هو احد رموز الانتاج المسرحي التونسي، كانت بدياته منشّطا ثقافيًّا ليحمل اثر هذا همّه وشغفه بمسرح مغاير وبعيد عن السائد منكسرا حينا ومنتصرا دائما للمسرح الحرّ والمسؤول والمحرك للاحداث، فاميليا، عوادة، عشاق المقهى المهجور، سهرة خاصة مرورا بجنون وخمسون وصولا الى اخر انتاجاته المسرحية ضمن مجموعة »فاميليا للانتاج« والتي تعرض حاليا »يحيى يعيش« وهو ايضا منتج سينمائي في المجال الوثائقي وباعث قاعة »أفريك آرت«.. ضيفنا باختصار هو المنتج المسرحي والسنمائي الحبيب بلهادي الذي كانت لنا معه هذه الوقفة الحوارية المطوّلة ليحادثنا عن عشقه الاول والاخير الفن الجاد وما أعاقه من مصاعب قبل الثورة وما يأمل ان يكون عليه بعدها فكانت هذه الورقة: ❊ الحبيب بلهادي من منشط ثقافي (مهمّة إدارية بالأساس) إلى منتج مسرحي وسينمائي يركب المجهول دون معرفة بالعواقب، هل هو اختيار أم اضطرار؟ في البداية لابد أن أقول انني احمد الله انني لم أرسّم يوما منشّطًا ثقافيًّا قارًّا بوزارة الثقافة ولهذا التمرّد حكاية فقد عينت في بداياتي في أكثر من دار ثقافة بالعاصمة لكنني وفي كل مرة أطرد ويقع التخلي عن خدماتي التي اربكت وأقلقت المسؤولين أواخر السبعينات وبداية الثمانينات، حيث كان ايماني كبيرا بسذاجة الشباب أو بذكائه لست ادري حقيقة بمفهوم النشاط الثقافي المفتوح ذا المضامين والرؤى والتطلعات، ومن البديهي ان هذا التمشي مقلق للمسؤولين أيامها، فكان خيارنا دائما بين خيارين احلاهما مر إما ان نخضع او نغادر مقالين او مستقالين. ❊ ثم كانت سنوات الجمر؟ اجل هي سنوات الصراع الحقيقي مع السلطة من أجل افتكاك مقر للعرض او أحقية الانتاج فأما عن قاعة العرض فقد امتد صراعنا مع وزارة الثقافة لمدة فاقت أربع سنوات لاجل اعادة فتح قاعة »الحمراء« التي آلت في النهاية الى المسرحي عزالدين قنون الذي كانت وضعيته ايامها افضل مني، اما في خصوص الانتاج فقد طرق ايامها هذا الباب باقتراح من بعض الزملاء فقدّمنا مسرحية »اسماعيل باشا« لتوفيق الجبالي ومحمد ادريس خاصة ايام ايمانه بالمسرح الحق وبعد التحول غير المبارك طبعا التحقت بالمسرح الوطني لمدة ثلاثة سنوات كمدير للانتاج والتوزيع، وسرعان ما استقلت كعادتي حتى لا أشارك في انهيار هذا الصرح؟ ❊ نفهم من كلامك أن بوادر انهيار المسرح الوطني كانت بادية منذ التسعينات؟ أجل والعلامات كانت واضحة بيّنة للعيان فالاخ المدير المخلوع عمل على تغيير السياسة العامة لتوجهاتنا التي آمنّا بها يافعين، اضافة الى خوفه المتنامي من السلطة ومن المبدعين الشبان فكان لابدّ من الرحيل خرجت اثرها فانتجت مسرحية بين مارسيليا والمتوسط وكان بإمكاني حينها ان اصنع لنفسي مشوارا بالخارج، لكن ظلّ هاجسيّ المسرح التونسي الذي نريد الى ان انتجنا سنة 1992 بمعيّة الفاضل الجعايبي وجليلة بكار »فاميلا للانتاج« بكل ما أوتينا من جهد وذكاء وسذاجة ايضا. ❊ في ظلّ كل هذه التجاذبات مع السلطة، ماهو الأمر الاكثر إرباكا الذي تعرضتم له زمن الرفض؟ اعتقد ان من أوكد مطالبنا التي لم يفهمها كل وزراء الثقافة السابقون باستثناء عبد الرؤوف الباسطي وهذه كلمة حق في شخصه ضرورة ان يتوفر لنا فضاء للتمارين والعرض وقد استمر هنذاالتجاذب في هذه المطلبية المشروعة زهاء عقدين من الزمن، فالكل يعلم أننا كنا نتمرّن ونقيم العروض بداية التسعينات بفضاء التياترو، لكن تعارض رزنامة عروضهم وعروضنا أربك البرمحة فانسحبنا، وظللنا نطالب بفضاء خاص من كل الوزراء المتعاقبين والطريف في المسألة اننا وكلما عيّن وزير جديد يستقبلنا بالحفاوة ثم يتجاهلنا، وهكذا دواليك.. إلى أن وجد الباسطي الخطة المثلى لنحْصٌلَ على فضاء. فمسألة الفضاء مسألة حيوية لنا تمكنا من التمارين واعادة التمارين بما يضمن الحد الادنى من الجمالية أولا والحرفية ثانيا والمكسب المادي للمجموعة التي يحكمها عرض وطلب شباك التذاكر لا شيء آخر. ❊ وماهو درعكم لمجابهة هذا الإقصاء؟ هو المحافظة على الناحية الفنية والجمالية التي عوّدنا بها جمهورنا الوفي، فنحن نرفض منطق أن نكون مساكين أو شهداء، ندافع على صورة أننا نحارب وننتصر وهو ما أردنا توريثه للشباب. فمعركة »خمسون« مثلا، ظلت متواصلة مع الرقابة قرابة ستة أشهر منهم ثلاثة أشهر ضغطًا من الامن، الى أن انتقلنا إلى العرائض وتشريك الناس في القرار، وهو ما كان لنا بعد جهد وتعب، وأذكر في هذا الباب ان زمن وزارة بن عاشور طولبنا بحذف 268 جملة او فقرة او اسم علم ولم يستقر بنا الحذف في النهاية الا لاسم علم واحد نوعًا من »الماخذة بالخاطر« كما يقولون وهو نفس ما حصل مع مسرحية »يحيى يعيش« لكن بأقل حدّة، حيث ظن الرقيب انها تتحدّث عن زين العابدين بن علي، وللحقيقة أقول انها ما كانت تعنيه لا من وقت قريب ولا بعيد، بل تتحدّث عمن خدموا السلطة وتنكرّت لهم.. أردناها رسالة فنية لكل المسؤولين حتى يتّعظوا منها لكن لا احد منهم شاهدها عدا الباسطي بحكم مهامه. ❊ هذا في السابق، كانت لكم معاناة وتجاذُبات مع السلطة، وكل هذا قوّضته الثورة المباركة اليوم، فماذا ستقدمون الآن؟ بصفة عامة صبغة المقاومة ستظلّ، فنحن ومنذ انطلقنا مجموعةً نؤمن بمسرح المواطنة، وهو مشروعنا الكبير لايماننا بالفكر الحداثوي والعصري والمنفتح، ونريد من ثورتنا ان تكون كذلك وسنعمل بمسرحنا على ان تكون تونس دميقراطية اولا ومنفتحة ثانياولائكية ثالثا، وهذه معارك جديدة نتمنى ان نخوضها في كنف الديمقراطية وهي معارك اقل تعقيدا ولكنّها اكثر شجاعة... وهي معرك المسرح الحديث في كل بلدان العالم. ❊ مسرح »فاميليا للإنتاج« كان له السبق في التمرّد والعصيان، من الصمت، ألا تخافون اليوم من مغبّة استنساخ مسرحكم بدعوى الأنموذج الأمثل زمن الثورة؟ الفاضل الجعايبي ومسرحه لم يعد له معنى بعد 14 جانفي، فالثورة أهدتنا الحرية في الفكر والتعبير ربّما ما يتفوق فيه مسرحنا على المسارح القادمة هو التجربة والحرفية والرؤى فالحرية ستمنح مجالا أكبر للمبدعين الجدد حتى يزدهرو بالخطاب المسرحي وبجمالياته وهو القانون العام للدنيا.. فلا يمكن اليوم لجيل الستينات ان يكون جيل الثورة لكن الثورة في الجهة الموازية ليست بمنأى عنهم. فجيلنا كان يأمل في يوم من الايام، ولم يكن منتظرا في الرابع عشر من جانفي، أن تتحقق الحرية وناضلنا من أجلها لسنوات وقد أتى بها اليوم الشباب الجديد الذي سيكون منذ الآن المنارة التي تضيء مسرحنا البديل لو لم يغترَّ بالنجاحات الصغيرة وكان مؤمنا بالعمل على مشروع كامل. ❊ وأي دور للمسرح والسينما عموما بعد ثورة 14 جانفي؟ المسرح والسينما قطاعان تخلفا كثيرا في السنوات الماضية، فمن المفارقات العجيبة انه لم يُبْنَ مسرح واحد بعد الاستقلال وحتى مدينة الثقافة ستبنى بعد الثورة والحمد لله، وهو ما ينسحب على السينما بشكل أعنف. تطلعات المثقف التونسيّين اليوم كبيرة على ما يمكن ان تقدّمه الثورة والاحزاب قديمها وجديدها للثقافة، فالسياسة والاجتماعيات والاقتصاد لا يمكن لها ان تظلّ تستهلك كل الجهد، بل صار لزاما فسح المجال لاعادة تشكيل خارطة جغرافية ثقافية جديدة، تكون فيها الثقافة متوازنة بين الجهات ومنفتحة على كل الابداعات حتى يكون المواطن التونسي في كامل الجمهورية على مقربة واطلاع بالابداع الوطني والنشاط الثقافي الثري.. فلابد من اعادة الفضاءات الثقافية إلى مثقفيها وتمكينها من مضمون ثقافي ابداعي وطني محايد في خدمة الذكاء التونسي والفطنة التونسية بعيدا عن الاستبلاه ومنطق الترفيه الذي شمل كل المجالات في العصر البائد. ❊ نستشعر من كلامك لوما كبيرا للسياسة والسياسيين في تهميشهم للبعد الثقافي؟ أكيد فالاحزاب القديمة كانت ضعيفة ثقافيا وعليها اليوم ان يكون في برامجها البعد الثقافي وباطناب، ومن لم يكن له برنامج ثقافي واضح المعالم فهو حزب أعرج لا يفي بتطلعات تونس اليوم. ❊ إذن أنت ترى أن الثقافة هي من أوكد ضروريات تونس ما بعد الثورة؟ بطبيعة الحال فالثقافة هي من أوكد الضروريات اليوم بعد التشغيل، بل هي أداة تشغيل أصلا، لاستقرار واستمرار نجاح الثورة.. فالحضور الثقافي بالمدارس والمعاهد والجامعات يقرّب الناس من بعضها البعض ويوفّر مادة للنقاش والاختلاف بعيدا عن الخلاف والعنف والكره والاقصاء وهو المطلب الاساس للثورة وعنوان بارز للديمقراطية. ❊ في ظل غياب الرقيب بعد الثورة، ألا تخشون من وصاية بشكل آخر؟ أكيد فالوصاية اليوم قد تأتي من تحت العمامات والاخلاقيات، وأهم شيء هو الحسم في مسألة الرقابة الذاتية والخوف، والعلاج الامثل هو الحرية المسؤولة بما يسمح به الدستور الجديد والقانون حتى نصل الى المبدع الحرّ الذي يقول ما يريد مع احترام القانون العام بعيدا عن الخوف والمراعات والمحاباة. فأكبر رقابة كانت تمارس على المسرح التونسي قديما ليست اللجنة، بل ميكانيزمات الدعم. ❊ هذا مسرحيا فماذا عن السينما؟ أمواج الابداعات الشبابية بدأت قبل الثورة وحينها وبعدها وهي الملاذ الذي سيملأ الفراغات التي أفرزتها التلفزات والمهرجانات وما على الحكومة القادمة سوى الايمان اكثر بهذا البديل الذي ننتظر منه الكثير. ❊ مساحة حرة، فلك أن تقول ما تريد: ارجو من الحكومة القادمة وحتى المؤقتة الربط بين دور المؤسسة التربوية والابداع الوطني، فهذه المسألة حاسمة ودونها لا يمكن لنا ان نكوّن شبابا ومواطنا اصلا فالمؤسسة التربوية تعيش مع الناشئة في أوائل بدايات وعيهم بالثقافة والاشياء عامة، فلابد من خلق جسر تواصل بين المبدع والتلميذ مما يكرّس الوعي بالجماليات والديمقراطيات وآداب الحوار.