حين تستمع إلى عبير موسي بمدينة صفاقس تجد أنكّ كدستوري في موقف قوة.. لا يخذلك ماضيك الدستوري... لا تخفيه... لا يخجلك أن تزرع على كتفيك شالا أحمرا كما لا تهاب أن تتحدث عن إنجازات الزعيم بورقيبة.. وكما لا يمكنك إلاّ أن تصدّق هذه اللبوة التي لم تعرف بورقيبة ربما.... أو قل لم تعاشره كما عاشره الكثير من الدستوريين غيرها وهم بأعداد غفيرة... والسؤال هو: كيف استطاعت هي أن تقف إلى جانب الزعيم وتتبناه ويتبناها من قبره في حين يتلعثم لسان غيرها وهو أقرب إلى بورقيبة منها؟ وهذا يجرّني طبعا إلى السؤال عن سبب تشرذم الدساترة رغم ثقلهم؟ لنقل أن هناك ما يقارب المليونين من الذين بقوا بصورة وأخرى مدينين إلى بورقيبة... وأنا من بينهم.. أقول هذا رغم اختلافي عن بعض سياساته... لكن في نفس الوقت كنت أعرف جيدا أن عددا من الدستوريين الوطنيين يختلفون مع بورقيبة في بعض تمشياته وآرائه.. فقط كان ذلك الحزب يجمع شتات الوطنيين. مع اختلاف آرائهم. قلت إنّه إذا كان عددهم مليونين تقريبا، ومن بين المليونين كما هو الشأن في كل مجموعة بشرية أو مهنية أو إثنية نسبة من الفاسدين. لنقل أن هذه النسبة تقدر بواحد على ألف.. أي بعملية حسابية بسيطة لنقل إنّه تواجد في هذا التيار ما يقارب العشرين ألف فاسدا.. فهل إن الأحزاب الحالية لا تحمل في طياتها نفس النسب من الفاسدين إن لم نقل أكثر بكثير؟ أمر آخر أريد طرحه بوضوح شديد... لماذا تحاول الأحزاب الحداثية الوسطية الركوب على حصان بورقيبة، وفي نفس الوقت تراها تطلب إلى الدساترة بعد استقطابهم بالظهور في مؤخرة كراسي قاعات اجتماعهم؟ وإن منّوا عليهم بمزية وكرم يذكران فتراهم يطلبون إليهم عدم الجلوس في الصفوف الأولى في اجتماعاتهم؟ وكأنّهم اكتسبوا الوطنية والزعامة من ينابيع ما وراء البحر.... كشهادات تأمين. وأسئلة أخرى لا بدّ من طرحها: لماذا ترى الحزب ذي التوجه الإسلامي في تونس يستقطب الدساترة (وبعضهم فاسدون بحقواستحقاق) ولا يخجل من وضعهم في الكراسي الأمامية؟ وسوف اضيف أمرا آخر حتى أفجر لبعض أصدقائي قنبلة قد تسيء إليّ، وليكن، لكني أصارحهم بأنني أجد في الحزب الإسلامي بعض المواقف العقلانية، على شاكلة ما يقومون به مع الدساترة، وهي أكثر عقلانية مما قد ينشره هذا التيار أو غيره.. لماذا لا يتمّ بصورة جلية وواضحة إقصاء الدساترة وغير الدساترة ممن تلوثت اياديهم في فساد مثبت قضائيا وبصورة لا تدع مجالا للشك، واستدراج المجموعة الكبرى إلى العمل الوطني؟ لكن السؤال الأهم والذي من أجله شرعت في خطّ هذه الأسئلة هو التالي؟ يحتوي المشهد السياسي اليوم على حزب مرجعيته دينية مع بعض سواتله المتطرفة أكثر من بعض صقورها في عقر دارها، ومجموعات يسارية رفضت كلّ تموقع داخل الحكومات المتتاليةولعلّ موقعها في المعارضة يخدمها وربما يخدم البلاد أكثر من لو دخلت حكومة ما. أما الكتلة الكبرى من سكان هذا البلد فهم الحداثيون الوسطيون.. وفيهم يتواجد الدساترة.. ومأزقها القاسي والذي يهدد مستقبلها ولا يخدمه هو بعض ما لاحظته عند سماع خطابات من يتزعم تياراتها: أولا: هاجس التوريث الكارثي على حزب النداء... لقد كره الشعب بكل فئاته أمر التوريث. حتى وإن صلح الوارث سياسيا واجتماعيا وثقافيا وخطابيا وما إلى ذلك. فمجرّد ذكر جلباب الأب أصبح من العوائق الكبرى ليستمر النداء في تزعّمه الحركات الوسطية. ثانيا: النرجسية التي يتحلى بها بعض من يدعي الحداثة والوسطية والوطنية والديمقراطية وقدأصبحت بعبعا يهابه كل وطني غيور على وطنه... وقد يشكّ الواجد منا حتى في وطنية من تلبّس بنرجسية وحب الذات في خطابه... وتقوقع حول نفسه.. واعتبر نفسه سرّة الكرة الأرضية. وعلى الآخرين استرضاءه واستمالته. إنّه الخطر الأكبر والخط الأحمر الذي لن يتخطّاه دستوري صادق ووطني صادق إلاّ إذا كان متلبّسا أو منتم بصورة وأخرى إلى العشرين ألف فاسد من الدساترة.. لعلّ دخوله تحت عباءة من تنرجس يبيّض ماضيه ويستر عورته. ثالثا: الإقصاء وسياسة إبعاد بل وحتى ما يسمونه ترتيب الصفوف بإظهار أوجه وإبعاد أخرى، هو حساب خاطئ تماما. فجنود الخفاء أضحت لا ترغب في الخفاء بل نيل حقها ومكانتها بقدر ما تقدّم إلى المجموعة. ولذلك فعلى الأحزاب الوسطية هذه أنالت تأشيرتها أو تأمل أو تعمل على أمل الحصول على تأشيرة ما أن تتجاوز سياسة الإقصاء بأي صورة ما إلاّ فيما ذكرنا بأنّ ملفاتهم تحمل تلوثا أثبت باليقين. رابعا: الإسقاط المركزي... كثيرا ما تعمل خلايا من النحل العامل بالجهات لأشهر بل ولسنين صلب مجموعات صلبة لتجميع الرأي حول حزب ما ثم تُفاجأ ذات يوم بمرشّح دفع بعض المال (أو كثير منه) ليكون على رأس قائمة... هذه هي قمة الدناءة السياسية... فلعلّه، حتى وإن دفع مالا غزيزا لن يستطيع التعبير عن سياسة حزبه أو عن مصالح جهته التي أيّدته وصوتت له... ولعلّ هذا هو الأمر الذي يدفع إلى السياحة الحزبية... فهو قد دخل برأس مال معيّن ويكفي أن تمدّه براس ماله مع بعض الربح أحيانا لتجده يركب حافلة أخرى وناقلة أخرى وتيارا آخر... لم يصمد في حزبه هذا البتة. فهو معفي من تقديم فكر معيّن أو حتى فكرة، ولكنّه لا يزن أكثر مما قدّم من مال. خامسا: الخوف من التكتل... ما أعجبني أخيرا هو دعوة صريحة وواضحة لنائبة تقول عن حزبها إنّه يرغب في التكتل والعمل مع الجميع، أكان تيارا قويا بنواب أو مجرّد تيار فكري حداثي وسطي، وحتى تخلي رئيسه عن الزعامة لو فرض التكتّل مصلحة أخرى وطريقا أخرى تجمع الشمل.. هذا هو الطريق الأسلم حتى تكون للقوائم موحّدة أو متكاتلة والذي قد يمكنّها من كسب الانتخابات المقبلة نقاط أخرى لم اثرها.. لكن هذه الخواطر قد تساعد على توفير مناخ يسمح بالتجميع للقوى التي ترصد كل مدخراتها في خدمة الوطن والنقاش مع الاتحاد دون استعمال تلك الألفاظ اليائسة التي استعملها أمينه في ساحة محمد علي وهي تتنافى كليا مع ما كان يتفوه به حشاد: أحبّك يا شعب. ألا هل بلّغت......