تعيش تونس مزاجا ثوريا بامتياز هذه الأيام، فلا تمر بأي مكان إلا وتجد متظاهرين أو معتصمين أو محتجين معتقدين أنهم إن لم يفعلوا هذا الآن لن يسعفهم المد الثوري في ما بعد... ومهما كانت التخوفات _ وهي حقيقية _ من أن تسود الفوضى وتتعطل الأشغال والأعمال فإن ما يحدث من حركات احتجاجية لا بد أن يفرز بديلا أفضل لما عرفته بلادنا طيلة أكثر من عقدين من نموذج مهيمن يقوم على عناية سيادته الموصولة، ومن المؤسف أن الخلل تسرب إلى كثير من مؤسساتنا الثقافية والأنشطة الثقافية من ندوات ومهرجانات وتظاهرات أساسها نظرة "السيدة الأولى" إلى الموضوع الفلاني أو القضية الفلانية في فكر سيادته... ومع قليل من الاستثناءات فإن أكثر الناس شجاعة هم من نأوا بأنفسهم عن هذا الطقس الفلكلوري رغم انتمائهم إلى المؤسسة الثقافية الرسمية فنظموا الندوات وأقاموا المهرجانات في إطار واضح يخدم أغراضا ثقافية محضة دون تطبيل أو تهليل ومن العيب أن يدرج كل الفاعلين الثقافيين في "شكارة" واحدة... لسنا في موضع من يمنح العفة الثقافية لأحد ولكن الذاكرة تحتفظ بكثير من التقدير بأسماء من عمل دون غايات سياسوية ودون دمغجة ودون بروباغندا في ظروف صعبة وأحيانا قاسية... وفي تجارب مهرجان المدينة مع المختار الرصاع وجمعية أحباء الموسيقى للطفي المرايحي ومدينة الثقافة مع محمد زين العابدين وأنشطة التياترو لزينب فرحات وتوفيق الجبالي وفاميليا للفاضل الجعايبي وجليلة بكار والجامعة التونسية لنوادي السينما ومهرجان سوسة الدولي لفيلم الطفولة والشباب مع نجيب عياد وبعض المقترحات الموسيقية لفنانين التزموا برسالتهم الفنية دون أن يتقمصوا دور المتمسح بالعهد النوفمبري... والعشرات من الأنشطة الثقافية في الجهات من أناس اختاروا الاستقلالية على أن يدنسوا الثقافة باللبوس النوفمبري... هؤلاء الذين صمدوا ثقافيا لابد أن تقال في شأنهم كلمة حق لأنهم حموا ذاكرة التونسيين وخدموا الثقافة لا من أجل بلوغ مناصب إدارية أو طمعا في مقعد أو منصب سياسي بل لأن هاجسهم كان في البدء والمنتهى خدمة الثقافة الوطنية... والأمل معقود أن يجد وزير الثقافة الجديد الوقت لينتبه إلى هؤلاء الذين لن يجدهم في صفوف المحتجين أمام وزارته أو أمام مكتبه... حتى يواصلوا منجزهم في ظروف أفضل ومناخ أكثر حرية