كم كنت أتمنى لو أن هؤلاء الذين تكلموا منذ الاستقلال وحتى من قبله أن يتوقفوا عن الكلام بعد أن أفرغوا ما في جعبتهم.. وقالوا كل ما لديهم.. لقد ظللنا نسمعهم أكثر من نصف قرن.. وقد تكلموا عندما كان الباي يحكم.. وعندما حكم بورڤيبة.. وعندما حكم بن علي.. في كل العهود كانوا يتكلمون.. أكثر من نصف قرن وهم يتفلسفون.. وينظرون.. ويعبرون.. ويقولون.. ويخطبون.. ويحلّلون.. وما من حدث إلا وكان لهم فيه قول ورأي.. وما من مشكلة إلا وكانوا يوظفونها لصالحهم.. وهاهم الآن يريدون أن يظهروا بمظهر «الحكماء».. طيّب.. لما أنتم حكماء.. لماذا لم تنقذوا بحكمتكم تونس من كل ما تعرضت له من هزّات وأزمات وعواصف وشطحات وزوابع منذ استقلالها إلى الآن.. لقد شاركتكم في الحكم.. وكنتم تلعبون أدوارا ظاهرة وخفية.. وكنتم على الساحة.. فماذا فعلتم؟.. ألا تتحمّلون اليوم قسطا من مسؤولية الخيبات والأزمات والمشاكل التي نتخبّط فيها اليوم؟ ألم يحن الوقت الذي تعلنون فيه أن الوقت غير وقتكم.. وأن «المرض» ليس من اختصاصكم.. وأن الأمور تجاوزتكم..؟! أليس من «الحكمة» وأنتم «الحكماء».. أن تتركوا الساحة للشباب ولذوي الشأن من أبناء هذا العصر الذين يعرفون كيف يقرؤون المشهد الوطني العام قراءة سليمة وصحيحة.. إنكم أنتم المشكل.. فكيف تريدون أن تكونوا أنتم الحلّ؟ ماذا يريد هؤلاء؟ أحد الأصدقاء سألني صباح أمس هذا السؤال: ماذا يريد هؤلاء الذين تجاوزوا الثمانين ومازالوا يتكلمون.. ومازالوا يريدون الجلوس فوق الكراسي.. استمعت إلى السؤال واكتفيت بضحكة اعتبرتها تغني عن كل جواب.. خوف الخوف أصبح الرفيق اليومي لمعظم الناس هذه الأيام.. ويكذب من يدّعي أنه لا يشعر ولو بشيء محدود من الخوف! وخوف الناس هذا له مبرراته.. فعندما يسمع الواحد منّا أن الوالي وما له من سلطة وهيبة لا يستطيع حماية نفسه.. ويهرب بجلده فإن المواطن العادي من الطبيعي جدّا أن يخاف.. جراية ولكن هل تعرفون من هم أكثر الناس خوفا؟ إنهم أولئك الذين لا يشتغلون وبلغوا سن التقاعد.. ويتمتعون بجراية منتظمة.. هؤلاء يعيشون خوفا كبيرا لأنهم يظنون ولو في قرارة أنفسهم بأن جراية التقاعد قد تتوقف.. وقد تنقطع.. فكل شيء جائز في ظل انعدام الاستقرار.. الاستقرار وعلى ذكر انعدام الاستقرار سمعت أحد النواب يقول أن الاستقرار لا أهمية له فالأهم هو أننا أنجزنا الثورة وحققنا مكاسب كثيرة.. ولم أصدّق أن هذا الكلام يصدر عن شخص مسؤول وعاقل.. لم أصدّق!!! فماذا سأقول؟.. وبماذا سأعلّق؟.. إن السكوت من ذهب.. السكوت! وعلى ذكر السكوت أظن أن هناك حالة من الدمغجة المثيرة لشتى التعاليق.. بل والمثيرة للشفقة لأنها تدلّ في ما تدلّ على رغبة في المغالطة وتقديم كمية ضخمة من الآمال والوعود.. وهذه الحالة لا يمكن التعامل معها كذلك إلا بالسكوت.. ولكن للأسف الشديد فإن نتائجها ستكون كارثية..