في الذكرى العاشرة لغياب الذي لا يغيب، محمود درويش، أحب أن استعيد وتستعيدوا معي، آخر مكالمة هاتفية، قبل سفره لإجراء الجراحة التي كان يعرف انها ستودي به. قال محمود درويش: لم اشأ ان اغادر من دون ان أودعك… لقد حسمت أمري وقررت ان أواجه الموت، مرة اخرى… نضح القلق في صوتي وأنا احاول فتح باب النقاش مجدداً: ولكن الأطباء في بيروت قد نصحوك أعرف، وكذلك الأطباء في فرنسا… لكنها معركتي! قلت: هذه معركة غير متكافئة. أعرف، وأعرف أيضا أنه لا بد منها. لم أعد أطيق مواصلة هذا التحدي. لقد سئمت ان أعيش في قلب موتي. أتعرف، من الممتع أن تنازل الموت، ولكنك في لحظة ما ستكتشف ان لعبتك مفضوحة. ان تعرف انه يعرف أنك تعرف النتيجة، وأنك تعابثه. ولكنك يا محمود لست فرداً لتقرر وحيداً ما يشترك معك الناس فيه… قاطعني: اعرف ما سوف تقوله، لست ملك نفسك، وليس لك ان تقرر. تصور: أنا ملكية عامة! في كل تصرفاتي عليّ الا اكون أنا… انتبه! يجب الا تقبل وردة من تلك الحسناء. انتبه! أنت تمثل القضية فلا يجوز ان تضحك بصوت عال! ويجب ان يكون كلامك مدروساً. لقد بلغ الامر ببعض الناس ان استنكروا ذهابي الى مدينتي، بحجة انها صارت تحت الحكم الاسرائيلي! ونسوا انني حتى حينما اكون في رام الله فأنا تحت الحكم الاسرائيلي! لن اتحدث عن الدول الاخرى… ثم انني عشت نصف عمري تحت هذا الاحتلال، وأنا أكثر من يعرفه بينكم جميعا، حتى لا اقول انني أحد القلائل الذين يعرفونه حقا. بل أردت أن أحدثك عنك بوصفك ملكية خاصة لمحمود درويش… لقد حذرك الأطباء من ان اي جراحة قد تحرك الوحش الكامن في شرايينك! قاطعني ضاحكا: حتى الكولسترول عند محمود درويش مختلف انه مثلك، جبار! ألست جباراً علينا جميعا ولكنه جبار عليّ فقط! انه يفرض عليّ التحدي بين ان اعيش أسيره ما تبقى من عمري وبين ان أهزمه ولو بالموت. كأنك تتحدث عن الانتصارات العربية التي نقدم فيها هدايا مجانية الى اسرائيل. وختم محمود درويش مكالمته الوداعية بأن قال انه لن يبتعد عن مكانه لأنه منذ زمن طويل بات يعيش خارج المكان والزمان لان شعره صاره… الى اللقاء، يا شاعر زماننا، الذي أكرمنا القدر بأن عشنا في زمانه..