برغبة من أحد القرّاء الكرام الذي قرأ لي قصة جذور الفلاحة بطبلبة وانقطاع ماء نبهانة عنها وكنت نشرتها سابقا قي هذا الموقع، قررت استجابة له أن اكتب عن تاريخ الصيد البحري فيها قبل تطوره بأحداث الميناء وتطوره بزيادة حوض ثالث فيه وهو بصدد البناء وبعدما اصبح غير كافيا لكثرة الحركة فيه والنشاط وبدخول تربية الأسماك في أعالي البحار بالقرب من جزيرة قوريا التي كانت مرتبطة إداريا بطبلبة قبل انتقالها للمنستير لاحقا. لقد أدركت طريقة صيد الأسماك بالكيس الذي كان شائعا وتتبعت نظامه التعاوني الذي سبق التعاضد عندنا والذي جربناه وترك في النفوس شكا وحسرة لأنه اعتمد على الاكراه ولم يحسن القائمون عليه ادارته وفشلت بذلك الفكرة والتجربة ولم يعد أحد منا يتحدث عنها خوفا وخشية إلا في مدينتي طبلبة هذه التي كانت سباقة في كل شيء ناجحا عنه خشية الا على تعاضدتي السعادة للخدمات الفلاحة التي تأسست اختياريا منذ سنة 1948 ومثلها تعاضدية النصر لخدمات الصيد البحري قائمة مثلها الى الان والحمد لله. سأتحدث لكم هذه المرة عن الصيد بطريقة الكيس الذي انتهى العمل بها اراديا منذ بداية الثمانيات من القرن الماضي مثلما هو الحال مع الطرق الغير المشروعة كاستعمال المتفجرات المصنوعة محليا والتي كانت تسمى عندنا في طبلبة (بالعصبان) وقد اشتهرت خاصة في آخر معركة جرت مع العسكر الفرنسي في ايّام الكفاح الاولى في بلدتنا. كانت تلك المفرقعات رائجة الاستعمال سريا وضررها أكثر من نفعها لانها تقضي على كل الأسماك الواقعة بدائرتها وتفسد الحرث والنسل في البحر وهي مضرة بصحة المستهلك بسبب السموم التي تخلفها المواد المتفجرة. لذا تم منعها منعا باتا من زمان ويعاقب عليها القانون بالسجن والخطية زيادة عن فساد طعم منتوجها. اما الصيد بالكيس الذي حاولت التعمق في دراسته ذات مرة صدفة لما استنجد بي وزير الداخلية وقتعا المرحوم الهدي خفشه حمه الله لما كنت واليا على قفصة في بداية سبعينات القرن الماضي لما جدت معركة طاحنة بين مالكي الاكياس وأصحاب قوارب الصيد الصغيرة وأشادت تم تبادل العنف المادي فيها ونتج عن ذلك إيقاف المتسببين فيها وأحالتهم على القضاء لمواختهم على ذلك. قال لي وزير الداخلية وقتها ان الحكومة احتارت في علاج ذلك المشكل الذي تكرر بالرغم من القانون الذي يعطي الحق لأصحاب القوارب ولكن قوة أصحاب الاكياس كانت أقوى بالمال والجاه وأساليب اخرى، وبين لي اسباب منع الصد بالكيس التي تعود في الأساس الى طبيعة بحر طبلبة لقلة عمق مائه مثلما هو الحال في المناطق المشابهة لها. اما الكيس وتعريفه لمن يريد التعمق فهو عيارة عن جراب مصنوع من الشباك مفتوح الفم ومشدود للاسفل بالرصاص ليغرق ويلامس التراب وفِي أعلاه دوائر من الخفاف لطفأ بها فوق الماء ويمتد على عشرات الامتار يقع رميه في الأعماق ثم يسحب الى الشاطئ من الجانبين بالحبال بواسطة الرجال وبه يتم صيد كل ما يعترض سبيله من الأسماك وغيرها وبذلك يفسد كل المنطقة التي يمر منها ويقضي على صغار الأسماك التي تنمو عادة في قصار البحار ويشكل مضر محققة بأصحاب القوارب الصغيرة الذين لا طاقة لهم بالدخول لأعالي البحار المحدقة بالأخطار. لم أقحم نفسي في تلك المعارك سابقا لأني أراها بين العائلات المتقاربة بالنسب والمصاهرة، ولكن ذلك الامر بقي بذهني عالقا وكثيرا ما استمعت لحجج لهؤلاء وهؤلاء من الأطراف المتنازعة بدون أن أعطي رائي فيها لاحد. اما تاريخ التعامل بتك الطريقة من الصيد فإنها قديمة يتوارثها الأبناء عن الإباء والاجداد وباتت عندنا حكرا على عائلات المعروفة وهي ثلاثة أو أربع ادركتها لما اقحمت نفسي تطوعا في حلها ووفقت في انهاء الامر بصفة ودية بين الأطراف والحمد لله. كان ذلك في زمن حكومة المرحوم محمد مزالي وكانت تربطني به مودة وصداقة زادت توطدا اكثر لما جمعتنا قائمة انتخابات مجلس الامة عن ولاية المنستير التي نججنا فيها معا. كان ذلك العمل صدفة وبعد ان أصبحت نائبا في مجلس الامة عن طبلبة في خريف 1979 وبعدما باشرت مهنة المحاماة بالتوازي مع النيابة وبدأت عملي ذلك في مكتب الاستاذ المنذر بن عمار الذي كان زمن ولايتي على القيروان نائبا عنها في مجلس الامة وقتها وكثيرا ما تعاونا مع بَعضُنَا، وبقيت بيننا مودة وصحبة دعمتها شقيقته السيدة وسيلة حرم رئيس الجمهورية وقتها. كان مكتبة يقع بشارع قرطاج رقم 1 فوق البلماريوم وبالتحديد فوق قاعة يحي لعرض الرسوم الزيتية من حين الى آخر وانتهت تلك البناية بعدها الى الهدم الكلي وعوضها ذلك الفضاء التجاري القائم مكانها الان وتحته موقف للسيارات على طابقين وتعلوه محلات تجارة ومكاتب. اتذكر الآن انه ذات يوم دخل علي الهادي النقبي المعرف في الميدان سابقا ولاحقا مع أشخاص لم أكن أعرفهم سابقا لأني كنت أقيم منذ مدة طويلة خارج البلدة بحكم الدراسة والعمل كمعتمد ثم وال لأكثر من عشرين عام، فقدمهما لي وترجاني ان أسهل لهما مقابلة مع الاستاذ المنذر بن عمار لتكليفه بصفته محاميا بالنزاع الذي لهما مع أصحاب القوارب الصغيرة الذي اشتد وتطور وبات موضوع خصام . وهكذا استدرجتهم في الكلام وقلت لهم أما كان لي بصفتي الجديدة كنائب في البرلمان عن طبلبة ومحام أن أتولى ذلك الامر حتى أجد له حلا توفيقيا أحسن من الخصام خاصة وهو بين عائلة واحدة، وعندها نطق أحدهما بانفعال وتشنج وعبر لي عن ضجره من تلك المهنة التي لم تجلب لهم الا المشاكل، واقترح عليَّ التوسط لهم مع الحكومة ان أمكن كي تعوض لهم ما بذلوه من مال في تلك التجهيزات المكلفة وهم على استعداد لترك تلك المهنة نهائيا ويستريح الجميع ويخفظ ماء الوجه. اغتنمت الفرصة في الحال وأخذت عليه تعهدا أدبيا وطلبت منه مهلة لاتصل بالمسؤولين وأفيدهم بنتيجة مسعاي ! وفي الاثناء اتصلت بالمندوب العام للصيد البحري بوزارة الفلاحة وقتها السيد زكريا بن مصطفى وكنت أعرفه سابقا اذ كان زميلا لي لما كان واليا بقابس. وبمجرد مفاتحته في الموضوع أبدى لي استعدادا لم أكن انتظره وبدأنا في تنفيذ خطة عادلة وتعهدت بالموضوع معه وكنت المفاوض بالنيابة عنهم الى النهاية المفرحة وتوصنا الى تعويض عادل وسخي تتمثل في تقدير التجهيزات بواسطة خبراء وتنفيل ما تنتجه قيمتها بمثلها عن الضرر المعنوي مع إمكانية زيادة خمسين في المائة لمن يستثمر ذلك المال في الصيد البحري مجددا. بذلك أنهينا حربا استمرت لسنوات وكانت تقع كل موسم بين الاقارب وأبناء العم والخال ويستفيد منها الوسطاء بدون حساب. اما ما أصبح يسرني ويثلج صدري فهو جدية هؤلاء الرجال وامثالهم من الذين استثمروا في البحر مجددا وعوضوا ما فاتهم لما أقدموا على تربية الأسماك في أعالي البحار وتكونت لذلك عدة شركات معتبرة ساهمت في توفير الانتاج وترويجه محليا ودوليا وما زالوا يفعلون الى الان وإني انوي تخصيصهم بمقال خاص بعد حصولي على كل المعطيات اللازمة ان شاء الله. وفي الختام أقول لأنهي الكلام انها قصة الاكياس التي احتارت فيها الدولة منذ الحماية وقبل الاستقلال وتحولت بعدها الى حكومات وطنية بعدها وطال الخصام بين الاحباب والضرر المحقق بالثروة السمكية عندنا أردت أن أحكيها لكم بأمانة واختصار ولعل السيد الهادي النقبي يتذكرها. وقبل ان اختم هذه الذكريات اريد ان أضيف قصة طريفة اخرى بقيت لي في البال حيث اتصل بي بعدها السيد زكريا بن مصطفى وبعد تسوية القضية المتحدث عنها سابقا وصرف كل التعويضات المستحقة لأصحابها حسب الاتفاق. وطلب مني ان أساعده على إنهاء الكيس الوحيد الذي بقي يعمل خارج القانون بصيادة المجاورة لطبلبة وامتنع صاحبه المسمى حسين .......من الاستجابة لتطبيق القانون والاقتداء بأمثاله، لكنني اعتذرت له بحجة ان سلطاتي الأدبية لا تتجاوز طبلبة فهم أهلي وعشيرتي وأحبابي وكل ما طلبته منهم وجدت أكثر منه فلهم مني بهذه المناسبة تحياتي واحترامي لما جدته منهم دائما والسلام.