بقلم محمّد نجيب عبد الكافي يأتي على المرء حين يكون فيه راضيا مسرورا ، ويأتيه حين آخر يجعله غاضبا وكفورا.كنت أمس مغمورا في الحالة الأولى ، فاضطجعت أطلب الرّاحة وأنا في شبه رضا عن نفسي ، لأن رضاي عنها كاملا مستحيل ، فقد أتممت لحيني آخر اللمسات في كتاب جديد عن الأدب الشفوي في تونس ، نال استحسان أستاذ جامعي من مدرّسي هذا العلم ، أو هذا الفن ، ومن الباحثين عنه وفيه ، فتكرّم بتقديم أو تعليق وتحليل ، أدخل على النفس " المغرورة " رضا وسرورا. تمدّدت وفتحت المذياع كي أتابع برنامجا ثقافيا بالإذاعة الوطنية لهذا البلد الذي يحتضن غربتي. كنّ ثلاث سيدات ضمن هذا البرنامج ، صاحبته ومقدّمته وضيفتاها ، عرفت إحداهما وهي استاذة مادة الألسنية بالجامعة ، غزيرة التأليف والنشر، كتبا ومقالات. كنّ يشتكين ، يتذمّرن ، يأسفن ، ينتقدن ، يعاتبن ، يلمن ، ويطالبن بإيقاف التقاطر قبل أن ينهمر. ركزت انتباهي وسمعي تركيزا شديدا ، لأنّ لي في الموضوع سوابق ومواقف تشبه موقفهنّ لكن في مجالس ومناسبات خاصة ، لا عبر موجات الأثير. كنّ يشتكين من ، وينتقدن عنونة بعض المحلات التجارية وصياغة الشعارات الإشهارية لبعض المنتوجات المستعملة بلغة أجنبيّة أو حشوها ببعض المفردات والعبارات الدّخيلة ، وهي ليست أجمل نطقا أو تعبيرا من مرادفاتها من لغة البلاد واللسان الوطني ، علاوة على عدم فهمها من المستهدفين لها ، وتحريفهم إياها إذا هم نطقوها. ضحكت هنا وحدي ، كما لم أضحك من قبل ، لأنهنّ أجدن تقليد النطق الخاطئ ، فأبرزن ما يأتي منه من معان مغايرة أو مضادة لما أراد مؤلفوها ، فجاءت أحيانا قبيحة ، أو حتى خارجة عن الأدب والأخلاق الحسنة. انتهى البرنامج ، فقمت لأجلس أمام حاسوبي أبحث عن ملف حفظت فيه ما جمعته من أمثلة تزخر بها لغتنا أولهجتنا أو لساننا الشعبي التخاطبي اليومي ، لأني ، كما أسلفت، أشبه السيدات الثلاث في التعامل مع ما نرى فيه بداية خطر زاحف داهم. كان من عادتي ، ككلّ الصحفيين ومحترفي الكتابة ، أدوّن المعلومات والخصائص والمميزات والأسماء والتواريخ ، وكلّ ما يمكن أن يُستحقّ وتدعو الحاجة إليه ، في بطاقات ، يسميها بعضهم كرودا ، تُرتَّب حسب الأبجدية أو المواضيع ، كي يسهل الرجوع إليها وأخذها عند الحاجة. لكن بعد أن غزانا الحاسوب ، وجعل لنا من نفسه راقنة ودُرجا ومكتبة وخزانة محفوظات ، خضعت لأمره مرغما – رغم كرهي وعدائي – وفيه حفظت مُدَوَّناتي. بحثت عن الملف فوجدته ، ووجدتني عنونته بعبارة تنمّ عمّا كان بنفسي عند جمع وتدوين ما جمعت ، فعنونت بها هذا المقال لأن فيها بعض الحقيقة. وزيادة للطين بلّة ، وجدت تحتها عنوانا آخر، كأني كنت متردّدا فجاء الثاني شبيها ومغايرا وهو " نتكلم بفكر الغير". تعجّبت من العنوانين فجعلت أقرأ ما جمعت ، وهو غير قليل ، فاتضح لي ما كنت قصدته سنوات مضت ، بضعيف التعبير ما من شك ، لكن ما هو، بكلّ اختصار، سوى شبيه ما كنت أستمع إليه قبل قليل عبر مصدح الإذاعة الوطنية الإسبانية ، بلسان سيدات رفيعات التخصّص ، يردن الحفاظ على نقاوة وأصالة لغتهن ، وبقائها نقية سليمة من كلّ خلط مشين. قبل مواصلة عرض بعض الأمثلة مما جمعت من عيوب ارتايتها ، ولا أزال أرتئيها، في لساننا الذي نتخاطب به ، وحتّى في ما يكتب أحيانا ، سأستسمح وقفة أسرد فيها ما حدث لي مع أخت تونسية ، كي يكون من يشرّف هذه الأسطر فيقرأها ، على بيّنة ووضوح ممّا سأحاول عرضه وشرحه إن استطعت ووفقت. رنّ جرس الهاتف فأخذت السمّاعة وإذا بصوت نسائي يقوم بتقديم صاحبته التي ، بكل لطافة وأدب افهمتني أنّ اتصالها بي أشارت عليها به إحدى قريباتي ، وتأمل من ورائه مساعدتي إحدى صديقاتها تريد الحصول على تاشيرة دخول لزيارة إسبانيا. أبديت استعدادي فسألت عن الغاية من الزيارة ، فقالت مخاطبتي حرفيا: " عندها كنسار". قلت لا حاجة لها بالتدخل أو الوساطة إذن ، فما عليها إلا أن تطلب شهادة من طبيبها فترفقها بطلب التأشيرة. قالت وما دخل الطبيب هنا ؟ قلت: ألم تقولي أنها مصابة بالسرطان ؟ تأنّت قليلا كأن جوابي فاجأها فلم تفهم قصدي ، وبعد ذلك الصمت قالت: أنا لم أذكر أيّ مرض بل ذكرت " الكونسار" أعني الموسيقى. ذهلتُ وتألمتُ وحزنتُ ، وكدت أخاطبها بما لا يليق. لكني تأدبت وقلت بصبر وغيض مكتوم: الحمد لله الذي أبدل المرض باللحن والطرب. لتطلب الصديقة من منظمي الحفل استدعاء أو شهادة تقدمها مع طلب التأشيرة وكفى المؤمنين شرّ القتال. لست أدري إن أنا في حاجة لشرح سبب سوء الفهم ، لكن لزاما أذكر أنّ عقل السامع يُعدَّل تلقائيّا على لغة مخاطبه أو ما ينتظر أن تكون لغة مخاطبه ، ومنذ الكلمة الأولى يجري تعديل على ذبذبات لغة تلك الكلمة الفاتحة لسيل من مثلها ، وأي خروج عن المسار الطبيعي ، يُحدِث في العقل المتلقي ارتباكا يفضي إلى سوء الفهم ، أو تُؤَدة فيه إلى أن يُصَنَّف المتسببُ في الارتباك ، لتعود الأمور إلى مجراها. عدت ، متأثرا بما حلّ بي ، إلى ما اختزنته من عبارات ننطقها بلساننا العربي الدارج ، وهي شكلا وتركيبا بلسان أعجمي. يعلم حتى من لا يعلم ، أن من خصائص اللغة العربية – وبالتبعية لهجاتها – صيغة التثنية أي المثنى ، فكنا نقول حتى بلساننا الدارج: عندي كتابين ، خير الذرية وليدين وبنية ، عنده ساعتين يستنّى ، لكن أصبحنا نسمع: عندي زوز كتب ، عندي زوز بنات ، والمضحك هو مثلا : عندي زوز يدين ، فيصبح المعنى أربع أيد ، لأن يدين تعني اثنتين ، وزوز كذلك ، فاثنان مكررة تصبح أربعة. ليس هذا لعمري سوى ترجمة حرفية لتعبير بلغة أعجمية : tengo dos manos – j' ai deux mains have two hands I. يعرف العارف ، وحتى غير العارف ، أن في لغتنا ما يسمى إضافة فكنا نقول مثلا : دار عمي ، جبة بابا ، كتاب أختي ، أما اليوم فلا نسمع إلا: البقعة متاع فلان ، وخذيت القلم متاع فلتان ، فتقوم مفردة "متاع" مقامde بالفرنسية مثلا. الغريب المحزن ، الذي وراءه ما وراءه من مؤثرات ، بل مؤامرات لها صبغة سياسية ليس لنا دخول متاهاتها ، ولا هذا مجال التعرّض إليها ، هو أن كثيرين من المثقفين ، أخصّ بالذكر منهم المذيعين ومقدّمي البرامج في الإذاعة المرئية والمسموعة ، لأنهم – أرادوا أم أبوا – هم قدوة يحاكيهم المستمعون والمشاهدون بلا إرادة ولا شعور. لا قصد ولا مجال للحديث عن قواعد اللغة العربية واحترامها أو عدمه ، بل الأمر يقتصر على عبارات وجمل ، ليس لها من العربية إلا رنّة وموسيقى حروفها. فكثيرا ما نسمع هذا أو هذه تقول: على الهواء مباشرة ، وهي مأخوذة ، قصدا أو عفوا ، عن on the air directly الإنغليزية ، بينما المنقول للمشاهد أو السامع لا يأتيه به الهواء بل الأثير، على ذبذبات معيّنة محدّدة ، لا على تردّدات التي هي من معاني كلمة frequence – frequency إلى غير ذلك من نطق هذه الكلمة بشتى اللغات اللاتينية الأصل. ليست هذه سوى بضع أمثلة ، أمّا ما بقي من الحقيقة في هذا المجال فهو كثير كثير إن لم تتوافر لإيقاف سيله جهود ذوي الشأن ، والمسؤولين على مستقبل البلاد ، والمثقفين ذوي الخبرة والمسؤولية على حماية كل ما له صلة بهوية وأصالة وثقافة البلاد وشعبها ، ووسائل الإعلام التي من أوائل واجباتها ودورها في المجتمعات ، تعميم الثقافة الحقة وتغذية الأفكار والعقول ، والمدارس التي هي الأم الثانية التي ترضع النشأ بعلم ومعرفة ، كي يكون مواطنا كفأ صالحا ، يعتز ويفتخر بما له ، عن واقع وحقيقة، لا لمجرّد التباهي والتظاهر الكاذبين ، إن لم تتظافر في سبييل هذا كل الجهود والإمكانات والإختصاصات ، فليس صعبا على كلّ ذي حجا أن يتنبّأ بمستقبل اللغة ومصير التخاطب. إن سنّة حياة اللغات هي التطوّر والإثراء والاقتباس والتّلوّن، والتعامل مع الظروف والمستجدّات ، لكن مع المحافظة دائما على خصوصياتها من تركيب ونظام وقواعد ، طبيعية أو موضوعة ، فتصهر كلّ دخيل مستجد وتخضعه لتلك القواعد والخصوصيات. ذلك لأن اللغة ، كالشجرة تنمو وتتفرّع وتورق ، وفي نموّها تموت فروع وتسقط أوراق ، وهي دائما نامية. تطوّرت اللغة الشعبية في مختلف اتجاهاتها الحضارية ، ومختلف مدلولات مفرداتها على مرّ الزّمن ، وقد أحدث التدخّل الغربي وحضوره شروحا في هذه اللغة على مستوى العمل والتقنيات ، فدخلت مفردات غربية في اللهجة الشعبية ، لكنّها عرفت دوما كيف تصهرها فتجعلها كأنّها من صلبها ولدت. " إن اللغة في ذاتها أكثر من مجرّد وسيلة تواصل وتخاطب. إنها حقّا محفوظات – أرشيف بلسان بعضهم – مجموعة بشرية ما ، حصيلة تاريخها كما تراكم تدريجيّا ، فاندمج في معجم لغوي بتركيباته. فاللغة هكذا تعكس هوية تلك المجموعة البشرية على ما هو من أخصّ خصوصياتها ، حتى يمكن القول بأنها تمثل أصدق صورة تعكسها أيّة مجموعة بشرية عن نفسها إلى العالم الخارجي. مدريد 20-7-2018