أوضحت وزيرة العدل ثريا الجريبي في ردها على استفسارات السادة النواب وأسئلتهم بخصوص الإشكاليات التي طرحت مؤخرا بين وزارة العدل و المجلس الأعلى للقضاء والجدل الذي أثير بشأن الصلاحيات، خلال الجلسة العامة التي انتظمت اليوم بمجلس نواب الشعب للحوار حول مرفق العدالة أثناء فترة الحجر الصحي أنّ إرساء المجلس الأعلى للقضاء مثّل لحظة فارقة في تاريخ بناء المؤسسات الدستورية وفي تكريس استقلالية السلطة القضائية في بلادنا وهو يجسّد ما تمّ التنصيص عليه بالباب الخامس من الدستور المتعلق "بالسلطة القضائية" من استقلالية للقضاء على المستويين الهيكلي والوظيفي.و بينت أن المجلس و كأيّ مؤسسة حديثة العهد من الطبيعي أن ترافق مباشرة مهامه عدة إشكاليات تتعلق أساسا بانصهاره في المشهد المؤسساتي القائم وقد تمحورت هذه الإشكاليات بالأساس حول الصلاحيات الموكولة له وتأويل النصوص القانونية المنظمة لها. وأضافت أنّه لا مجال للحديث عن صراع أو تنازع بين الطرفين، بل أنّ الأمر يتعلق بحراك مؤسساتي عادي، ووصفته بأنه إيجابي يعكس وعيا قانونيا كبيرا وحرصا من كافة الأطراف على تكريس مفاهيم الديمقراطية ومبدأ التفريق بين السلط. مشيرة إلى اختلاف قراءة المجلس للنصوص مع الهيئة الوطنية للمحامين التي أكّدت في بلاغها المؤرخ في 7 ماي 2020 على ضرورة احترام علوية القانون وصلاحيات الحكومة المنصوص عليها بالدستور في تنظيم المرافق العمومية ومنها مرفق العدالة والإشراف عليه. أما فيما يتعلق بوضعية الحال وما رافقها من نقاش في خصوص بلاغ وزارة العدل الصادر بتاريخ 3 ماي 2020 والمتعلّق بضبط مراحل وشروط ومجالات الاستئناف التدريجي للعمل بالمحاكم أبرزت وزيرة ألعدل أن موقف الوزارة العدل يستند إلى الحجج القانونية والواقعية التالية: أولا : من الناحية القانونية : تم تنظيم اختصاص المجلس الأعلى للقضاء بالدستور وبالقانون الأساسي عدد 34 لسنة 2016 المؤرخ في 28 أفريل 2016. وأسند الدستور إلى المجلس الأعلى للقضاء مهمّة ضمان حسن سير مرفق القضاء (الفصل 114 من الدستور: "يضمن المجلس الأعلى للقضاء حسن سير القضاء واحترام استقلاله. وتقترح الجلسة العامة للمجالس القضائية الثلاثة الإصلاحات، وتبدي الرأي في مقترحات ومشاريع القوانين المتعلقة بالقضاء التي تعرض عليها وجوبا، ويبت كل من المجالس الثلاثة في المسار المهني للقضاء وفي التأديب"). وعدّد الفصل 42 من القانون الأساسي عدد 34 لسنة 2016 صلاحيات الجلسة العامة للمجلس ونص صراحة في خصوص حسن سير القضاء واحترام استقلاله على مجرد اقتراح الإصلاحات الضرورية لضمان ذلك. وأردفت وزيرة العدل في هذا الصدد أن فقهاء القانون اتفقوا على أنّ تسيير القضاء ليس حكرا على المجلس الأعلى للقضاء وإنّما هو اختصاص يشاركه فيه رؤساء المحاكم بجميع أصنافها، مؤكدة على أن تنظيم مرفق القضاء يبقى من اختصاص وزارة العدل ولا من اختصاص المجلس الأعلى للقضاء ضرورة أنّ إسناد الاختصاص وممارسته لا يكون إلا بمقتضى نص صريح. كما استقر فقه قضاء المحكمة الإدارية على اعتبار تميّز القضاء العدلي بطبيعة مزدوجة فهو يمثل من جهة مرفقا عموميا مثل بقية المرافق العمومية ومن جهة ثانية يمثل "سلطة" مستقلة مكلفة بممارسة الوظيفة القضائية العدلية. وقالت السيدة ثريا الجريبي أن تنظيم القضاء العدلي يمثل مادة إدارية صرفة، وهو يشمل مختلف القرارات والأعمال التي تتخذها مبدئيا السلط المختصة بهدف ترتيب المرفق العام للقضاء العدلي من أجل جعل تسييره ممكنا. فتنظيم مرفق معين يمثل الشرط الأساسي لإمكانية تسييره فالقضاء العدلي يمثل في النهاية مرفقا عموميا يحتاج إلى تدخل السلطة الإدارية لضمان عملية تنظيمه، أما تسيير القضاء العدلي، فالمقصود به الطريقة التي تمارس بها المحاكم الوظيفة القضائية العدلية. ومن القواعد الأساسيّة في القانون العام أنّ الأصل في ممارسة الإختصاص أن يتمّ من قبل السلطة التي عيّنها النص القانوني لذلك، وتبعا لذلك لاحظت الوزيرة أن القانون واضح ولا يحتمل التأويل والنصوص الواضحة تطبّق ولا تؤول. كما تطرقت وزيرة العدل إلى أنّه بالرجوع إلى الأعمال التحضيرية لقانون المجلس الأعلى للقضاء وبالتحديد تقرير لجنة التشريع العام حول مشروع القانون الأساسي المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء بتاريخ 8 ماي 2015 يتّضح أنّه تمّ التطرق إلى مسألة صلاحيات المجلس الأعلى للقضاء خلال النقاش العام و أنّ مسألة الإشراف على المحاكم وإدارتها تبقى من صلاحيات وزارة العدل بالإضافة إلى عدد من المسائل الأخرى على غرار العطل وتأجير القضاة وتكوينهم، وهو ما لم ينازع فيه حتى رئيس المجلس الأعلى للقضاء الذي صرّح لأكثر من وسيلة إعلامية بأنّ إدارة المحاكم ترجع بالنظر إلى وزارة العدل. و أشارت في نفس الإطار إلى ما بينته لجنة البندقية في الرأي الصادر عنها عدد2018/924 بتاريخ 13 جويلية 2018 وبالتحديد في الفقرة 137 منه أنّ مجلسا للقضاة يضمن استقلالية السلطة القضائية لا يعني أنّ القضاة يمكنهم أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم (s'auto-gouverner). فالتصرف وإدارة السلطة القضائية لا تسند للقضاة". كما جاء في الفقرة 86 من الرأي الصادر عنها عدد 2013/711 بتاريخ 18 مارس 2016 أنّه لا يكفي ضمان استقلالية القضاء عن السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية بل يجب أيضا ضمان استقلالية القاضي داخل القضاء. كما أقرّ قاضي تنازع الاختصاص في فرنسا قرار Préfet de la Guyane الصادر بتاريخ 27 نوفمبر 1952، أنّ غلق المحاكم يدخل في مجال تنظيم مرفق العدالة. و فضلا عمّا تقدّم، شدّدت وزيرة العدل أنّه لا بدّ من التأكيد على أنّه تمّ إصدار بلاغ وزارة العدل بالاستناد إلى الأمر الحكومي عدد 208 لسنة 2020 المؤرخ في 2 ماي 2020 المتعلق بضبط إجراءات الحجر الصحي الموجه. مذكرة أن الأمر الحكومي تمّ عرضه على الاستشارة الوجوبية للمحكمة الإدارية عملا بأحكام الفصل 4 من القانون المتعلق بها والتي لم تبد في إطار دورها الاستشاري أيّ ملاحظة بهذا الخصوص بما يشكّل قرينة جدية إضافية على شرعية الأحكام الترتيبية المذكورة وما تبعها من بلاغات وإجراءات تهدف إلى حماية صحة القضاة والمحامين والكتبة والمتقاضين والأعوان العموميين وكل مرتادي المحاكم ويندرج تدخل الوزارة والسلطة التنفيذية في إطار حماية النظام العام الصحي الذي، مثل حماية الأمن العام، هو حكر على السلطة التنفيذية دون غيرها. وذكرت الوزيرة أنه لا يوجد أي نص لا تشريعي ولا ترتيبي يمنح ولو من بعيد أدنى اختصاص إلى المجلس الأعلى للقضاء في هذا الخصوص، وحتى في أعتى الديمقراطيات العريقة فإن حماية النظام العام الصحي موكول إلى السلطة التنفيذية وحدها ولم يثر ذلك أي جدل ولم يتمسك أي مجلس قضائي بأي نوع من الاختصاص في هذا المجال لأنه لا علاقة له باستقلال القضاء. وفضلا عن ذلك، فإنّ تناسق الإجراءات التي تتّخذها الدولة في حالة الأوبئة تفرض وحدة التمشي المعتمد لترابط كافة حلقاته، ولا يمكن في ذلك قبول اتخاذ إجراءات أحادية الجانب وسابقة للإعلان عن استراتيجية الحجر الصحي الموجّه لما في ذلك من مساس بوحدة الإجراءات التي تتّخذها الدولة في هذه الحالات وما قد يشكله من تهديد للنظام العام الصحي. ثانيا : من الناحية الواقعية: بينت وزيرة العدل أن الوزارة تعدّ أوّل جهة اتخذت الإجراءات والتدابير الاستثنائية للوقاية من انتشار فيروس كورونا يوم 11 مارس 2020، كما أنّها بادرت بتعليق العمل بالمحاكم بداية من يوم الاثنين 16 مارس 2020 عدى الأمور المتأكدة والمستعجلة . وفي 21 مارس 2020 أقرّت الوزارة مواصلة تعليق العمل ووضع استثناءات تبعا لقرار مجلس الأمن القومي الملتئم بتاريخ 20 مارس 2020 والمتعلق بإقرار حجر صحي عام، كما أقرّت مواصلة تعليق العمل بالمحاكم في 1 أفريل 2020 تبعا لقرار مجلس الأمن القومي المؤرخ في 31 مارس 2020 والقاضي بالتمديد في الحجر الصحي العام ثم أصدرت مذكرة في نصوص قضايا الموقوفين، مبرزة أن هذه البلاغات المتعلقة بتعليق العمل بالمحاكم لم تثر أيّ جدل في خصوص الصلاحيات، في حين أنّ بلاغ الاستئناف التدريجي للعمل هو الذي أثار إشكالية الاختصاص. وذكرت أنه منذ بداية انتشار فيروس الكورونا بادرت الوزارة بالاتصال بكافة المتدخلين في مرفق العدالة الذين استجابوا كلّهم باستثناء المجلس الأعلى للقضاء. و لاحظت أن الوزارة واصلت إتباع المنهج التشاركي في جميع القرارات إلاّ أنّ الصيغة الاستعجالية لمسألة تنظيم الاستئناف التدريجي للعمل بالمحاكم خاصة وأنّ النصوص القانونية لا تلزم الوزارة بالاستشارة في هذه المسألة. وأصدرت الوزارة بلاغ يوم 3 ماي 2020 وهو بلاغ له صبغة تنظيمية صرفة لمرفق العدالة الذي يتضمن العديد من المتدخلين إلى جانب السلطة القضائية وهم المحاماة التي وضعها الفصل 105 من الدستور في رتبة الشريك في إقامة العدل، عدول التنفيذ وعدول الإشهاد والخبراء العدليين والمترجمين المحلفين والمصفون المؤتمنون العدليون وأمناء الفلسة والمتصرفون القضائيون. وخاصة سلك أعوان كتابات المحاكم الذين يمثلون العمود الفقري لمرفق العدالة ويستمد كتبة المحاكم مشمولاتهم من القوانين المنظمة للإجراءات التي ضبطتها مختلف النصوص والمجلات القانونية الجاري بها العمل. و بينت السيدة ثريا الجريبي أنه لا بدّ من التأكيد أنّ الاختلاف حول صلاحيات المجلس الأعلى للقضاء يشكل ظاهرة صحية محمودة تساهم في تطور المنظومة القضائية وبالتالي في تكريس دولة القانون والمؤسسات التي نطمح إليها والتي يشكل المجلس الأعلى للقضاء أحد أركانها الأساسية وأنّ العلاقة بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية لا تقوم على التنافس بل على التكامل في إطار الصلاحيات المسندة لكل منهما طبقا للدستور والقوانين الجاري بها العمل. واختتمت الوزيرة تعليقها على هذه المسألة بأن الحديث عن صراع أو نزاع لا يعدو أن يكون سوى مسألة وهميّة، ذلك أنّ الفصل بين مجلس يجسّد استقلال القضاء ووزارة مجسّدة للسلطة التنفيذية ما هو إلاّ تحليل بسيط لا يعكس الواقع، ذلك أنّ الوظائف السامية بوزارة العدل يتولاّها إلى اليوم قضاة سامون مشهود لهم بالكفاءة والاستقلالية والنزاهة يعيّنهم مجلس القضاء العدلي ولا يختارهم وزير العدل ، و الوزارة حريصة على احترام المؤسسات وليس لها النية أو الرغبة في التدخل في صلاحيات جهات أخرى لكن بالمقابل ليس لها الرغبة أو النية ولن تسمح بالتدخل في صلاحياتها.