تحدث منذ أيام قليلة الممثل المعروف عاطف بن حسين عن وضع الثقافة في تونس وكيف كان سقف الأمل عاليا في بداية الثورة من أجل النهوض بالمجال الثقافي وكيف تلاشى هذا الحلم اليوم وكيف ضاعت الأمنيات نتيجة انبتات العقلية القديمة التي لا زالت تتحكم وتسيطر وتأبى التطور .. تحدث عن واقع وزارة الثقافة التي لا تنتج في نظره الثقافة وكيف تحولت إلى وزارة لمهرجان قرطاج فحسب الذي تسخر له كل الامكانيات المادية في حين أنه مهرجان خاسر وتحول إلى مكان للتمعش ويحتاج ثورة ضد ما يشوبه من فساد ومع ذلك تواصل وزارة الثقافة تدعيمه وترصد له الميزانيات الضخمة وتساءل كيف يمكن أن نأتي بماجدة الرومي مقابل 400 مليون دينار ؟ تحدث عن عجز الوزراء الذين تعاقبوا على إدارة وزارة الثقافة على تطوير عملها وقال أنا أعرف الوزير الحالي وأعرف قدراته ونواياه في دفع الحالة الثقافية في تونس نحو الأحسن غير أنه عاجز ولا يقدر على فعل أي شيء بسبب الفساد الذي يعشش في أروقتها وبسبب الادارة المتكلسة التي تمنعه من التحرك و فعل أي شيء غير المحافظة على الوضع القائم . تحدث عن حال الثقافة في الجهات والمناطق التي توصم بالتهميش والإقصاء وكيف لا يمكنه أن يتحدث مع الناس في هذه الجهات عن عمل ثقافي في ظل وضع اجتماعي مترد وقال لا يمكن أن أحدث الناس عن المسرح وأن أدفعهم للانخراط في الثقافة في الوقت الذي نجد فيه الناس في هذه المناطق تشكو من شظف العيش وقلة اليد وضعف الامكانيات المادية . كيف يمكن أن أحدثهم عن المسرح وبطونهم خاوية ؟ ما تكلم فيه عاطف بن حسين في هذا الحوار الإذاعي الذي تعرضنا إلى القليل منه هو قضية مهمة غير أنها مهملة ومغيبة من تفكيرنا ونقاشاتنا وهي قضية تصب في راهن الأحداث وتدفع نحو طرح السؤال القديم الجديد هل يمكن أن نتحدث عن أعمال ثقافية وأعمال فنية ابداعية تحقق الوعي المطلوب وتنتج المواطن الصالح مع أناس يعيشون حياة صعبة وتنقصهم الكثير من أساسات العيش الكريم ومقومات التنمية ؟ كيف يمكن للدولة أن تراهن على الثقافة في مقاومة مختلف مظاهر الانحراف التي يعرفها الشباب في ظل واقع لا يمكن أن ينتج الا التهميش المؤدي الى فك الارتباط بين ومؤسسات الدولة الرسمية . ما طرحه عاطف بن حسين من أفكار بخصوص واقع وزارة الثقافة ورفض القائمين عليها تحسين حالها وتطوير طرق عملها والتخلص من العقلية القديمة المتحجرة هو معضلة الثنائية المريرة بين أيهما أسبق الحرية أم الديمقراطية ؟ وأيها اجدى للفرد الغذاء أم الفن والفكر والثقافة ؟ وهل هناك من مصلحة وفائدة من الفعل الابداعي والعمل الثقافي في ظل واقع اجتماعي لا يجعل الناس تهتم بما ينتج روحيا ؟ ما طرحه عاطف بن حسين يؤدي بالضرورة إلى الحديث عن الثورة الثقافية المهدورة وعن ضرورة تلازم بين الفن والفكر وتوفير مقومات الحياة الكريمة وعن تفويت الفرصة التي سنحت للبلاد وتم إضاعتها حينما لم يتول من تسلم قيادة الثورة السياسية مواصلة المسار واستكمال الانتقال الديمقراطي بالقيام بالثورة الثقافية التي هي أساس كل ثورة ناجحة فما حصل هو الاعتقاد بأن الثورة السياسية يمكن أن تنجح من دون ثورة في العقول والأذهان ومن دون ثورة في الثقافة والفكر ومن دون تلازم بين الحرية والديمقراطية وبين الأمن الروحي والأمن الغذائي . ما حصل هو أن من تسلم مهمة تحقيق أهداف الثورة في بعدها الاجتماعي والسياسي قد أهمل الثورة الثقافية ولم يراع أهمية الفكر والثقافة في انجاح الثورة السياسية وتجاهل أهمية تلبية احتياجات الناس الاجتماعية لإنجاح الأعمال الثقافية وجعل الناس تهتم بالحياة الروحية والحياة الفنية. ما نبه إليه عاطف بن حسين هو أن هناك هرم من الحاجيات لا بد من احترامه ذلك أن الشعوب اليوم أصبحت تطالب بأمنها الغذائي وتنشد الرفاهية في المقام الأول وترنو أن تجعل توفير الغذاء والعمل والمال من اولوية مطالبها وبعد ذلك بقية الحقوق تجد مجراها . لقد اتضح اليوم أنه لا جدوى من أن نحدّث الناس عن الفن والثقافة وهم يعانون من مصاعب كثيرة في حياتهم اليومية ولا يجدون ما يحقق لهم الحياة الكريمة. ما يمكن قوله هو أنه رغم أننا نتفهم وجهة نظر عاطف بن حسين ونتفهم كذلك حرقته على عدم قدرته إيصال رسالته الفنية إلى الناس نتيجة الظروف الحياتية الصعبة التي يعيشونها إلا أن ذلك لا يتعارض مع كون الأمم لا تتقدم ولا تتطور إلا بتجديد فكرها وتحديثه وأروع الابداعات (غناء ، مسرح ، موسيقى ) ولدت من رحم المعاناة ومن العبث البحث عن ترتيب تفاضلي نصنف به أولوية الغذاء المادي على الغذاء الروحي فمطلب الثقافة ومطلب الفكر والفن والإبداع كمطلب الحرية لا يتحين وقتا بعينه لتفعيله ومن الأخطاء التي وقعت فيها الثورة الاعتقاد أن هناك أولويات اقتضى الواقع حينها أن تمارس قبل غيرها .