حين اضطررت لمدح أطروحة في الأدب المقارن، فهمت أن كل البنايات التي شيدتها من حولي قد انهارت فجأة. وعدت لأنظر بداخلي عن معنى الكلمة الصادقة حين نبدي رأيا: الكلمة الصادقة هي التي تمتطي مسودتنا حين نخطها بالدم، ثم نلقيها في سلة المهملات بعد تمزيقها وبعد أن نكون قد زففناها بآخر نظرة جانبية للمتأسف لجبنه. والكلمة الصادقة هي التي قد تشقّ طريقها إلى قلب من نحبّ فعلا، سرّا ليلا، ونطالبه ونلح بأن لا يعيدها على مسمع الغير.. لا تبح بها أبدا.... فهي سرنا. الكلمة الصادقة النادرة في هذا الزمن الرديء هي التي تتلاشى بين الأضلع حفاظا على بعض أثر للصداقات الموهومة والواهية.. ولكم بقيت هذه الكلمات بين الحناجر.. ولكم شاهدت من يريد الإصداع بشيء صادق من عينين مغرغرتين دما ودموعا ثم نرى صاحبها يغادر قاعة المحاضرات وحسرته بداخله... ليست له الشجاعة الكافية ليقول رأيه بصدق... ليست له وليست له.. فالعنتريات مضت مع عنترة وزمنه... والصدق زال في هذه الأايام.. نحن فعلا في زمن التجارة والدعارة.. حيث تباع أعضاؤنا لنستمر على قيد الحياة وتزرع في جسد آخر ليضحي بطلا.. كم نحن تعساء بفشلنا... وحين كتبت إلي صديقتي كلمتين صادقتين حقا تحرّك قلمي ليجيبها في السرّ والعلن: سيدتي وصديقتي... أنت صاحبة شعر حقيقي موزون وغير مزيف وغير مستعار من هنا وهناك... وأنا يتوه على فمي التعبير.... عندما أقرأك فأنا أقرأ شعرا جميلا به صور وإبداع.. وحتى وإن كتبتُ شخصيا عشرات القصائد الموزونة والصادقة (؟) فهي لا تملك الشاعرية التي لديك.. قسوة مهنتي ودقتها العلمية في الأدب المقارن فرضت الدقة أكثر مما فرضت الشاعرية.. وربما هناك أسباب أخرى.... ولعلي بمثل محمد الحبيب السلامي لا أميل إلى الشعر... لذلك بكل تواضع أحتسي من الشعر الذي تكتبينه بصدق من صنع الأحشاء.. وأصنع لنفسي عالما جميلا بقراءتها.. كما أقرأ الأشعار القديمة الكلاسيكية... وأما قراءتي لغيرها من الأشعار، فهي بمثابة ضرورة الاطلاع على الرداءة السياسية والعهر السياسي والسياحة السياسية وسياحة القصيد قبل أن يتحول إلى منحوتة أو دمية حركتها كل الأيادي وأحيانا لوثتها فصنعت منها مسخا يجهل عن نفسه كل شيء.. وكالكلبة التي لقحها قطيع من الذكور، فلا تعرف حتى هي أصل جرائها.... ابقي كما أنت... وعلى كل أنتتعرفين جيدا دور الغربال... طال الزمان أو قصر... وها إني أقرأ عليك آخر ما كتبت عن فشل أستاذ الأدب المقارن، مخاطبك... نظر إلى تلك البنايات الشاهقة في الضفة الأخرى من الطريق، وأعجب بهندستها الواضحة الجلية في مدينة يتكاثر فيها الغبار وتتناثر الأتربة عاليا مع كلّ هبّة ريح شتاء وصيفا.. هذه المدينة تختنق، وتخنق برائحتها الكريهة المنبعثة من قنوات تصبّ في المدينة معاكسة التيار الذي من أجله شيّدت المصبات من دم المواطن. لكن فيها كذلك من اصطحب ذاته إلى النجاح الباهر ماليا واجتماعيا ولم يفكر يوما في مغادرتها إلاّ إلى باريس ولندن وبكين للاستجمام واقتناء بعض ما لايتوفّر هنا. أعاد النظر إلى البنايات شامخة ذات أسلوب يتماشى والمنطقة، ويتناسق دون تكلّف في شكل معمار ثابت لا تزحزحه مجرّد مطر يقال عنه طوفانيا والحال أنّه ينزل بمعدّلات هي نفسها من آلاف السنين. وعادت إلى مخيّلته أشكال لولبية غريبة ونوافذ معقدة فرضتها وبلوّر وتزويق في غير محلّهما، زوجتهكميلياالفرنكوتونسية، في تصميم بيته الذي يبعد عن المدينة اثني عشرةكيلمتر.. ساعدها والدها على هذا المثال العصري جدا حسب قوله في فرضه على أستاذ الأدب المقارن بالجامعة.. وقد تكون زوجته، أم كميليا هي التي أوحت له بهذا الموقف المنافق، وقد كان يمتهن حرفة خبير في البناء بباريس. يا أستاذ ليس لك أن تهتمّ بكلّ صغيرة وكبيرة.. الدار هي الزوجة.. لأنّ الزوجة تقضي أكثر وقت بالبيت. حاول أن يلجأ آنذاك إلى سديد الرأي لدى المهندس المعماري، غير أنّ هذا الأخير كان من صفّ الزوجة، فعلم أنّ الأمر مدبّر مسبقا بين هؤلاء. وأخيرا حاول أن يقنع نفسه بأنّه قد يكون فعلا ممن تجاوزهم الدهر وتجاوزتهم الأحداث،ليستسلم بعد شجار دام أشهرا. عند إتمام البيت، حاول النأي بنفسه عن أمر التدشين ذاته، لكنّه ارتطم بأصهار له يطالبونه بقراءة القرآن عند دخول عتبة البيت حتى لا تبدو علمانيته موقفا مفضوحا.. وتنازل مرة أخرى فوجد نفسه في ليلة ليلاء بمفتحات كانت من نصيب إمام المسجد الذي احتكر المصدح ليقرأ القرآن طيلة ساعتين ثم سلامية وأدعية لساعتين وانتهاء برقص على البندير حتى الفجر بعد أن تفكّكت أوصاله. إنّه فعلا إنسان فاشل. ليس أفشل منه من إنسان على وجه البسيطة... لقد كان تصوّر أنّ أستاذيته في الأدب المقارن وأشعاره الركيكة وبعض مواقفه التقدّمية سوف تجلب له احترام الناس وتمدح فكره وكتاباته... لكنّ الحقيقة المرّة هي أنّ جلّ الناس من حواليه قد تلاشوا وغادروا وابتعدوا عنه شيئا فشيئا. حتى ابنته الصغرى التي كانت الخيط الواصل بينه وبين هستيريا زوجته،قد انكمشت دفعة واحدة حين تقدم لخطبتها ابن خالتها.. ولم تصغ إلى كلّ ما قلت لها: *ابعد على دمّك لا يشوهك*... وعلى العكس من ذلك تألّب الجميع ضدّ رأيي، وتخوّفي من زيجة الأقارب، وحتى طبيب الصحة العامة كان من صفّهم..فقد قال لي: سيدنا علي ابن أبي طالب وفاطمة الزهراء، أنجبا الحسن والحسين، هل لك يا استاذ أن تدلّنا على أفضل منهما خلقا وأجمل منهما وأشجع منهما؟ عدت لأغوص بداخلي، في بيتي الخرب المنهار بكلّ تعقيداته.. وتذكرت ذاك الرجل الذي دخل دكّان الإسكافي بالمدينة العتيقة ليطلب أيبس حذاء لديه. ولما قدّم له حذاء وآخر، التمس حذاء أيبس.. وبعرضه حذاء يكاد يكون خشبيا التمس رقما أصغر من قياسه.. وبعد أن دفع المبلغ المطلوب سأل الإسكافي: إذا كان هذا الحذاء لك شخصيا فلم يا ترى تقتني مثل هذا الحذاء بهذا المقاس؟ درست بفرنسا وعُرضت عليّ الجنسية الفرنسية وخطة بجامعة السوربون، فرفضت إيمانا مني بضرورة خدمة البلاد. وتزوجت من ابنة عائلة معروفة بالمدينةالباريسية وهي تونسية تحمل الجنسية الفرنسية، وأنجبت بنتين وولدا. تزوجوا بمن لم أر فيهم خيرا لهم. وبقيت مع من لم أتفق معها أكثر من ثلاثة أيام في حياتي.. ودفع بي عميد الكلية إلى الاستقالة من خطتي كمدير للقسم.. لخطإ مهني فادح حسب مجلس التأديب.. وأطردت من الجبهة الشعبية لأنني وقفت ضد إضراب المناجم... وأضحت حياتي جحيما، فلعلّي، عند خلع الحذاء أجد بعض الراحة... آنذاك لحقته كميليا لتقول له: أنت مأساة حقا... أنت عنوان الفشل.