمة ووضّحنا أنّ الخبر لا يمكن معالجته إلا ضمن ما أسميناه بالهندسة الدائريّة. 5) من أبرز أحداث التزوير، تزوير الوقائع في الساحة الميدياتيكية التونسية، ما أصبح يعرف بحادثة الفوتوشوب، انظر جريدة الصباح التونسيّة بتاريخ 31 جانفي 2012، انظر كذلك صحيفة الشروق التونسيّة بتاريخ 31 جانفي 2012. 6) د. عبدالله الزين الحيدري، مواهب إنتاج الفشل في تونس : الظاهر والباطن في معركة حريّة الإعلام، الفجر نيوز 29 سبتمبر 2012،.