كانت لحظة اغتيال يوليوس قيصر عظيمة وبشعة وصفها شكسبير بأنها أقبح عملية اغتيال في التاريخ..وذلك حين خانه كل من وثق بهم يوماً واجتمعوا واتفقوا جميعاً بأن يقتلوه .. فانهال الكل عليه بالطعنات.. ولم يزل قيصر واقفا ثابتا.. لم يسقط رغم كل الطعنات في جسده، حتى رأى صديق عمره "بروتوس".. مشى يوليوس قيصر نحو صديقه وهو يتخبط في دمائه، وفي عينيه التمعت نظرة رجاء و ارتياح، صديق عمره ها هنا حلّ يقينا لينقذه، وضع يده علي كتفه ينتظر منه العون، فقام "بروتوس" هو الآخر بطعنه .. هنا قال قيصر جملته الشهيرة "حتى أنت يا بروتوس !! إذن.. فليمت قيصر..." وسقط قيصر ميتاً. كانت طعنة "بروتوس" هي الطعنه القاتله، بخلاف كل الطعنات الأخرى .. لم يطعنه في جسده، و إنما في شخصه.. طعنه في إرادته، في آماله وفي ثقته، هنا فقط، سقط قيصر.. راضياً بالسقوط معلنا انهزامه.. تلاحقني هذه الحادثة والأحداث المحيطة بكل المواقف السلبية كلما تعرضتُ إلى المشهد الدرامي الساري في كل صوب وحدب هذه الأيام.... وما أكثرها في عالم السياسة!! لكن أن تقرأ ما يهدّد الوطن يكون ينسب للخيانة للمبادئ التي تجمع أوصالنا لتكوّن منا وطنا وتلم أشلاءنا حين تتلاشى الأشلاء لسبب ما، لكارثة ما. ما أقسى الخيانة يا بروتوس... ولا أعلم لم لاحقني المشهد هذا بالذات وأنا أطلّ من بعض شرفة على قبّة جميلة لم أنتبه إليها فوجدتها أجمل بكثير من كل القباب التي كنت شاهدتها بأرجاء العالم وبتركيا بالذات. وفهمت معنى قبة مجلس النواب... نواب الشعب.. لعل شغور كل الكراسي والإحساس بالغضب الذي يمزقني كانا قد ضيقا المكان من حولي ووسعا تلك القبة. القبّة المضاءة بزركشاتها وبثريا من كريستال لعلّها أجمل ثريا شاهدتها بالكون جميعه... وجال بصري مع مرافقي بين كل هذه الزركشات نحتتها أياد تونسية في عهد بن علي.. وارتسمت على محياي بعض بسمة حزينة حتى لا ينفجر ما كان بداخلي يئنّ ويقطع مني أمل الوصول قريبا إلى ما نحن قدمنا من أجله إلى مجلس نواب الشعب. لقد حملنا همّ شرح قضية أعتقد راسخا أنّها مصيرية حتى نقطع دابر الفتن التي بدأت تطلّ برأسها في شكل مجموعات لا تؤمن بعروبة تونس.. نعم نشأت بالسنين الأخيرة جمعيات مدفوعة الأجر ومضمونة النتيجة كي تمزّق النسيج التونسي العربي الإسلامي. هذه الجمعيات تدّعي فعلا، أنّه، وقد تكون على بعض حقّ، بأنّها تدافع عن حرّياتنا الفردية من حرية المعتقد وحرية الاختلاف وصولا إلى حرية الانبتات وحرية اختيار الأصل والذاتوحرية أن نتغيرّ من جنس ذكوري إلى جنس أنثوي أو جنس خنثوي... نعم علينا أن ندافع عن هذه الحريات بما في ذلك حرية التفكير وغيرها.. لكن متى نحسّ بالخطر ومتى علينا أن نحذر من هذه الجمعيات وهؤلاء الذين يقتاتون من مبدإ الحرب الصفرية كما قالت وكتبت صديقة لي؟ عندما تكون بالقرب من السلطة المشرّعة بالبلاد والتي أقرت في دستوريها عروبة تونس ولغتها العربية كلغة رسمية وتسمع من بعضهم أن لا فائدة من تشريع إضافي، لا فائدة من نصّ جديد يحمي اللغة العربية في البلاد، لا جدوى من قانون يشرّع التنميةويشرّع الدفاع عن اللغة العربية في ائتلاف وتضامن،والتي تمزقت أوصالها منذ الثورة المجيدة فأضحينا في مشهد درامي ليافتاتنا وأكثر قسوة بإعلامنا فما بالك أن تحلم بتغيير شيء ما يهمّ لغة التدريس..!! عن أيّ تدريس بالعربية تتكلمون؟ يبدو أن بعض النواب صرحوا لم طرح موضوع اللغة العربية في المجلس الموقّر؟ *لاش اللغة العربية؟* لينكسر الحلم بأن حللنا بالمجلس للحوار حول إمكانية الدفع إلى الأمام وتغيير المشهد ولو جزئيا وهو مربح بل لا يكلّف الدولة فلسا... وقد قدم أربعتنا من مشارب مختلفة.. نمثل جمعيات آمنت بأهمية اللغة العربية حضرنا لجنة من لجان مجلس نواب الشعب.. مؤمنين بقضية التعريب في تونس.. قدمنا في رحلة ثانية إلى المجلس... كنا التقينا البعض من نواب التأسيسي سنة2012... كانت الدولة مهتمة بأمر التأسيس من جديد لدولة عصرية.. وعدنا سنة 2018 وكل دواليب الدولة متجندة للحرب الاقتصادية ولقمة العيش والماء الصالح للشراب (وبالمناسبة كانت حنفيات هذا البيت المثالي غير مقتصدة البتة للماء في حين تعيش ولايتان من الجمهورية انقطاعا كليا للماء)... كلّ هذا معقول ولا ننكر أنها أولويات.. لكننا شعب نسي فجأة من هو. ولكننا أمة فقدت فجأة ذاتها وأركان بيتها.. خاصة بعد أن صرّح بعض النواب بأن اللغة العربية محفوظة ولا ضرر عليها وليس لنا أن نخاف عليها... وتذكرت ما كانت تتفوه به بعض الوفود العربية في ندوات التعريب... أساسا من بلاد الخليج العربي: اللغة العربية محفوظة بالقرآن.. لا خوف عليها أ استعملناها في الشارع العربي أم لم نستعملها... أاستعملناها أم أعفيناها من الاستعمال الركيك في العلوم أو في العلوم السياسية أو القانون أو حتى في الأدب العربي... قل لماذا عدت إلى النطر محملقا في هذا القبة؟ كانت بغير عماد على ما يبدو. وكانت على غير عادتها معلقة بين السماء والأرض... ولكن كذلك بمجرّد أن أعدت البصر إلى الكراسي الشاغرة تذكرت مرة أخرى الحرب الصفرية وتسعفني صديقة كتابتها هذه الأسطر: *ماذا تعرف عن التكلفة الصفرية في الحرب ؟ يقول المفكر الدكتور محمد إقبال : إن أجيال الحروب أربعة ، وهي : الجيل الأول: القتال بالسلاح الأبيض وهي حروب الفرسان .. الجيل الثاني: القتال بالأسلحة النارية . . وفيها قال كولت مصمم المسدس الأمريكي ماركة كولت : الآن يتساوى الشجاع والجبان . الجيل الثالث:القتال والإبادة بالسلاح النووي ، وهي حرب ينتصر فيها الأكثر جبناً .. الجيل الرابع: أن تترك عدوك يحارب نفسه بنفسه ، باستخدام الطابور الخامس وهي حرب الخونة والجواسيس، حرب تستعمل فيها تلك الجيوش الداخلية النائمة من شعب يتمّ تخديره.. وتتم باستثمار الصراعات الفكرية والدينية والقبلية والمناطيقية وتأجيجها. وقد قال المفكر الفرنسي روجيه غارودي عن الجيل الرابع من الحروب: الآن يقاتل الغرب بالتكلفة الصفرية . . فالعرب يقتلونأنفسهم . . والعرب يدفعون ثمن السلاح الذي به يقاتلون بعضهم البعض . . والعربي يتطلب تدخل الغرب فقد يتدخل وقد لايقبل . . التكلفة الصفرية تعني أن الغرب لا يخسر شيئا في الحرب .. ونحن بحاجة لمواجهة ذلك إلى وعي فكري، إذ تعتمد حروب الجيل الرابع على خلق دول فاشلة.. وهذا يتم عبر النقاط التالية : أولا : خلق صراع أيديولوجي مثل الصراعات الطائفية أو العنصرية أو المذهبية أوالمناطقيةأو الجهوية . . ثانياً : عزل منطقة ما في الدولة المراد تدميرها بحيث لا تكون خاضعة لسيطرة تلك الدولة . ثالثا : إنشاء جيش من الأشرار من أبناء تلك الدولة ليكونوا أداة قتل دون أية رحمة أو تفكير، و هذا هو الجيش الذي يكون بديلاً عن جيوش دولة الاحتلال . رابعا : استخدم الأطفال والشباب الأمي الجاهل عديم الوعي والثقافة والزج بهم في القتال ، حتى ينشأ جيل مشبّع بثقافة القتل والتدمير وليس بثقافة البناء والتعمير والتحضر . . وأخيراً خلق الدولة الفاشلة التي يسهل السيطرة عليها وإخضاعها لأي قرار تريده دولة الاحتلال من تلك الدولة الفاشلة*. في حياة كل منا "بروتوس" خاص به، قد يكون شخصاً أو حدثاً أو أمنيه من أمانيك، قد يكون خذلان "بروتوس" لك هو سبب خضوعك وانهزامك.. بعيداً عن مشهد موت قيصر المهيب، العبرة من هذه القصة تتكرر مع الكثيرين منا . تعلم أن لا تتمسك بشيء محدد ، ولا تضع كل أمنياتك في اتجاه واحد.. ولا تثق أبدا فيمن ظننت أنهم أولى بالدفاع عن لغة القرآن والسنة. نعم يا أيها النواب... بعض بلاد العرب تخوض حروبا صفرية.. إلى اليوم.. وحتى اقتصادنا وهويتنا ومستقبلنا... كلها معرضة للحرب الصفرية. وتأتي اللغة العربية عمادا آخر ينكسر في ظني في هذا اليوم المشؤوم: يوم 28 جوان 2018. على الرغم من الإصغاء الجيّد لما قلناه إلى السادة النواب.. في لجنة التربية والشباب.