ايداع 9 من عناصرها السجن.. تفكيك شبكة معقدة وخطيرة مختصة في تنظيم عمليات "الحرقة"    الرابطة الثانية (ج 7 ايابا)    قبل نهائي رابطة الأبطال..«كولر» يُحذّر من الترجي والأهلي يحشد الجمهور    أسير الفلسطيني يفوز بالجائزة العالمية للرواية العربية    حادث مرور مروع ينهي حياة شاب وفتاة..    حالة الطقس لهذه الليلة..    أولا وأخيرا: لا تقرأ لا تكتب    افتتاح الدورة السابعة للأيام الرومانية بالجم تيسدروس    إيران تحظر بث مسلسل 'الحشاشين' المصري.. السبب    إنتخابات جامعة كرة القدم: إعادة النظر في قائمتي التلمساني وتقيّة    بسبب القمصان.. اتحاد الجزائر يرفض مواجهة نهضة بركان    البنك التونسي للتضامن يحدث خط تمويل بقيمة 10 مليون دينار لفائدة مربي الماشية [فيديو]    بين قصر هلال وبنّان: براكاج ورشق سيارات بالحجارة والحرس يُحدّد هوية المنحرفين    نابل: إقبال هام على خدمات قافلة صحية متعددة الاختصاصات بمركز الصحة الأساسية بالشريفات[فيديو]    الكشف عن مقترح إسرائيلي جديد لصفقة مع "حماس"    بطولة المانيا : ليفركوزن يتعادل مع شتوتغارت ويحافظ على سجله خاليا من الهزائم    تونس تترأس الجمعية الأفريقية للأمراض الجلدية والتناسلية    المعهد التونسي للقدرة التنافسية: تخصيص الدين لتمويل النمو هو وحده القادر على ضمان استدامة الدين العمومي    2024 اريانة: الدورة الرابعة لمهرجان المناهل التراثية بالمنيهلة من 1 إلى 4 ماي    مشروع المسلخ البلدي العصري بسليانة معطّل ...التفاصيل    عميد المحامين يدعو وزارة العدل إلى تفعيل إجراءات التقاضي الإلكتروني    انطلاق فعاليات الدورة السادسة لمهرجان قابس سينما فن    بودربالة يجدد التأكيد على موقف تونس الثابث من القضية الفلسطينية    الكاف: قاعة الكوفيد ملقاة على الطريق    استغلال منظومة المواعيد عن بعد بين مستشفى قبلي ومستشفى الهادي شاكر بصفاقس    الدورة الثانية من "معرض بنزرت للفلاحة" تستقطب اكثر من 5 الاف زائر    تسجيل طلب كبير على الوجهة التونسية من السائح الأوروبي    بطولة مدريد للتنس : الكشف عن موعد مباراة أنس جابر و أوستابينكو    جمعية "ياسين" تنظم برنامجا ترفيهيا خلال العطلة الصيفية لفائدة 20 شابا من المصابين بطيف التوحد    جدل حول شراء أضحية العيد..منظمة إرشاد المستهلك توضح    تونس تحتل المرتبة الثانية عالميا في إنتاج زيت الزيتون    الأهلي يتقدم بطلب إلى السلطات المصرية بخصوص مباراة الترجي    كلاسيكو النجم والإفريقي: التشكيلتان المحتملتان    عاجل/ الرصد الجوي يحذر في نشرة خاصة..    اليوم.. انقطاع الكهرباء بهذه المناطق من البلاد    فضيحة/ تحقيق يهز صناعة المياه.. قوارير شركة شهيرة ملوثة "بالبراز"..!!    وزير السياحة: 80 رحلة بحرية نحو الوجهة التونسية ووفود 220 ألف سائح..    عاجل/ مذكرات توقيف دولية تطال نتنياهو وقيادات إسرائيلية..نقاش وقلق كبير..    ليبيا ضمن أخطر دول العالم لسنة 2024    بمشاركة ليبية.. افتتاح مهرجان الشعر والفروسية بتطاوين    بن عروس: انتفاع قرابة 200 شخص بالمحمدية بخدمات قافلة طبيّة متعددة الاختصاصات    برنامج الدورة 28 لأيام الابداع الادبي بزغوان    في اليوم العالمي للفلسفة..مدينة الثقافة تحتضن ندوة بعنوان "نحو تفكرٍ فلسفي عربي جديد"    الإتحاد العام لطلبة تونس يدعو مناضليه إلى تنظيم تظاهرات تضامنا مع الشعب الفلسطيني    8 شهداء وعشرات الجرحى في قصف لقوات الاحتلال على النصيرات    مدنين: وزير الصحة يؤكد دعم الوزارة لبرامج التّكوين والعلاج والوقاية من الاعتلالات القلبية    الكاف: إصابة شخصيْن جرّاء انقلاب سيارة    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    وزير الخارجية يعلن عن فتح خط جوي مباشر بين تونس و دوالا الكاميرونية    السيناتورة الإيطالية ستيفانيا كراكسي تزور تونس الأسبوع القادم    بنسبة خيالية.. السودان تتصدر الدول العربية من حيث ارتفاع نسبة التصخم !    تألق تونسي جديد في مجال البحث العلمي في اختصاص أمراض وجراحة الأذن والحنجرة والرّقبة    منوبة: تفكيك شبكة دعارة والإحتفاظ ب5 فتيات    مقتل 13 شخصا وإصابة 354 آخرين في حوادث مختلفة خلال ال 24 ساعة الأخيرة    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اعتماد صيغة الفصل الأول من دستور 1959 في الدستور الجديد : الدلالات والأبعاد
نشر في الشروق يوم 05 - 11 - 2012

يعد ّ الفصل الأول من كل دستور بطاقة تعريف الدولة وهوالذي يحدد عادة هويتها من حيث طبيعتها وانتماؤها ونظامها السياسي وكذلك اتجاهها التشريعي. ومن هنا تأتي أهمية كيفية صياغته وقد تجلى ذلك في الجدل الواسع والتجاذبات الأخيرة بمناسبة انكباب المجلس الوطني التأسيسي على إعداد مشروع الدستور الجديد للبلاد. وكان من أهم المسائل المطروحة على بساط النقاش صياغة الفصل الأول منه وظهرت اتجاهات متباينة حول هذا الموضوع الهام نظرا إلى انعكاساته المباشرة على طبيعة الحكم في الدولة وتشريعها وهذه المسألة على غاية من التشعب والدقة اذ لها ارتباط بالدين والدستور وبصفة عامة قضية علاقة الدين بالسياسة وبالدولة وهوموضوع قديم متجدد له جذور متأتية من أحداث تاريخية قديمة معروفة برزت بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، والصراع على الخلافة والتي اعتبرها الخليفة الثالث عثمان بن عفان» قميصا البسه الله إياه».

وقد تجلى الصراع حولها في الفتنة الكبرى التي تعتبر حدثا كبيرا في التاريخ الإسلامي وتناولها الباحثون والمؤرخون بالدراسة والتحليل ومن أبرزهم وأكثرهم عمقا الأستاذ هشام جعيّط كما اهتم القدامى بمسالة الخلافة، مثل ابن خلدون في مقدّمته وعرّفها بكونها «حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها وأنها في الحقيقة خلافة عن صاحب الشّرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به» مضيفا قوله « ثم ذهبت معاني الخلافة ولم يبق إلا اسمها وصار الأمر ملكا بحتا وجرت طبيعة التغلب إلى غايتها واستعملت في أغراضها من القهر والتقلب في الشهوات والملاذ». ومن الواضح أن ابن خلدون يتحدّث عن الخلافة بعد عهد الخلفاء الراشدين ،ويرى بعضهم أن الخلفاء أصبحوا بعد تلك الفترة يمارسون ملكا عضوضا وجدّت أحداث أخرى أحيت الجدل بشأن هذا الموضوع في العالم العربي الإسلامي منذ نهاية الربع الأول من القرن الماضي بعد أن أعلن أتاتورك في 3 مارس 1924 إلغاء الخلافة العثمانية وعقب ذلك صدور كتاب الشيخ الأزهري علي عبد الرازق «الإسلام وأصول الحكم، وكان ذلك عام 1925 وقد احدث هذا الكتاب ضجة كبيرة إذ نادى صاحبه بالفصل بين الدين والدولة قائلا» إن الدين الإسلامي بريء من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون» وقد خالفه الرأي ورد عليه بشدة بعض الشيوخ منهم محمد الخضر حسين الذي ألّف كتابا بعنوان»نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم « وكذلك الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور في رسالته بعنوان «نقد علمي لكتاب الإسلام وأصول الحكم» في حين أيّده آخرون مثل الشيخ عبد الحميد بن باديس وخالد محمد خالد في كتابه المعروف «من هنا نبدأ» وظهر ما سمي بالإسلام السياسي والفقه السياسي نتيجة لبروز عدة حركات إسلامية منها الجماعة الإسلامية التي أسسها أبوالأعلى المودودي صاحب نظرية الحاكمية ومؤلف كتاب «نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور» والتي تقوم على فكرة السيادة أوالحاكمية هي الله ودعا سيد قطب إلى اعتبار التشريع لله والسلطة للأمة، أي انتزاع حق التشريع من البشر ورده إلى الله وحده ولا يسمح المقام بالتوسع في هذه المواضيع المتشعبة ويكفي الرجوع إلى العديد من المراجع والمصادر للوقوف على تفاصيل وأسس هذه النظريات وحسبنا في هذا المقال أن نحصر بحثنا في مسالة الفصل الأول من دستور غرة جوان 1959 والذي حصل وفاق على اعتماده في الدستور الجديد خاصة وقد قبلت حركة النهضة ذلك ولاقى هذا الموقف استحسان وارتياح عدة شرائح من المجتمع التونسي وازداد هذا الموضوع أهمية إذ طالب بعض نواب حركة النهضة بلجنة التوطئة والمبادئ الأساسية للدستور بإقرار علوية هذا الفصل في حين انه من المفروض إن جميع فصول الدستور متساوية ولا علوية لإحداها على الأخرى ، كما انه ظهر اتجاه يدعوإلى اعتبار الشريعة الإسلامية المصدر الأساسي والوحيد للتشريع وارتفعت عدة أصوات معارضة هذا التوجه وبقطع النظر عن الجدل حول هذا الموضوع فانه يتعين الوقوف على الجذور التاريخية للفصل الأول من دستور غرة جوان 1959 والظروف التي تمت فيها صياغته ثم النظر في دلالاته وأبعاده

الجذور التاريخية للفصل الأول من دستور غرة جوان 1959 وظروف صياغته

لقد سبق هذا الدستور ظهور مشاريع ونصوص تتعلق بالنظام السياسي للبلاد نذكر منها عهد الأمان الذي تضمن الإشارة في مقدمته إلى عزم المشير محمد باي على «ترتيب مجالس ذات أركان للنظر في أحوال الجنايات وشروعه في فصوله السياسية بما لا يصادم إنشاء الله القواعد الشرعية» على حد قوله، ثم صدر أمر في فيفري 1861 متعلق بحقوق الراعي والرعية تضمن بالخصوص الحق في الأمن على النفس والمال والعرض لجميع المواطنين على اختلاف الأديان والمساواة بينهم وإحداث مجالس للجنايات والأحكام العرفية ثم صدر دستور الدولة التونسية في 26 افريل 1861 عن محمد الصادق باي ضبط صلاحيات الملك وترتيب الوزارات ومداخيل الدولة وتركيبة المجلس الأكبر وحقوق المواطنين، ثم صدرت لائحة المبادئ العامة للدستور التونسي المؤرخة في 10 جوان 1949 والتي ناقشتها لجنة تابعة للحزب الحر الدستوري التونسي بمقر اللجنة بنهج القرمطوبتونس ونصت المادة 6 من هذه اللائحة على ان « دين الدولة الإسلام وتحترم الأديان الأخرى» وبعد إحراز تونس على استقلالها وانتخاب المجلس القومي التأسيسي انعقدت جلسة له في 14 افريل 1956 ترأسها السيد احمد بن صالح بصفته رئيس المجلس بالوكالة ووقع الشروع في مناقشة الفصل الأول من مشروع الدستور، وكان يشتمل على ثلاث مواد تنص الأولى على أن «تونس دولة عربية إسلامية مستقلة ذات سيادة» كما تنص المادة الثالثة على ان « الدولة التونسية تضمن حرية المعتقد وتحمي حرية القيام بالشعائر الدينية ما لم تخل بالنظام وتنافي الآداب «

وكان من أوائل المتدخلين عند مناقشة الفصل الأول من مشروع الدستور الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة وكان آنذاك رئيس الحكومة واقترح صياغة جديدة للمادة الثالثة من الفصل الأول على النحوالتالي «الإسلام دين الدولة والعربية لغتها وهي تضمن حرية المعتقد وتحمي حرية القيام بالشعائر الدينية ما لم تخل بالقانون»
ثم دار نقاش مستفيض إذ اقترح بعض النواب التنصيص بالفصل الأول على أن تونس دولة عربية لكن نوابا آخرين عارضوه باعتبار أن التنصيص على أن لغة البلاد هي العربية كاف دون حاجة إلى التأكيد على أن تونس هي دولة عربية لان اللغة هي أساس القومية فضلا عن ان تونس لم تكن آنذاك عضوا في جامعة الدول العربية ولاحظ بورقيبة انه «عندما نقول العربية هي لغة البلاد فان كل إنسان يعرف انتسابها للعروبة». ولم يقع أي اعتراض على التنصيص على أن الإسلام هودين الدولة التونسية اذ تمت المصادقة في آخر الأمر بالإجماع على الصيغة النهائية للمادة الأولى من الفصل الأول من مشروع الدستور على النحوالتالي :«تونس دولة حرة مستقلة ذات سيادة الإسلام دينها والعربية لغتها»
وكانت أيضا للمرحوم الباهي الادغم مداخلة هامة عند مناقشة هذا الفصل وقدّم مشروع صيغة له لا تبتعد كثيرا عن الصيغة المقترحة من قبل الزعيم بورقيبة ولاحظ أن تعريف الدولة بكونها مسلمة أوإسلامية لا يصح، وفضّل التنصيص على أن دين الدولة الإسلام ملاحظا أن القول بان العربية هي لغتها يعني أن حضارتها ومدنيتها هي الحضارة المدنية العربية وتمت المصادقة بالإجماع في القراءة الثانية لمشروع الدستور خلال جلسة 2 فيفري 1959 على الفصل الأول من الدستور بنفس الصيغة كما وقعت تلاوة ثالثة لمشروع الدستور في جلسة 28 ماي 1959 في صيغة نهائية وأصبح الفصل الأول منه ينص على أن الإسلام هودين الدولة ولغتها العربية ونظامها جمهوري»

إن الغاية من استعراض مختلف هذه المراحل في إعداد مشروع دستور غرة جوان 1959 هي أن الفصل الأول منه لم يثر أيّ جدل بين أعضاء المجلس القومي التأسيسي ولم يناد احد منهم بالتنصيص على تطبيق الشريعة الإسلامية أواعتبارها المصدر الأساسي والوحيد للتشريع وحصل إجماع على صيغة هذا الفصل، ولم يعترض عليه احد، وهذا دليل واضح على وجاهة وسلامة محتوى الفصل المذكور، ولم تطرأ ظروف جديدة تبرر اعتماد صيغة أخرى مخالفة له، فالشعب التونسي ولئن تطور اجتماعيا وثقافيا فانه لم يغير هويته ومازال كعادته منذ قرون متمسكا بهويته العربية الإسلامية، كما انه من المبادئ المسلم بها أن في مادة وضع الدساتير أوسن القوانين العادية عدم تغيير النصوص القديمة إلا إذا تبين أنها أصبحت غير صالحة ولا تتماشى مع الظروف الراهنة، وليس هذا شان الفصل الأول من دستور غرة جوان 1959 الذي جاء في صيغة واضحة منسجمة مع هوية البلاد وحضارتها العربية والإسلامية فلا داعي إلى وضع صيغة جديدة خاصة وانه لم يثر أي أشكال وليس له أي تأثير سلبي على التشريع التونسي.

وتجدر الإشارة إلى أن جل الدساتير العربية تضمنت تقريبا نفس صيغة الفصل الأول من دستور غرة جوان 1959، فيما يتعلق باعتبار الإسلام دين الدولة، مثل دستور دولة الإمارات العربية المتحدة (المادة 7) والجزائر (المادة2) والمملكة العربية السعودية (المادة الأولى) والكويت (المادة الأولى) ومصر(المادة 2) والمغرب (المادة 6) وموريتانيا (المادة5) التي تنص على أن الإسلام هودين الشعب والدولة.

ابعاد اعتماد صيغة الفصل الأول من دستور غرة جوان 1959

إن صيغة هذا الفصل تطرح جملة من التساؤلات منها انه لم ينصّ على أن تونس هي دولة إسلامية بل تضمن فقط إن دينها الإسلام خاصة وأن احد أعضاء المجلس القومي التأسيسي وهوالسيد نصر المرزوقي كان اقترح عند مناقشته الفصل الأول من مشروع الدستور بجلسة 14 فيفري 1956 أن يتضمن هذا الفصل «أن تونس دولة عربية إسلامية مستقلة»
لكن هذا الاقتراح لم يحظ بالقبول غير أن توطئة الدستور تضمنت عنصرين هامين كأنهما يستجيبان جزئيا لذلك المقترح وهما تعلق الشعب التونسي «بتعاليم الإسلام» و«بانتمائه للأسرة العربية» وكان السيد احمد المستيري اقترح في تدخله» التنصيص على المبادئ التي ترتكز عليها الدولة كاتجاهات دولة عربية أودولة إسلامية في مقدمة الدستور أما الأمور القانونية فيجب أن تكون في فصوله».
وتبقى مسالة التمييز بين مفهوم الدولة الإسلامية والمبدأ المتمثل في ان الإسلام هودين الدولة الذي تضمنه الفصل الأول منه قائمة وفي هذا السياق يرى الشيخ محمد الشاذلي النيفر الذي كان عضوا في المجلس القومي التأسيسي وشارك في مناقشة مشروع دستور غرة جوان 1959 في محاضرة ألقاها يوم 31 ماي 1984 على منبر الجمعية التونسية للقانون الدستوري ان الفرق بين دين الدولة الإسلام وبين كونها دولة إسلامية ان هذه الأخيرة «يستلزم أن تكون القوانين كلها في المنهج الإسلامي. بحيث يعرض كل قانون على المبادئ الإسلامية فما هومطابق لها اقر وما لم يطابق ألغي»
غير أن هذا الرأي قابل للنقاش إذ انه لا وجود لأي تعريف دقيق لمصطلح الدولة الإسلامية

فحتى ميثاق منظمة المؤتمر الإسلامي(منظمة التعاون الإسلامي الآن) لم يعرّف الدولة الإسلامية، وغاية ما في الأمر ان المادة 8 منه نصت على أن لكل دولة إسلامية الحق في أن تصبح عضوا في هذه المنظمة التي تضم اليوم ما يزيد على خمسين دولة يوجد من بين أعضائها دول لائكية، أي تفصل الدين عن الدولة مثل تركيا والسينيغال والنيجر وبوركينافاسو.
كما ان دستور سوريا الصادر في 12 مارس 1973، وهي عضوفي تلك المنظمة لم ينص على أن الإسلام هودين الدولة إذ اقتصرت المادة االثالثة منه على ضرورة أن يكون دين رئيس الجمهورية الإسلام. وأخيرا فان موريتانيا هي دولة إسلامية حسب ما جاء في المادة الأولى من دستورها لم ينص على اعتبار الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي لتشريعها مع العلم انه يطبق فيها القانون الوضعي وخاصة القانون المدني المستمد من الظهير المغربي للالتزامات والعقود المستمد بدوره من مجلة الالتزامات والعقود التونسية.

ومهما يكن من أمر فان من نتائج اعتبار الإسلام هودين الدولة التونسية ان يكون رئيسها مسلما وهذا أمر بديهي إذ لا يعقل أن يترأس غير مسلم دولة دينها الإسلام. وقد اقر هذا الشرط الأساسي الفصل 40 من دستور غرة جوان 1959 ومن البديهي والثابت أن يتم الإبقاء عليه في الدسنور الجديد ولا تفوتنا الملاحظة أن جل الدساتير العربية تقر نفس هذا الشرط باستثناء الدستور اللبناني لأسباب معروفة وكذلك الدستور المصري الصادر سنة 1971 الذي لم يشترط أن يكون المترشح لرئاسة الجمهورية مسلما رغم ان دين الدولة هوالإسلام ويكفي حسب المادة 75 ان يكون مصريا من أبوين مصريين ومتمتعا بحقوقه المدنية والسياسية ..

وتبقى مسالة هامة تتمثل في صبغة التشريع في البلاد بعد الوفاق الحاصل حول اعتماد نفس صيغة الفصل الأول من دستور غرة جوان 1959 في الدستور الجديد. ومادام قد وقع الاتفاق على الاحتفاظ بنفس صيغة الفصل الأول من الدستور القديم فان النتيجة المنطقية هي الإبقاء أيضا على نفس صبغة التشريع الذي كان قائما في ظله والملاحظ أن التشريع التونسي سواء قبل الاستقلال أوبعده لم يثر إشكاليات أوصعوبات فيما يتعلق بملاءمته مع الشريعة الإسلامية التي نادى بعضهم بتطبيقها واعتبارها مصدرا أساسيا للتشريع وللتدليل على ذلك سنقف عند مجلة الالتزامات والعقود وهي أهم واعرق مجلة في تشريعنا فقد صدرت كما هومعلوم في 15 ديسمبر 1906 ودخلت حيز التنفيذ في غرة جوان 1907 ومن الثابت ان هذه المجلة استمدت العديد من فصولها من أحكام الشريعة الإسلامية السمحاء ،
وهي حسب بعض الحقوقيين امتداد لحركة التقنين في تونس منذ أواسط القرن التاسع عشر كما ذهب الدكتور محمد بوزغيبة إلى القول بان توجهات مشرعي مجلة الالتزامات والعقود فقهية بالأساس وأن القوانين الوضعية أخذت من الشريعة الإسلامية وشاركه في هذا الرأي الأستاذ محمد عبد الجواد الذي اعتبر تلك المجلة تقنينا أمينا للفقه المالكي مستنكرا تعمّد مصر» بواليها أوخديوها المسلم واستقلالها وأزهرها وعلمائها الدينيين والمدنيين الى نقل القوانين الفرنسية وإصدارها في مصر»على حد تعبيره.

ومن ناحية أخرى تضّمن النص المتعلق بإحداث لجنة إعداد مشروع القانون المدني التونسي إمكانية الرجوع إلى القانون الفرنسي والفقه الإسلامي فيما هومتلائم مع ظروف العصر حسب بعض الباحثين
كما تكونت لجنة من العلماء الزيتونيين سميت لجنة توجيه النظر الشرعي ترأسها شيخ الإسلام الحنفي محمد بيرم والذي خلفه فيما بعد الشيخ محمود ابن الخوجة والشيوخ احمد الشريف وعمر بن الشيخ وسالم بوحاجب ومحمد ابن خوجة ومصطفى رضوان وكانت مهمة هذه اللجنة حسب الدكتور محمد بوزغيبة «الاجتهاد في تأصيل الإحكام الموضوعة في المشروع التمهيدي لمجلة الالتزامات والعقود على ضوء الشرع الإسلامي « كما صادقت اللجنة فيما بعد على المشروع التمهيدي للمجلة. ولا تنسى الدور الهام الذي قام به المستشرق ذوالأصول الايطالية وهوالأستاذ دافيد صانتيلانا وهومقرر اللجنة التي كلفت بإعداد مشاريع القوانين التونسية وكان مطلعا على الفقه الإسلامي وقد ذكر في تقريره أن اللجنة «اعتمدت بصفة عامة المذهب المالكي الذي هومذهب أغلبية التونسيين إلا إنها لم تتردد في أن تعتنق المذهب الحنفي كلما كانت قواعده منسجمة أكثر مع قواعد المذهب المالكي ومع التنظيم العام للمجلة ومع مبادئ القانون الأوروبي. ولا يوجد بالمشروع أي اثر لما هومخالف لمذهب فقهاء الإسلام»

وفعلا وقع الاعتماد في وضع أحكام المجلة على أمهات مصادر ومراجع الفقه الإسلامي على المذهبين الحنفي مثل الأشباه والنظائر لابن نجيم ورد المحتار علي الدر المختار لابن عابدين ومجلة الأحكام العثمانية ومرشد الحيران لمحمد قدري باشا، والمذهب المالكي مثل التبصرة لابن فرحون والبهجة في شرح التحفة للتسولي وغيرها .
إن المقام لا يسمح باستعراض جملة القواعد والمؤسسات الواردة في مجلة الالتزامات والعقود المستمدة من أحكام الشريعة الإسلامية وهي كثيرة .ونكتفي بالإشارة على سبيل المثال إلى بعض فصولها، منها الفصل 369 الذي نص على انه «لا تقع المقاصة بين المسلمين مهما كان فيها ما يخالف ديانتهم « وكذلك الفصل 575 وجاء فيه « لا يصح بين المسلمين ما حجّر الشرع بيعه إلا ما رخصت التجارة فيه كالزبل لمصلحة الفلاحة « وكذلك الفصل 1463 وجاء فيه « ما لا يجوز بيعه أوإيجاره شرعا بين المسلمين لا يجوز فيه الصلح»

ولا شك أن مجلة هذه خصائصها وتجذّرها في الشريعة الإسلامية ليست في حاجة إلى تغييرها فهي هرم مضيء في تشريعنا ويجب المحافظة عليه، ويحق أن نباهي بها مثل مجلة الأحوال الشخصية التي تعدّ أيضا مكسبا وطنيا ثمينا وجل أحكامها مستمدة هي الأخرى من الشريعة الإسلامية رغم بعض المآخذ التي تنعاها فئة من الناس من ذوي الاتجاهات المتباينة على بعض أحكامها مثل قواعد الميراث ومنع تعدد الزوجات ومعلوم أن هذه المسالة طرحت على بساط النقاش وتناولها زعماء الإصلاح في العالم العربي بما في ذلك رجال الدين ومنهم الشيخ محمد عبده الذي تناول هذا الموضوع في عدة مناسبات منها مقال نشر بمجلة الوقائع المصرية في 08/أوت/1881 بعنوان «حكم الشريعة في تعدد الزوجات» ومقال أخر بعنوان «فتوى في تعدد الزوجات» منشور في مؤلفه «التحكيم واجب الدولة والمجتمع» وهويرى أن تعدد الزوجات هومجرد إباحة لعادة موجودة سابقا على شرط العدل وهومتعذر إلا على النفر القليل استنادا إلى قوله جل ذكره في سورة النساء «ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولوحرصتم» مضيفا أن في تعدد الزوجات احتقارا شديدا للمرأة وقد شاطره الرأي عدة مفكرين، منهم قاسم أمين والطاهر الحداد .

ومعلوم أن المشّرع المغربي، ولئن لم يمنع تعدد الزوجات بصفة مطلقة كما فعل المشرع التونسي فانه قيد التعدد بشروط محدّدة ،من ذلك أن الفصل 40 من مدونة الأسرة المغربية الصادرة في شهر فيفري 2004 نصت على منع تعدد الزوجات «اذا خيف عدم العدل بين الزوجات كما يمنع في حالة وجود شرط من الزوجة بعدم التزوج عليها « ( وهذه الفقرة تذكرنا بالصداق القيرواني )
ولا يمكن أن يتم الترخيص في التعدد إلا بإذن من المحكمة ولا يتأتى ذلك إلا إذا وجد مبرر موضوعي استثنائي، وكذلك شريطة أن يثبت الزوج أن له موارد كافية تمكنه من تسديد حاجيات العائلتين، من نفقة ومسكن والمساواة في جميع أوجه الحياة طبق ما جاء في الفصل 41 من نفس المدونة ،ويقع وجوبا سماع الزوجة الأولى وتأذن المحكمة بالتعدد بقرار معلل غير قابل للطعن فيه .
وبالإضافة إلى هاتين المجلتين فان العديد من المجلات القانونية التونسية الأخرى لا تتعارض أيضا مع أحكام الشريعة الإسلامية فضلا على إنها تنظم ميادين ومعاملات لم تكن موجودة في الماضي البعيد، مثل القانون الدولي الخاص والإيجار المالي ومجلة المياه ومجلة الجنسية والغابات والتجارة والتهيئة الترابية والتحكيم والتجارة الالكترونية ومجلة الصرف والتجارة الخارجية والتامين وحقوق التأليف والقانون الجوي ومختلف الأحكام المنظمة للمعاملات في التجارة الدولية والتي أفرزت ظهور أصناف جديدة من العقود من أصل أنقلوسكسوني، وهي عقود تنظمها نصوص خاصة جديدة، ولا تخضع حتى للقواعد القانونية العامة والكلاسيكية ولا شك أن كل هذه المبادئ الجديدة تقتضي استنباط قواعد خاصة بها .

كما انه لا بد من ملاءمة التشريع التونسي مع أحكام المواثيق والمعاهدات الدولية التي انخرطت فيها بلادنا وصادقت عليها، شأنها في ذلك شأن العديد من البلدان العربية والإسلامية وخاصة المتعلقة منها بحقوق الإنسان والحريات الأساسية والمفروض أن يكون التقنين في كل بلاد متماشيا مع تطور المجتمع من الداخل ودون إهمال المحيط الإقليمي والعالمي الذي نعيش فيه خاصة في عصر العولمة، والمهم التوفيق بين التمسك بهويتنا العربية والإسلامية وبين التطور السريع الذي يشهده العالم في كل الميادين، وهوتوفيق ممكن إذا وقع التحلي بالاعتدال والواقعية والفهم الصحيح لمقاصد أصول التشريع الذي يجب ان يكون متطورا وحداثيا، ومنسجما مع المنظومة التشريعية العالمية حتى يكون التقنين الوطني منصهرا فيها .
وأخيرا نلاحظ ان اعتبار الإسلام دين الدولة لا يتعارض مع التنصيص في الدستور على الصبغة المدنية للحكم وكذلك إقرار كونية حقوق الإنسان إذ أن الشريعة الإسلامية أقرت مساواة الجميع بدون تمييز كما كرم الله جل ذكره بني ادم بالإضافة إلى قيم التسامح التي اقرها أيضا الإسلام .
دكتور دولة ومبرز في الحقوق
التشريع الوضعي التونسي الحالي لا يتعارض في مجموعه مع الشريعة الإسلامية وجله مستمد منها
اعتبار الإسلام هودين الدولة لا يتعارض إطلاقا مع التنصيص في الدستور على الصبغة المدنية للحكم
وجوب التنصيص على كونية حقوق الإنسان والدين الإسلامي الحنيف لا يتعارض معها إذ اقر جل مقوماتها


بقلم الاستاذ عبد الله الأحمدي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.