رغم أن الحكومة التي كوّنها السيد محمد الغنوشي إثر 14 جانفي انتقالية مؤقتة، ويصر البعض على اعتبارها حكومة تصريف أعمال لا غير، في سياق تحديد مهامها ضمن تصوّر يجعل الإصلاح السياسي على رأس أهداف المرحلة، فإن بعض المشاريع التي أعلنت عنها هذه الحكومة مُؤخرا وهي في طور التفكك والانحلال التلقائيين تُعتبر مشاريعَ ثوريةً بكل ما في الكلمة من معنى، وبقدر ما تنطوي عليه هذه المشاريعُ من إخلاص صادق للوطن وسعي لتحقيق تطلعات مواطنيه المشروعة، تعكسُ مع الأسف حجم القطيعة التي كانت تفصلُ النظام السابق عن شعبه، وتعاملَ الطبقة السياسية التي أحاطت بالرئيس "بن علي" طيلة سنوات حكمه الأخيرة مع الأولويات التنموية والحضارية بمنطق "أنا ومن بعدي الطوفان" وتفنُّنَ البعض ممن كانوا في سدّة الحكمِ والنفوذِ في شتى صنوف الفساد السياسي وإهدارِ ثروات البلاد الحقيقية والإمعانِ في التنكيل بتاريخها... ففي وقت كانت البلاد بأكملها لا تتحدّث فيه إلا عن الاعتصام والاعتصام المضادّ، وكان وجيبُ قلوب الناس يعلو مع صوت الرصاص والأيادي الآثمة التي جعلت شوارع العاصمة التونسية تكاد تُشبه ضاحية صومالية قديمة أو منطقة عراقية تسيطر عليها الفتنة، وفي الوقت الذي كان فيه بعض الوزراء يَرتدُون معاطفهم الأنيقةَ ويتأهبون لمغادرة مواقعهم الحكوميةِ المؤقتة للالتحاق بموقع آخر على رقعة الشطرنج السياسي التونسية تحت طائلة الاستقالة المطلوبة لتخفيف الاحتقان، وبينما كانت بعضُ وسائل الإعلام المسموع والمرئي تغرق تدريجيا في بحر الفوضى والتسيب استجابةً لنوازع التنطع والفهم المغلوط لقيم الثورة والحرية والكرامة، كان ثمة وزيران يبدوان للناظرين وكأنهما قادمان من زمن آخر أو من كوكب بعيد، وكأنهما غير معنيين بتاتا بما يحدث حولهما من ضجيج وشعارات وفقاقيع ودويّ وأدخنة وغبار، وكانا يمضيان قُدُمًا في عملهما رغم الأسلاك الشائكة والرصاص المطاطي وجحافل الهاربين من جحيم النظام الليبي وكأنهما ينتميان إلى حكومة أخرى غير التي تطالبُ العامّةُ الدّهماءُ بإسقاطها !! كان السيدان عزالدين باش شاوش وزيرُ الثقافة وسعيد العايدي وزيرُ التكوين المهني والتشغيل يعلنان في ندوة صحفية عن انطلاق مشروع "الرّائد" وهو مشروع يهدف إلى "رقمنة المحتوى وتوثيقه"، في غياب السيد سامي الزاوي كاتب الدولة لتكنولوجيات الاتصال الذي اشترك معهما في إعداد هذه الخطة لكنه خيّر على أهمية دوره الاستقالةَ والانصرافَ في حال سبيله. "الرَّائد" مشروعٌ ذكيّ وإذا ما تمّ إنجازُه في الآجال المطلوبة سيجعل المعنيين بالشأن الثقافي والتكنولوجي يتحققون من أن تونس قد دخلت مرحلةً جديدة تقطع قولا وفعلا مع تسويف الماضي وابتزازاته، فعلاوة على المنفعة الآنية التي سيحققها على صعيد التشغيل وامتصاص طلبات التوظيف المتزايدة من اختصاصات العلوم الانسانية التي لم تكن لتجد إزاءها إلا المعاهدَ الثانويةَ أو البطالة القسرية، تتعلق بهذا المشروع أهميةٌ حضارية فقد تأخر دخولُ التراث الوطني والمحتوى الثقافي والأرشيفِ السمعي البصري العصرَ الرقمي طويلا وظلّت كلُّ الأفكار التي قُدِّمت في السابق بهذا الخصوص تُراوح مكانها وسط ذهول المتابعين وعدم فهمهم لما يحدث في هذا النطاق، ولم يتسنَّ إدراكُ الأسبابِ الموضوعية إلا بعد فوات الأوان فقد كانت الجماعةُ معنيةً بنهبِ التراث لا بحفظه كما يشيرُ إلى ذلك عنوانُ الوزارة واسمُها في المراسلات الرسمية وبطاقات المعايدة وأدلة المهرجانات الصيفية. لقد كان ممكنا لو توفرت النيةُ الصّادقةُ أن يُبدأ في الرقمنة مبكرا لمواجهة معضلات التنمية، فكل التجارب العالمية في هذا المجال تشير إلى أن الاقتصاد اللامادي يجد مكانه الطبيعي في الجهات الداخلية ليحمل إليها بخفّته ونظافته الرخاء التنموي دون التذرّع بالحاجة إلى المطارات والموانئ والشواطئ الخلابة، لقد جعل الاقتصاد اللامادي بعبقريته شركات عديدة في الولاياتالمتحدةالأمريكية تُدير مؤسساتها بعقول هندية تقيم في "بنجالور" جنوبَ الهند وقد أضحت مع بدايات القرن الحادي والعشرين الامتدادَ الضروري لوادي السيليكون الأصلي الموجود في كاليفورنيا. لقد استطاعت ثلاث وزارات في ظرف ثلاثة أسابيع لا غير أن تصمِّم مشروعا تأخرت تونس في إنجازه ثلاثَ خماسيات على الأقل ، لم يستغرق الأمر إذن ثلاث سنوات ولا ثلاثة مكاتب دراسات ولا ثلاث مليارات للتفكير والتخطيط والمراجعة وطلب القروض كما كان يحدُث سابقا، ولو جرت المقاديرُ كما يخطّط له هذا الفريق الحكومي الجريء فإنّ حظا من التنمية والاستقرار ليس هيّنا سيضعه "الرّائد" على طبق التكنولوجيا الفضي بين أيدي شباب الجهات الداخلية، وبذلك يشرع رجال ما بعد 14 جانفي في تدارك ما فات في سبيل رأب الصدع التنموي ومواجهة الاختلال المفروض بحكم اختلاف المعطيات الجغرافية الطبيعية، فلئن كان الشريط الساحلي معنيا بالسياحة والصناعة والتصدير فإن الاستثمار في الاقتصاد اللامادي لا يكون إلا في المناطق التي حرمتها الطبيعة من خيراتها المدرّة للمال الصعب، وكلُّ تصرُّفٍ يخالفُ ذلك يمثِّل بحق حَيْفًا في حقِّ شباب هذه المناطق وأهلِها واعتداءً على نصيبهم من العدالة الاجتماعية التي ائتَمنُوا عليها جهاز الدولة! "هذا المشروع لن يرتبط تنفيذه ببقاء الوزراء في الحكومة المؤقتة أو استقالتهم بل هو قابل للتنفيذ مهما كانت الظروف..." هذه الجملة التقطتها الصحف من الندوة الصحفية التي أعلن فيها عن ميلاد "الرّائد" وعن خارطة الطريق التي ستكفل دخوله حيّز التنفيذ في المدى القريب وهذه الجملة لوحدها تقول كلّ شيء عن الثورة التونسية التي أطاحت بعصر سياسي كان يتطلب تعبيد بضع مئات من الأمتار من الطريق العامة أوإنشاء جسر فوق واد أو تسييج مدرسة ابتدائية أن يأذن سيادتُه وأن يعلن ذلك في حفل سنوي باذخ يحضره الديبلوماسيون والمناضلون القدامى، فيقف رجال الدولة ونساؤها للتصفيق والهتاف إثر كل حشرجة ويختلط الضجر بمقاطع مهترئة من النشيد الوطني ويمضي المشاهدون في لَوْك الفراغ وانتظار القيامة بأي ثمن...