كما كان متوقعا ومنتظرا خصص رئيس الجمهورية الباجي القائد السبسي كلمته في الذكرى 63 لعيد المرأة التونسية والتي دامت قرابة النصف الساعة للحديث عن تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة وكل الجدل الذي رافق عملها وصاحب نشر مقترحاتها للعموم وهي كلمة لم تخرج كذلك عما كان منتظرا ومتوقعا وهو أن رئيس الجمهورية سوف يتخذ موقفا من قضية المساواة في الميراث ويحسم الجدل الذي اشتعل وقسم الشعب التونسي في اتجاه اقرار مبدأ التخيير في التشريع وإعطاء الحرية للناس في تطبيق القواعد الشرعية أو الذهاب إلى المساواة في الميراث المخالفة لها . فهل حسم رئيس الجمهورية بهذا المقترح كل الخلاف الحاصل حول مسألة المساواة في الميراث؟ وهل حل مشكلة المساواة ومن ثم أنهى الخلاف حول تطبيق الأحكام الشرعية في توزيع تركة المتوفى ؟ وهل فعلا تورط رئيس الجمهورية فيما لم يتورط فيه الراحل بورقيبة حينما لم يحسم نهائيا في القضية ولم يتجرأ على إقرار مبدأ المساواة قانونا وحيدا ساريا على الجميع وخير بدلا عنه حلا وسطا يسمح بتعايش التشريعين معا الوضعي والديني ؟ وهل أرضي حل التخيير في قسمة تركة الميت الطرف العلماني الذي كان حريصا على تجاوز منظومة المواريث الشرعية وإلغاء كل القوانين الدينية التي حوتها مجلة الأحوال الشخصية وتعويضها بقانون وحيد وهو التسوية في الميراث ؟ وهل وضعت مبادرة رئيس الجمهورية الشعب التونسي في مأزق تشريعي حينما خيرته بين تطبيق أحكام دينه بصفته شعبا مسلما كما أكد على ذلك وبين تطبيق قوانين غير إسلامية وصفها رئيس الدولة في كلمته بالمدنية ؟ وفي الأخير هل فعلا كان مقترح رئيس الجمهورية جامعا أم أنه كان خطابه مقسما مفرقا وملغما بكثير من الفخاخ التي تهدد وحدة الدولة والوطن والشعب ؟ كانت هذه بعض الأسئلة التي طرحت بعد سماع كلمة سيد رئيس الجمهورية وفرضت نفسها للنظر في مبادرته التي حوت الكثير من الأخطاء والمخاطر والتناقضات التي لن تزيد قضية المساواة في الميراث إلا تعقيدا وخلافا وتفتح الباب واسعا لمزيد من والجدال والنقاش الذي سوف يبقي على المشكل قائما دون حل نهائي. إن الخطأ الأول الذي ارتكبه رئيس الدولة في كلمته التي توجه بها إلى الشعب التونسي في عيد المرأة هو خطأ إتصالي حينما قال بكل وضوح إنه " حسم في مسألة المساواة في المواريث " فمثل هذا الكلام لا يقال ونحن نتوجه إلى الشعب بمبادرة هي من المفروض أن تكون نتاج مقترحات لجنة خاصة أنشأها هو لتقدم له تصورا ورؤية حول المساواة في الميراث والسؤال المطروح إذا كان الرئيس قد حسم في الموضوع فلماذا أنشأ هذه الجنة لتقدم له مقترحات في موضوع هو محسوم في ذهنه مسبقا ؟ ثم إذا كان الموضوع فعلا محسوما مسبقا فقد كان من المفروض أن يعلم الشعب كيف حسم فيه ذلك أن الأمر الذي بدأ خافيا ولم يفصح عنه الرئيس هي الضغوطات الخارجية ومسألة الاكراهات الأجنبية التي تطالب بتطبيق ما تعاهدت عليه تونس واتفقت بخصوصه حول المساواة بين الجنسية وهي ضغوط قوية مرتبطة بالمسألة الاقتصادية والمالية التي تحرج بها المنظمات الدولية الحكومة التونسية وهي مسألة في غاية الخطورة حينما نرتهن قراراتنا و إصلاحاتنا الاجتماعية في أيدي الأجنبي وتكون مواقفنا مؤتمرة بقرارات ومواقف الأجنبي. الخطأ الاتصالي الثاني الذي وقع فيه الرئيس هو إعلانه وتأكيده على أن الدولة التونسية لها صفة الدولة المدنية وأضاف فقال : إن القول بأن تونس لها شريعة دينية هو قول فاحش في حين أن الشعب التونسي هو شعب مسلم و أنه من حسن التدبير عند كل إصلاح أن يراعي الحاكم الشعب التونسي في مشاعره " فكيف يمكن اتصاليا أن يتوجه الرئيس إلى الشعب التونسي ويقول له بأنك شعب مسلم وتطبق في أحكام الإسلام ولكن دولتك ليست بمسلمة وتطبق في قوانين مخالفة للدين الإسلامي ذلك أن الانطباع التي يحصل في مثل هذا الخطاب هو أن للشعب قوانينه وأن للدولة قوانينها وأن الشعب المسلم يخضع لدولة غير مسلمة . من الأخطاء التي حصلت في كلمة رئيس الجمهورية هو اختزال فهم الدستور وتأويله في الفصل الثاني منه الذي يتحدث على أن تونس دولة مدنية تقوم على المواطنة وإرادة الشعب وعلوية القانون وكل الفصول ذات الصلة وتقديم فهم للمدنية على أنها مخالفة للدين ولا تطبق الأحكام الدينية وتجاهل أهم فصل في الدستور وهو الفصل الأول وهو فصل أساسي يصف الدولة التونسية بأن دينها الإسلام حيث جاء فيه " تونس دولة حرة مستقلة ذات سيادة الإسلام دينها والعربية لغتها والجمهورية نظامها " والقراءة السليمة غير المتعسفة تجعل من لفظة " الإسلام دينها " تعود على الدولة مثل لفظة "حرة " و "مستقلة" و لفظة " الجمهورية نظامها " فكل هذه الألفاظ تعود على الدولة وهي قراءة معقولة تذهب إلى أن الدستور التونسي قد جعل للدولة التونسية دينا رسميا هو الإسلام وهذا الفصل لا يمكن القفز عليه أو تجاوزه وما جاء في كلمة الرئيس من اختزال صفة الدولة في الصفة المدنية فقط هي قراءة منقوصة ومحرفة ومشوهة فهي إلي جانب كونها مدنية هي كذلك مسلمة وأن أي قراءة على خلاف هذا الفهم هي قراءة تخالف روح ومنطوق الدستور الذي ألزم الجميع بالقراءة الكلية غير الانتقائية للدستور حيث نص الفصل 145 منه على " أن توطئة الدستور جزء لا يتجزأ منه " وزاد في الفصل 146 فأكد على أن " أحكام الدستور تفسر ويؤول بعضها البعض كوحدة منسجمة." وبالتالي لا يمكن تجزئة فصول الدستور أو اعتماد فصول وإقصاء أخرى وهو الأمر الذي حصل في كلمة رئيس الدولة حينما تجاهل هذا الفهم الأساسي في الدستور في فصله الأول واكتفي بالحديث عن بالفصل الثاني فقط. الخطأ الثاني يتمثل في إقرار مبدأ التخيير بين اعتماد منظومة المواريث الشرعية أو تطبيق مبدأ المساواة وفق قانون وضعي يسن لاحقا وهو بذلك يعتمد صيغة تعايش وتلازم تشريعات مختلفة ومتناقضة تطبق في نفس الدولة وعلى نفس الشعب وهي وضعية أعادنا بها الرئيس إلى وضعية ما قبل الاستقلال في زمن كانت الأحكام الشرعية تطبق جنبا إلى جنب مع القانون الفرنسي و المحاكم الفرنسية ومحاكم الجاليات الأخرى غير المسلمة قبل أن يقوم الرئيس بورقيبة بتوحيد القضاء والمنظومة القانونية وإعطاء التشريع الاسلامي مكانة متقدمة في التشريع كما هو بارز في كل المجلات القانونية المطبقة من أرزها مجلة الالتزامات العقود والمجلة الجزائية ومجلة الأحوال الشخصية المستمدة من الفقه الاسلامي والنصوص القرآنية. وهي وضعية تعيدنا كذلك إلى ما كان مطبقا في زمن الخلافة الإسلامية أين اعترفت الدولة الاسلامية بوجود قوانين خاصة بالأقليات غير المسلمة التي تعيش تحت راية الخلافة الاسلامية وهي وضعية تذكرنا كذلك بوضعية أهل الذمة في الدولة الاسلامية فهل عادت بنا مبادرة الرئيس إلى وضعية تجاوزها التاريخ وحسمها الرئيس بورقيبة حينما وحد القوانين رغم وجود فئات قليلة لا تدين بالاستلام . ونأتي الآن إلى ما حصل من تناقضات في كلمة الرئيس حول المساواة في الميراث منها ما جاء في قوله " نحن ليست لنا علاقة بالقرآن نحن دولة مدنية وإن القول بأن تونس لها شريعة دينية هو قول فاحش " فكيف يصح هذا الكلام ويستقيم مع قوله بأن تونس شعبها مسلم وله هوية إسلامية ؟ كيف يستقيم هذا الكلام مع ما أكده الفصل الأول من الدستور الذي وصف الدولة التونسية بأن دينها الإسلام ؟ فحينما نقول تونس دولة فإنها تفيد كما جاء في كل تعريف لها احتواؤها على إقليم وشعب وسيادة وإذا صح كلام الرئيس وكانت تونس دولة مدنية لا علاقة لها بالدين الإسلامي فحينها يكون الرئيس مطالب أن لا يستعمل مستقبلا القرآن في حديثه وأن تنقطع الدولة مستقبلا عن تنظيم رحلات الحج وأن تلغي كل الأعياد والعطل الدينية المعروفة وتلغي كذلك وزارة الشؤون الدينية وأن نكف على تتدخل في تسيير الشؤون الدينية للشعب المسلم الذي يعيش في دولة غير مسلمة وأن يلغي عادة القسم على القرآن وكل الاجراءات القانونية المستقاة من النصوص الدينية سواء كانت قرآنا أو سنة وفي الأخير عليه أن ينقح الفصل 74 من الدستور الذي اشترط على رئيس الجمهورية أن يكون مسلما فكيف يكون الرئيس دينه الإسلام ويقود دولة غير مسلمة أو دولة مدنية لا تدين بالإسلام وليس لها علاقة بأحكامه ودينه وفي نفس الوقت هو يحكم في شعب مسلم يخضع في حياته لأحكام الدين الاسلامي ويبقى أخطر ما جاء في مبادرة الرئيس الدولة إقراره مبدأ التخيير في تطبيق القانون وإقراره بتعايش التشريعات المختلفة على نفس رقعة الأرض الذي يعيش فيها شعب واحد هو في فتح الباب أمام دعوات الانفصال وتجزئة الوحدة الوطنية فبهذه الفكرة التي تصور الرئيس أنه قد حسم بها مسألة المساواة في المواريث قد أعطى الحق مستقبلا لكل أقلية لا تريد أن تنصاع لتشريعات وقوانين الدولة أن تطالب بقوانين خاصة بها وتتماشى مع معتقدها وهي وضعية تداعياتها خطيرة على وحدة البلاد والدولة والشعب والخطير الآخر في قلب المبادئ القانونية ليصبح الأصل هو الإثناء والاستثناء هو الأصل وما تطالب به الأقلية غير المسلمة هو المبدأ وما تحتكم له الغالبية المسلمة هو الاستثناء فهل تحتاج مبادرة رئيس الجمهورية إلى إعادة صياغة حتى تعود الأمور إلى أصولها ويعود الفهم الصحيح إلى مكانه في علاقة تشريعات الاسلام بالأقليات غير المسلمة ؟