مأساة أثناء الصيانة: ''الستاغ'' توضّح أسباب وفاة عونها    الميزان التجاري الغذائي يسجّل فائضاً خلال ال7 أشهر الأولى من 2025..    مقترح قانون لاعتماد نظام الحصة الواحدة بالمدارس العمومية    الانتخابات التشريعية الجزئية بدائرة دقاش- حامة الجريد- تمغزة: مرور هذين المترشحين إلى الدور الثاني    وزارة الدفاع الوطني: هذا موعد انطلاق الحصّة الثالثة للتجنيد    يهم أحباء هذا الفريق: انسحاب المدرب…    هام/ وزارة التشغيل تمدد في آجال التسجيل في هذا البرنامج..    أسعار البيض تتراجع: 4 بيضات لا تتجاوز 1200 مليم    زلزال بقوة 5.6 درجات يضرب هذه المنطقة..#خبر_عاجل    رئيسة الحكومة في زيارة عمل رسمية إلى اليابان..وهذه التفاصيل..    اعادة انتخاب رياض بالحاج رئيسا للجامعة التونسية للووشو كونغ فو    الأفروباسكيت "أنغولا 2025": المنتخب الوطني يخوض غدا ملحق الصعود الى ربع النهائي    ثنائي الاتحاد المنستيري حازم المستوري ولؤي الترايعي ينتقلان الى ماخاتشكالا الروسي والوحدة الاماراتي    الرابطة الأولى: تعيينات منافسات الجولة الثالثة ذهابا    سمير يعقوب : "نستغرب تصريحات سفيان الحيدوسي وسنحترم قراره الرحيل عن النادي"    نابل: وفاة شخص وتسجيل إصابات عديدة متفاوتة الخطورة في حادث انقلاب حافلة تقل عمال مصنع بقربة    موجة حرارة قوية في عدة مناطق تونسية    تبلغ قيمتها 360 ألف دينار: قاصر يسرق مجوهرات وهواتف جوالة من مركز تدليك..    صفاقس : اختتام الدورة ال40 لمهرجان سيدي مهذب بالصخيرة بعرض فني مميز أحيته فرقة الكوفية الفلسطينية    في ريدار منزل تميم: في كواليس أفلام علاء الدين سليم    عرض "رقوج " ... تجربة فنية إبداعية من صنف الكوميديا الموسيقية تبهر جمهور مهرجان صفاقس الدولي    نحو علاج نهائي للسكري من النوع الأول عبر زرع خلايا معدلة وراثياً    زلزال شمال الجزائر لم يُشعر به التونسيون    تونس: تحذير من تركيب الأظافر    رئيس المجلس الرئاسي الليبي يؤدي زيارة عمل إلى تونس    صفاقس...من الصبارس الى الشلبة والميلة والكرشو والمداس.. اقبال كبير على «حوت اوت» في سوق باب الجبلي    خبير اقتصادي: النمو الاقتصادي في تونس.. أرقام على الورق ومعاناة في الواقع    فظيع/ أب لطفلين وزوجته حامل: وفاة عون "ستاغ" أثناء عمله والشركة تتعهد..    عاجل/ تعنيف طبيب أثناء عمله..ومنظمة الأطباء الشبان تكشف وتدين..    عاجل/ بشرى للتونسيين: كلغ العلوش ب38.900 دينار بداية من هذا التاريخ..    استشهاد 3 فلسطينيين واصابة آخرين من منتظري المساعدات..#خبر_عاجل    ترامب: استعادة القرم وعضوية الناتو أمران غير واردين لأوكرانيا    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    الف مبروك: علاء عباسي (باكالوريا تقنية) اهدى نجاحي الى روح والدي    الزهروني: الاحتفاظ بشاب من أجل الإيهام بجريمة    في جريمة هزت الرأي العام: مقتل لاعبة جيدو على يد زوجها..وهذه التفاصيل..    لاريجاني: إيران رممت قدراتها بعد الحرب الأخيرة    زيلينسكي يصل إلى الولايات المتحدة تمهيداً للقاء ترامب    عاجل/ زلزال يضرب هذه الولاية الجزائريّة..    صيف وضيف...الفنّانة التشكيليّة الشابة غادة عسكري (حمام الأنف).. .. رؤى الحداثية لإبراز التّراث العربي الإسلامي    توم كروز يحرج ترامب!    قليبية... معرض المنتوجات المحلية بسيدي عبد السلام يحقّق الامتياز..    مهنة وتاريخ..رُعاة الأغنام .. حُماة ثروتنا الحيوانية    5 مخاطر غير متوقعة لتناول البروتين بكثرة    مهرجان قرطاج يكرّم فاضل الجزيري بعرض فيلم "ثلاثون"    المنتخب الأسترالي يفوز بكأس آسيا لكرة السلة للمرة الثالثة تواليا    تاريخ الخيانات السياسية (49)...توزون يفقأ عيني الخليفة المتّقي    حكايات وحِكم.. يجود علينا الخيّرون بمالهم.. ونحن بمال الخيّرين نجود    استراحة صيفية    'فيلم رعب' بأحد أسواق مصر.. اشتباكات مسلحة ورصاص كالمطر    وصول الفنانة الإماراتية أحلام إلى تونس    أنغام لا تزال تعاني.. تطورات جديدة في حالتها الصحية    تيمور تيمور غرق وهو ينقذ ولدو... وفاة صادمة للفنان المصري    حركة انتقالات نشطة للترجي: لاعب برازيلي يرحل ولاعب جزائري ينضم    قبل ما ترقد، تستعمل التليفون.. أما تعرف شنوّة تأثير الضوء الأزرق عليك؟    الحرارة بين 29 و40 درجة: تقلبات جوية مرتقبة بعد الظهر...بهذه المناطق    عاجل : فلكيا...موعد عطلة المولد النبوي الشريف 2025 للقطاعين العام و الخاص    هام/ عطلة بيوم بمناسبة المولد النبوي الشريف..    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رأي/ الحجر الصحي خلال القرن 19م بتونس.. وكيف ساهم موقف شيوخ الدين القدريين في هلاك نصف الشعب التونسي
نشر في الصباح نيوز يوم 26 - 04 - 2020


بقلم د. الصحبي بن منصور
عندما انتشر الطاعون في البلاد التونسية خلال عام 1818م انقسم علماء الدين بها إلى تيارين في مسألة معالجة هذه الكارثة الصحية وإلزام السلطة السياسية باتخاذ الموقف الشرعي المناسب في مثل هذه النازلة.
التيار الأول ديني عقلاني وواقعي: رأى "الاحتفاظ وعدم الخلطة بالعمل المسمى بالكرنتينة" (كلمة فرنسية معربة تعني الحجر الصحي الشامل لمدة أربعين يوما)، أي أنّه قال بوجوب تطبيق السلطة الحاكمة بتونس لسياسة الحجر الصحي الشامل، عملا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "فر من المجذوم فرارك من الأسد". وهذا التيار اتبع موقف الصحابي عمر بن الخطاب في التعامل مع الطاعون، وتزعمه الشيخ محمد بن محمد بن محمد بيرم.
التيار الثاني ديني غيبي وجامد: "يرى التسليم إلى مجاري القدر"، وتبنى موقف الصحابي أبي عبيدة عامر بن الجراح الذي يستسلم لقدر الموت في شجاعة وهدوء، وتزعم هذا التيار الشيخ أبو عبد الله محمد بن سليمان المناعي.
وفي خضم تنامي انتشار هذا الطاعون في أوساط الشعب التونسي وما رافقه من رعب عام في البلاد وأجواء الحزن والمأساة انشغل أتباع هذين التيارين بتأليف رسائل في استدلال كل فريق "على رأيه بالنصوص الفقهية".
وعلى الرغم من أنّ قرار أبي عبيد بن الجراح في التعاطي مع طاعون عمواس ببلاد الشام قد تسبب في موته وفي موت مرافقيه من كبار الصحابة وفي هلاك آلاف الجنود الذين تحت إمرته، فإنّ من تهور السلطة السياسية في تونس ممثلة في الأمير أبي عبد الله حسين باي أنّها اتبعت رأي التيار الثاني الذي لا يرى بفائدة الحجر الصحي وأنه لا بدّ من الاستسلام لقدر الله وتقبل الموت بالطاعون.
فكان حسين باي "يسخر بأصحاب الكرنتينة (الحجر الصحي الشامل لمدة 40 يوما)، ويقول لهم: " لا مفر من القدر". وكان يدور في أزقة الحاضرة، أي عاصمة تونس وفي حارة اليهود لكثرة المرض بها، فكانت النتيجة على حد لسان المؤرخ بن أبي الضياف: "وقوى بذلك قلوب سكان اليلاد" على عدم الأخذ بإجراءات الوقاية وتقبل الإصابة بالطاعون بصدر رحب.
ومن غريب أن أكبر علماء هذا العصر وهو الشيخ الطاهر بن مسعود الإمام الأكبر بجامع الزيتونة قد "أصيب (بالطاعون) في صلاة الصبح وهو بالمحراب. وبقي ثلاثة أيام وتوفي في السادس والعشرين من صفر سنة أربع وثلاثين ومائتين وألف (الجمعة 25 ديسمبر 1818م)". وقد خرجت كل أهل تونس في جنازته دون التفات إلى ما يمكن أن يسببه ذلك من انتشار للعدوى القاتلة، بحيث "لم ينخلف عن الجنازة من المسلمين إلا من أقعده عذر البدن"، أي العاجزين بسبب الشيخوخة أو المرض.
ونتيجة هذا الجهل المقدس والتحالف بين السلطة السياسية غير الكفؤة وبين السلطة الدينية المتعصبة مات نصف الشعب التونسي وأصاب البلاد الخراب العام، وذلك طبعا في مقابل عجز التحالف الآخر القائم بين السلطة الطبية وبين السلطة الدينية العالمة بمقاصد الشرع وأحكامه في حفظ الكليات الخمس، وكان خلاص البلاد في اتباع السلطة السياسية لهذا التحالف الصائب.
وفي هذا السياق الكارثي قال ابن أبي الضياف مستعرضا نتائج التعامل السياسي الخاطئ مع هذا الطاعون وذلك بناء على تغليبه لرأي ديني تقليدي على رأي ديني عقلاني: "هذا الطاعون هو أول التراجع الذي وقع في هذه الإيالة بعد وفاة المرحوم أبي محمد حمودة باشا، لأنّه نقص به من الإيالة قدر النصف، وبقيت غالب المزارع معطلة لا أنيس لها"
وما نشير إليه هو أنّ أزمة العقل المسلم بشكل عام وفي كل العصور وإلا ما رحم ربك تكمن في بحثه عن حلول لمشاكل الواقع المتغير باستمرار ليس من داخل بيئتهم وخصوصياتها المتبدلة من زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان ومن شعب إلى آخر داخل كتب التاريخ وكتب التراث الديني. وكان يمكن الانطلاق من الواقع نفسه بالاعتماد على العقل وعلى النهل من قيم ومقاصد القرآن والسنة بعيدا عن تقديس الرأي الديني لعلماء قدامى ربما كان رأيهم مصيبا في زمانهم وربما كان غير مصيب، واعتبار رأي القدامى وصفة طبية مقدسة وشافية لكل العصور.
إن مشكل المجتمعات الإسلامية أنها ما زالت تعيش على اجترار خلافات نشبت بين كبار الصحابة... فالمسلمون يتنازعون فكريا ويتقاتلون ميدانيا اليوم كما في القرن 19م وفي كل الأزمنة والأمكنة على من هو أفضل علي بن أبي طالب أم أبو بكر الصديق أم عمر بن الخطاب ومن هو أحق بالخلافة من بين الصحابة. وكذلك في قضية الطاعون ما زال الصراع قائما في كل العصور بين أنصار الثقافة القدرية من شيوخ الدين الذين يأخذون بموقف أبي عبيدة الجراح الداعي إلى الاستسلام إلى قدر الله والقبول بواقع الموت بالطاعون، وبين أنصار ثقافة مواجهة قدر الموت بقدر الحياة بناء على موقف الخليفة الراشد عمر بن الخطاب الداعي إلى الفرار من قدر الله إلى قدر الله.
هكذا غاب صوت العقل الطبي في طاعون 1818م بتونس وحضر صوت العقل الديني المتحجر، في لحظة تاريخية حارقة تعطل فيها للأسف صوت العقل السياسي التونسي الحصيف الذي يوازن بينهما. وكان أجدى أن يكون الرأي الصحي هو رائد الخلاص في الأزمات الصحية العامة وبه يستانس شيوخ الدين، ثم علي الرأي الطبي اليقظ والرأي الديني الحازم والمستنير يبني السياسي موقفه القوي الرامي إلى إنقاذ شعبه وقاية وعلاجا.
المصادر: ابن أبي الضياف، أحمد، اتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان، تحقيق لجنة من وزارة الشؤون الثقافية، الدار العربية للكتاب، تونس، 1999، مج2، ج3، ص 128-129. الشريف، محمد الهادي، تاريخ تونس من عصور ما قبل التاريخ إلى الاستقلال، تعريب محمد الشاوش ومحمد عجينة، دار سراس للنشر، 1993، ط3، ص 92، 98.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.