إن اللافت للانتباه في العملية الإرهابية الأخيرة التي جدّت في منطقة عين سلطان بغار الدماء والتي ذهب ضحيتها تسعة أعوان من الحرس الوطني بين قتيل وجريح هو أن التعاطي الشعبي معها كان مختلفا عما سبقها من عمليات وأن تفاعل الرأي العام كان كذلك مختلفا هذه المرة على عكس الكثير من الإعلام التونسي الذي حافظ على نفس الأداء والتصرف القديم في محاولة لاستثمار الحدث إعلاميا في حين لمسنا بعض الوعي المختلف لدى الناس في التفاعل مع هذه الحادثة الأليمة. فما حصل هذه المرة أن الكثير من المتابعين قد أصبحوا مدركين أن ما حصل ويحصل في تونس من تهديد لأمننا وسلمنا الاجتماعي و ما تتعرض له البلاد بين الفينة والأخرى من أعمال إجرامية تحت غطاء الارهاب والعمليات الارهابية ما هو في الحقيقة إلا أفعال مدبرة ومخطط لها لإرباك المسار الديمقراطي وخلخلة الوضع العام وإعادة خلط الأوراق لتحقيق غايات سياسية . اليوم هناك قناعة بعد حادثة عين سلطان أن ما نسميه إرهابا ما هو إلا أعمال اجرامية مسلحة موجهة تقف وراءها جهات باتت معلومة تحركه وقت الحاجة وحسب الطلب لإرباك الموضع العام وإغراق الناس في وضعية من الشك وحالة من الحيرة لتحقيق غايات سياسية باتت هي الأخرى معلومة .. اليوم لم يعد يقنع الخطاب الذي يروج إلى أن الارهاب له لون ديني فحسب ويتحرك بخلفية دينية فما حصل قد أكد أن العمليات الإجرامية المسلحة تتحرك وفق أجندة سياسية خطيرة تقودها نفس قاعة العمليات التي نفذت كل الاجرام الذي حصل بعد سقوط النظام القديم وذهب ضحيته الكثير من الأبرياء وأن ما نعيشه هو نوع من الارهاب المركب الذي توظف فيه الجماعات والعناصر الارهابية المخترقة لتوجيه ضربات مقصودة للدولة تحمل من ورائه إشارات ومواقف محددة من قضايا محددة. ما حصل في وعي الكثير من الناس أن الخطاب الإعلامي الذي يعمل على استثمار هذه المآسي الدامية لتوجيه الناس أو تكوين رأي عام حول فكرة معينة وتوظيف الأحداث للانتصار إلى طرف سياسي على حساب طرف آخر لم يعد يفيد ولا يقنع .. ما حصل هو أن الأداء والطريقة التي تعاطي بها جزء من الاعلام وبعض القنوات التلفزية لم تعد تقنع في استمالة الناس ولم تعد تفيد في فهم ما يحصل . اليوم وبعد أن رأينا كيف تعاطت بعض الأجهزة الاعلامية وكيف تصرف بعض السياسيين مع حادثة غار الدماء اتضح أن هناك خيط ناظم بين ما حصل وبين الخطاب الإعلامي المقدم والخط التحريري لهذه المؤسسات الإعلامية .. اليوم هناك أكثر من سؤال حول دور الإعلام في كل ما يحدث في البلاد .. هناك أسئلة مشروعة حول سرعة تغطية الحدث الأخير وسرعة تواجد قنوات أجنبية على أرض الحادثة وسرعة إعداد حصص حوارية لمناقشة العمل الاجرامي وهي كلها أسئلة تحيل على أن الارهاب اليوم صناعة وتوقيت وتدبير وقرار .. ما أردنا قوله هو أن العمل الارهابي الأخير قد كشف أن الإرهاب في تونس صناعة وبرمجة ووسيلة تستعمل في المعارك السياسية. فكيف نفهم كلام من يقول بأن العملية الارهابية كانت نتيجة إقالة وزير الداخلية الأسبق ؟ وكيف نفهم حديث بعض القيادات الحزبية أن الطبول بدأت تقرع وأن الأمر لن يكون مجرد مناورة بالذخيرة الحيرة ؟ كيف نفهم أن الخطاب التحريضي قد تم استعادته بنفس الوجوه القديمة والعناصر المعروفة والطريقة المعهودة لتعاد على مسامعنا نفس الاسطوانة القديمة التي استمعنا إليها منذ الثورة ؟ ما حصل أن الكثير من أفراد الشعب لم يعد يقنعهم ما يقوله الإعلام بخصوص الإرهاب وبدأ يفهم أن القضية أكبر من ذلك وأن للموضوع أبعاد دولية وإقليمية وصراعات داخلية حول من يحكم وكيف يحكم وحول قيادة بعض المؤسسات الحساسة في الدولة وصراع آخر حول فرض الآراء والقرارات بالقوة .. وصراع حول إقصاء خصوم سياسية بغير الطريق الديمقراطي .. وصراع حول من يكسب أكثر ولاء الأجنبي ومن يخدم أكثر حكومات إقليمية كانت منذ اليوم الأول ضد الثورة .. في كل هذه الصراعات يحركون الإرهاب ويفتعلون أحداثا إجرامية لخلق وضعية مربكة غير مفهومة يتولى فيها الاعلام الدور المتقدم في توجيه الناس وصناعة رأي عام بمضامين وأفكار محددة سلفا .. ما هو مفيد أن هذه الاستراتيجية السياسية والإعلامية لم تعد تنطلي اليوم على الناس ولم تعد تستهو الشعب.