تفضل الصديق والزميل في الولاية والمحاماة الأستاذ عبد السلام القلال بإهدائي كتابا قيما دون فيه مسيرة حياته السياسية والمهنية التي امتدت لأكثر من نصف قرن قضاها في الحزب الحر الدستوري وفِي خطة وال أو محام يدافع عن حق المظلومين. شدني ذلك الكتاب الذي احتوى على أكثر من خمسمائة صفحة من الحجم المتوسط والمطبوع بأناقة وجمال ومدعم بصور تذكارية عديدة ومجموعة من الوثائق والتقارير لن يتيسر للقارئ المجتهد أن يجدها في غيره من كتب المذكرات والذكريات التي بات يصدرها المسؤولون السابقون في العهد البورقيبي. لقد امتاز ذلك الكتاب بتقديم رائع كتبه الأستاذ الشاذلي القليبي زاد في تسهيل مهمة القارئ لذلك المجلد ومنهم كاتب هذه السطور الذي وجدت نفسي فيه لأكثر من مرة بحكم المهام المماثلة والمشابهة التي أديتها في العمل المحلي كمعتمد أو وال سابق أو وال للولاة أو نائبا في مجلس الأمة أو محام مثله وما زلنا والحمد لله نواصل ذلك العمل في حدود ما باتت تسمح لنا به ظروفنا وصحتنا من حين الى حين . وتسهيلا على القراء المهتمين بالسير الذاتية ودراسة تلك المرحلة من ستينات وسبعينات وثمانينات القرن الماضي وما بعدها أو قبلها بقليل، وهي فترة بناء الدولة الحديثة التي كانت عزيزة على الرئيس الحبيب بورقيبة والتي لم يأتِ أحد الى الآن بالزيادة أو المزايدة عليها، ويمكن القول بأنها كانت أهم فترة عاشها الكاتب مناضلا في رحاب المنظمات الطلابية ثم في رحاب الحزب الحر الدستوري وقبل أن تعهد له مهمة وال على الكاف ليقضي فيها أكثر من خمسة أعوام كانت كلها مليئة بالأحداث السياسية والتحولات الاجتماعية والاقتصادية وأهمها فترة تحول الحزب الحر الدستوري بعد الانتهاء في الكفاح وبناء أسس الدولة الى حزب له قضية واختار الاشتراكية في مؤتمره المنعقد سنة 1964ببنزت بعد تحريرها وتحرير تونس كلها من آخر جندي فرنسي واسترجاع أراضي المعمرين وإرجاعها الى الدولة التونسية، وكانت الباعث الأكبر على اعتماد سياسة التعاضد وتركيز المستحقين لها من أبناء الشعب الكريم فيها خاصة من كانوا عملة لدى الأجنبي الذي تخلصت تونس منه. ولكن تلك التجربة لم تكتمل وانتهت بإقالة مهندسها الأول أحمد بن صالح وتحميله مسؤولية فشلها وانتهت بالحكم عليه وعلى البعض ممن عملوا معه بتهمة تغليط رئيس الدولة. كان ذلك فاصلا مهما عرف صاحبنا عبد السلام القلال كيف يرويه بأمانة مفرطة وبالأسماء والمواقع ولم يخفي مشاعره الخاصة وجرأته، فكانت نقطة النهاية بالنسبة اليه في ذلك الموقع لأنه لم يتحمل مثلما تحمله أمثاله وخير إنهاء مهامه كوال على ولاية القصرين التي انتقل اليها لبضعة أشهر بعد وقفة التأمل التي كان أساسها تقييم التجربة، ولكنها انتهت الى التنكر الكامل والشامل الى خطة اقتصادية آمن بها وشارك فيها بكل قوة وأخلص النية ولكنه لم يقبل بذم ما كان يروج له من محاسن وفضل المغادرة وتحويل نشاطه لميدان آخر وهو اختصاصه الأصلي المحاماة ورأى أنه أفيد له ولتونس التي أحبها ومازال على ذلك الحب الى آخر ورقة تكتشفها في ذلك الكتاب الذي يمكن أن يسمى بيوميات كتبت بعد أكثر من خمسين عاما. لم يغير ذلك كله من حبه وتعلقه بالزعيم بورقيبة وكان في أكثر من موقف ويشعر القارئ بذلك الحب الأبوي الذي مازال عالقا الى اليوم وكثيرا ما يستشهد بأفعاله وبأقواله حرفيا وقد يعود ذلك للإقامات المتكررة والطويلة التي كان يقضيها بورقيبة بالكاف في زمن صديقنا المتحدث عنه وما كان يخصه فيها بالحديث الذي لم يتسن لغيره من الولاة الآخرين أن ينعموا به مباشرة مثله. لقد بقيت قضية افراد السيد أحمد بن صالح بالمسؤولية في تلك التجربة وجرجرته أمام المحاكم والقضاء عليه بأحكام مشددة، بقيت الى الآن تؤرق السيد عبد السلام القلال ويرى ذلك ظلما لأنه في النهاية ولو أن فشل تلك التجربة التعاضدية كان حقيقة، فان السبب يعود أساسا الى القرار الجماعي القاضي بتعميمها في كل القطاعات خلافا لما تم الاتفاق عليه في مؤتمر بنزرت المذكور الذي أقر بتعايش القطاعات الثلاثة وفِي كل الأحوال لم تكن فاشلة في مجملها في الفلاحة وكان يمكن إصلاحها وتدارك الأخطاء التي طرأت عليها، وكان يرى فيها الطريق الأمثل للاصلاح الزراعي. لقد عشت تلك الفترة مثلما عاشها وربما أكثر قربا منه لأني وقتها كنت معتمدا على النفيضة التي تم تركيز 17 وحدة إنتاجية فيها وكلها على أراضي الدولة ولكن تعميم العملية وإقحام أصحاب الأراضي الخاصة وتجميع المعاصر والأغنام والمهن الأخرى أثر تأثرا سلبيا وأفسد كل العملية التي كانت مفيدة بالنسبة للأراضي المسترجعة من المعمرين وخاصة المدروسة فنيا والممولة بطريقة معلومة وانتفع بها العملة الفلاحيين الذين كانوا فيها بالإضافة للمحرومين من الآخرين وحتى لا يستأثر بها "المستكرشين" كما كان يسميهم المرحوم محمد مزالي وذلك تحقيقا للعدالة الاجتماعية وقضاء على تشتيت الملكية، ولكن ذلك كله لم يحصل وتغلبت المصالح الخفية وشاخ بورقيبة وكبر وكثرت أمراضه واعترف هو شخصيا بأنه لم يعد يقدر على ما كان يفعله في عز شبابه وتلك قضية أخرى نبقيها للمؤرخين للفصل فيها بموضوعية وروية بهذه الأسطر القليلة أردت أن أحيي صديقي عبد السلام القلال الذي تربطني به علاقة ود واحترام دائم متمنيا له الصحة والعافية وطول العمر وأهنئه على ذلك المجهود الذي أخيرا تمكن من تحقيقه أناره للتاريخ وللحقيقة في قضية ما زالت مسكونا عليها وأنصح من يريد أكثر بقراءة ذلك الكتاب ولن يندم.