لقد نشأت أجيالنا على صورة باهتة عن المصلح الأستاذ عبد العزيز الثعالبي، وغاية ما نعرفه عنه هي الأسطر القليلة في كتب التاريخ المدرسي التي تذكر أنه من مؤسسي الحزب الدستوري، وهو حزب مشايخ عجز عن استيعاب طموحات الزعيم بورقيبة في استقلال البلاد فانشق عنهم ليؤسس الحزب الحر الدستوري. لقد تعرض الكثير من المصلحين والمناضلين التونسيين إلى الإهمال في التاريخ الرسمي بفعل الهالة الضخمة التي أحاطت بالزعيم بورقيبة فأخفت من سواه، رغم أن بورقيبة يعترف في بداية الاستقلال قبل أن يحيط نفسه بهالة الزعامة المطلقة أنه تأثر بكتاب «تونس الشهيدة» للأستاذ الثعالبي، فيقول: «لقد أخفيت الكتاب تحت غطائي وأنا متأثر شديد التأثر، فاطلعت على ما احتواه من أرقام وما تضمنه من معلومات حول الأموات والفقر، وشعرت بالإهانة الناتجة عن الاستعمار، وكنت أبكي خفية». وقد قرأ بورقيبة وقتها كتاب الثعالبي خفية لأن السلط الفرنسية جعلت قراءته جريمة يعاقب عليها القانون لما فيه من تحريض للشعب على نيل حقوقه. وكما سنرى في هذه السلسلة، فقد كان عبد العزيز الثعالبي رحمه الله من أوائل المناضلين في تونس ضد الاستعمار والاضطهاد، وكان عالما فذا خطيبا مفوها وكاتبا جيدا، قل أن يجود الزمان بمثله حتى أنه سريعا ما تفطن إلى وحدة قضية العرب من المغرب الأقصى إلى أقاصي اليمن، فناضل منذ بداية القرن العشرين بلا كلل لترقية العرب من الحكم القبلي إلى النظام الحديث القائم على انتخاب ممثلي الشعب في مجلس النواب وعلى فصل السلط عن بعضها وعلى ضمان الحريات الأساسية للإنسان. وفي عدة دول عربية، يعتبر المؤرخون عبد العزيز الثعالبي أحد أهم رموز الإصلاح والتحرير في العالم العربي الإسلامي مثل عبد الكريم الخطابي وعلال الفاسي في المغرب، عبد الحميد بن باديس في الجزائر، عمر المختار في ليبيا، مصطفي كامل ومحمد فريد في مصر، عز الدين القسام في فلسطين وأحمد أغابيف من مسلمي روسيا. وقد كان لهؤلاء المصلحين دور أساسي في صياغة الوعي بالحرية والكرامة وبالمطالب الأولى للشعوب العربية الإسلامية وفي نشأة الجيل الموالي الذي تمكن من نيل الاستقلال. سوف نرى عبر الحلقات الموالية قصة هذا المصلح العظيم وأهم مراحل حياته، وفاء لما قدمه لتونس وللعالمين العربي والإسلامي من نضال من أجل الحرية والكرامة.