سأكتب لكم هذا اليوم عن الأمام الشيخ محمد بوسمة شقيقي الأكبر وولي امريلسنين بعد وفاة والدنا رحمة الله عليه. وسأفعل ذلك استجابة لرغبة بعض الأصدقاء الذين رأوْني أدوّن ما عرفته عن بعض القامات الكبرى من رجال طبلبة نسيهم رجال التاريخ بالرغم مما قدموه من اعمال جليلة وكان منهم. أنه الابن الأكبر للمرحوم عبد القادر بوسمة الذي عاش بين القرنين 19 وال 20 وكان من حفظة القران الكريم ومواظبا على قراته وتحفيظِه لأبنائه الذكور الخمسة ومرتبا في قراءة دلائل الخيرات مع جمع من امثاله كل ليلة تقريبا بمقام جدنا سيدي عبد العزير بن عياش رحمة الله عليه، كما كان يعطي دروسا في علم المواريث والفرائض في الجامع العتيق بطبلبة لتفوقه فيها. واما ما زاد على ذلك فانه كان منشغلا بأملاكه الخاصة المتعددة والمشتتة في غابة طبلبة من زيتون وجنائن للبرتقال ومساحات مروية لزراعة الخضر والغلال الفصلية كان يستغلها بطريقة المساقاة المنتشرة وقتها مع غيره من المزارعين المختصين في الفلاحة. ولد المترجم الشيخ محمد بوسمة رحمة الله عليه في بداية القرن السابق وفي سنة 1914 حسبما تثبته الوثيقة الرسمية ويمكن ان يكون أكبر بقليل لان توثيق الولادات وقتها لم يكن وجوبيا، وتوفي في سنة 1995 عن عمر قضاه في التعلم والتأمل والتدريس والإرشاد والفتوى وإمامة المصلين بالجامع الحديث كل يوم الجمعة. لقد عاش وتربي في عائلة محافظة جدا وحفظ القران صغيرا وانخرط في التعليم الزيتوني وتزوج وأنجب ابنا قبل ان ينهيه بشهادة العالمية سنة 1939 ليعود بعدها الى طبلبة للسير على خطى والده لانه لم يكن في حاجة للعمل وبقي مهتما بشؤون العائلة وخاصة بعدما توفي والدنا وتركنا أطفالا قصر اذ كان عليه رعايتهم وتأهيلهم للمستقبل. لم يكن العمل وقتها مهما بالنسبة للمتخرجين من الزيتونة لأنهم كانوا يقرأون للعلم والتففه في الدين ويهتمون بأملاكهم الخاصة وكانت عائلتنا منهم. اكتشفنا بعد وفاته عبر المؤلف الخاص بتاريخ طبلبة الواقع كتابته ونشره من طرف السيدين رمضان بن ريانة وعادل بالكحلة بان المعني بالترجمة كانت له اجازة في مباشرة خطة عدل إشهاد بموجب امر علي ولكنه لم يباشرها توفيا وخوفا من مسؤوليتها الكبيرة كما أتصور. كان المعني بالكلام مميزا في عائلتنا الصغيرة يعامل باحترام وهيبة، وأدركت ذلك منذ أصبحت مميزا ورأيت العائلة كلها تخصه بذلك بما فيها الوالد. وكم رايته يعتني بملبسه الزيتوني ويهتم بعمامته البيضاء التي لا يخرج بدونها من المنزل الذي كنا نسكنه جميعا وكان قريبا من مقام جدنا الأعلى سيدي عياش الذي تحدثت عنه في حلقات سابقة. عرفت ذلك باليقين منذ حياة والدنا في سنة 1942 زمن الحرب العالمية الثانية ولا اتذكر يوما في صغر سني انني رأيت فيها اخي الشيخ محمد بوسمة يجلس معنا على الطعام أو يخوض فيما نخوض فيه من كلام لا يسمن ولا يغني من شيء بل كان يأخذ نصيبه من الطعام وحده ويعود لما كان يشتغل به على انفراد للمطالعة والتبصر، وكانت تلك عادته في وسطنا تعودنا عليها ولم يكن أحد منا يتحرج. كما اتذكر أنه كان كثير الانزواء ليقوم بالمراجعة والتأمل في الكتب الصفراء المكدسة في ركن مِن أركان المنزل الذي نقيم فيه كما لم يكن يتطرق لمحتواها أمامنا لأنه لم يكن وقتها أحد فينا مؤهلا لمعرفة ما فيها. كما اتذكر انه ذات مرة رايته معتكفا وحده في بيت من بيوت الدار وسط اكداس من الكتب القديمة يراجع ويتأمل، وقالوا لي انه كان يستعد للمشاركة في مناظرة للتدريس في جامع الزيتونة فتحت لأمثاله من حملة شهادة العالمية، وبالفعل سافر بعدها الى تونس لإجرائها ولكنه لم يوفق فيها ولم يحدثنا عن ذلك أبدا ويظهر ان السبب معروف لأنه كان من سكان الافاق والله اعلم. انه لم يكن كثير الاختلاط بالعموم ولم اره يوما جالسا في مقهى، ولكنه بالمقابل كان يجالس امثاله من المتعلمين وعدول الأشهاد وكان أكثرهم من زملائه في الدراسة. لقد تولى مؤخرا مهنة التعليم الابتدائي بمدرسة الهداية القرآنية التي كتبت عنها في مناسبة سابقة، وعلمت منه بانه لم يكن مرتاحا كما يلزم اذ شعر بفارق بينه وبين تلك المهنة التي تحتاج للصناعة، ولكن رفقته للمعلمين فيها وخاصة المدير المرحوم فرج جمعة يسروا عليه المهمة واعطى فيها ما يمكن بعد النزول بمستوى الخطاب الى فهم تلامذة في الابتدائي. وهكذا واصل الرسالة الى النهاية وتفتح بعد تقاعده وبات يلبس الجبة وعلى راْسه شاشية تونسية وانخرط في المجتمع المدني وساهم مع امثاله بقدر مهم للنهوض بطبلبة كما رايته وقتها كيف يتحمس لأعمال البر والاحسان والتقوى والمساهمة في تشييد المرافق المهمة ومنها السعي في بناء المعهد الثانوي والمستشفى المحلي بالنصيحة. كما تولى خطة الإمامة في الجامع الحديث بطبلبة وكانت لخطبه الجمعية وقعا في نفوس المصلين ولم يعد ذلك المسجد يتسع للحاضرين وتمت توسعته مرات وبذلك كوّن نخبة من المريدين والأئمة فكانوا له افياء الى اليوم وفيهم الشيخ رمضان بن ريانة امام الجامع الشرقي والشيخ فيصل بوسمة ذلك الشاب الذي يمتهن التدريس وباتت له خطبا جمعية تنقل عبر وسائل الاعلام العصرية وتنال حظا من الإعجاب والحمد لله رب العالمين وكان من بين من طلب مني الكتبة عن شقيقي فاستجبت لذلك بما تيسر وأتمنى ان اكون صادقا وامينا فيما كتبت ويكون للناصح حظا سعيدا لأنه من احفاد الشيخ بوسمه جده الأعلى الذي اشتهر في زمانه بالعلم والتقوى. واعود للموضوع وأزيد لأقول بان بيت المترجم له كان دائما مفتوحا للفتوى والاستشارة ولكنه كثيرا ما كان يتوقف عن الجواب في حينه ليعود للكتب المختصة التأكد، وإذا ثقل عليه السؤال كان يراسل مفتي الجمهورية لقطع الشك باليقين وتلك صفة من صفاته التي عرفتها فيه. وَمِمَّا بقي في الذاكرة انه لم يكن من الغلاة في الدين، وكان يؤدي صلواته الخمس منفردا وحده بالمنزل الا صلاة الجمعة لأنها فرض على المؤمنين، كما لم اره يطيل في صلواته او بتظاهر بالتنفل كما كان يصوم شهر رمضان المعظم بدون صيام التطوع، كما لم يكن يأمر العائلة بشيء ولكنه كان ينصحها برفق شديد. كما كان منضبطا في نومه واكله غير مسرف ولا مقتر لا يتدخل فيما لا يعنيه محترم في شخصه ومحيطه وعلى قدر كببر من التواضع، رايته لأول مرة يبكي والدتنا يوم إخراجها من منزله لكي تدفن. تذكرتها وانا اكتب هذه الاسطر القليلة وعادت بي الذاكرة لصبر وشجاعة تلك المرأة التي ترملت صغيرة وقامت بتربيتنا وخدمتنا لأخر يوم من حياتها، انها عائشة ابنة مؤدب القران سالم خير الله وباشية الشبلي رحمة الله عليهما وعلى جميع المسلمين. واخيرا أقول بأنني في زمن تحملي للمسؤوليات العليا والدقيقة كنت كثيرا ما أستنير برأيه في القضايا الدينية ولم يكن عليًّ يبخل بالنصيحة كما كان يرتاح لي كثيرا ويزورني وخاصة في القيروان التي كان يحن لمسجدها ومقام الولي سيدي صاحب رسول الله عليه أفضل صلاة وازكى سلام، وذلك ما شجعني على السروال عنه وزيارته في بيته كل مرة تسمح لي أعمالي بالتواجد في طبلبة لأتغدى معه او اتعشى. لا اتذكر انه أحرجني يوما بطلب ما الا لغيره ممن يقصدوه للتدخل لهم لأداء فريضة الحج بعدما تتقطع بهم السبل وكنت أستجيب بقدر المستطاع بما يتيسر لكن ذلك يقع بعد تلبية رغبة القيروانيين لأنهم أولى بحكم ولايتي عليهم. كما كان يوصيني دائما بالسعي لتعويض المتوفين من قراء دلائل الخيرات في مقام الولي سيدي عياش صاحب الأوقاف المؤممة حتى لا تتعرض تلك العادة الى الزوال وتغلق تلك القبة الشهيرة. ذلك هو الشيخ محمد بن عبد القادر بوسمة امام الجامع الحديث بطبلبة ومفتيها بإيجاز شديد قدرت انه مفيد كتبه للذكرى حتى تعرف الأجيال قيمة هؤلاء الرجال الذين نسيهم المؤرخون.