"بلاي اوف" الرابطة الاولى.. التعادل يحسم كلاسيكو النجم الساحلي والنادي الإفريقي    مجلس نواب الشعب يشارك في المؤتمر الخامس لرابطة برلمانيون من اجل القدس    عميد المحامين يوجه هذه الرسالة إلى وزارة العدل..    انتخابات جامعة كرة القدم: إسقاط قائمة واصف جليل وإعادة النظر في قائمتي التلمساني وتقيّة    طقس الليلة    بسبب القمصان.. اتحاد الجزائر يرفض مواجهة نهضة بركان    بطولة المانيا: ليفركوزن يحافظ على سجله خاليا من الهزائم    البنك التونسي للتضامن يحدث خط تمويل بقيمة 10 مليون دينار لفائدة مربي الماشية [فيديو]    بين قصر هلال وبنّان: براكاج ورشق سيارات بالحجارة والحرس يُحدّد هوية المنحرفين    نابل: إقبال هام على خدمات قافلة صحية متعددة الاختصاصات بمركز الصحة الأساسية بالشريفات[فيديو]    تونس تترأس الجمعية الأفريقية للأمراض الجلدية والتناسلية    الكشف عن مقترح إسرائيلي جديد لصفقة مع "حماس"    2024 اريانة: الدورة الرابعة لمهرجان المناهل التراثية بالمنيهلة من 1 إلى 4 ماي    المعهد التونسي للقدرة التنافسية: تخصيص الدين لتمويل النمو هو وحده القادر على ضمان استدامة الدين العمومي    انطلاق فعاليات الدورة السادسة لمهرجان قابس سينما فن    القلعة الكبرى: اختتام "ملتقى أحباء الكاريكاتور"    الكاف: قاعة الكوفيد ملقاة على الطريق    سوسة: وفاة طالبتين اختناقا بالغاز    جمعية "ياسين" تنظم برنامجا ترفيهيا خلال العطلة الصيفية لفائدة 20 شابا من المصابين بطيف التوحد    استغلال منظومة المواعيد عن بعد بين مستشفى قبلي ومستشفى الهادي شاكر بصفاقس    بطولة مدريد للتنس : الكشف عن موعد مباراة أنس جابر و أوستابينكو    الدورة الثانية من "معرض بنزرت للفلاحة" تستقطب اكثر من 5 الاف زائر    تسجيل طلب كبير على الوجهة التونسية من السائح الأوروبي    تونس تحتل المرتبة الثانية عالميا في إنتاج زيت الزيتون    جدل حول شراء أضحية العيد..منظمة إرشاد المستهلك توضح    الشركات الأهلية : الإنطلاق في تكوين لجان جهوية    الأهلي يتقدم بطلب إلى السلطات المصرية بخصوص مباراة الترجي    عاجل/ الرصد الجوي يحذر في نشرة خاصة..    كلاسيكو النجم والإفريقي: التشكيلتان المحتملتان    اليوم.. انقطاع الكهرباء بهذه المناطق من البلاد    عاجل/ مذكرات توقيف دولية تطال نتنياهو وقيادات إسرائيلية..نقاش وقلق كبير..    فضيحة/ تحقيق يهز صناعة المياه.. قوارير شركة شهيرة ملوثة "بالبراز"..!!    اكتشاف أحد أقدم النجوم خارج مجرة درب التبانة    ليبيا ضمن أخطر دول العالم لسنة 2024    بمشاركة ليبية.. افتتاح مهرجان الشعر والفروسية بتطاوين    بن عروس: حجز 214 كلغ من اللحوم الحمراء غير مطابقة لشروط النقل والحفظ والسلامة الصحية للمنتجات الغذائية    وزير الثقافة الإيطالي: "نريد بناء علاقات مثمرة مع تونس في مجال الثقافة والتراث    بن عروس: انتفاع قرابة 200 شخص بالمحمدية بخدمات قافلة طبيّة متعددة الاختصاصات    تخص الحديقة الأثرية بروما وقصر الجم.. إمضاء اتفاقية توأمة بين وزارتي الثقافة التونسية و الايطالية    برنامج الدورة 28 لأيام الابداع الادبي بزغوان    في اليوم العالمي للفلسفة..مدينة الثقافة تحتضن ندوة بعنوان "نحو تفكرٍ فلسفي عربي جديد"    الإتحاد العام لطلبة تونس يدعو مناضليه إلى تنظيم تظاهرات تضامنا مع الشعب الفلسطيني    8 شهداء وعشرات الجرحى في قصف لقوات الاحتلال على النصيرات    مدنين: وزير الصحة يؤكد دعم الوزارة لبرامج التّكوين والعلاج والوقاية من الاعتلالات القلبية    طقس السبت: ضباب محلي ودواوير رملية بهذه المناطق    الكاف: إصابة شخصيْن جرّاء انقلاب سيارة    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    وزير الخارجية يعلن عن فتح خط جوي مباشر بين تونس و دوالا الكاميرونية    السيناتورة الإيطالية ستيفانيا كراكسي تزور تونس الأسبوع القادم    بنسبة خيالية.. السودان تتصدر الدول العربية من حيث ارتفاع نسبة التصخم !    تألق تونسي جديد في مجال البحث العلمي في اختصاص أمراض وجراحة الأذن والحنجرة والرّقبة    منوبة: تفكيك شبكة دعارة والإحتفاظ ب5 فتيات    مقتل 13 شخصا وإصابة 354 آخرين في حوادث مختلفة خلال ال 24 ساعة الأخيرة    كاردوزو يكشف عن حظوظ الترجي أمام ماميلودي صانداونز    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ندوات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. تونس بالتعاون مع «دار الصباح»: مشروع قانون العتبة.. هل يكون حلاّ للأزمة السياسية القائمة؟
نشر في الصباح يوم 28 - 12 - 2018

الممارسة التقليدية الإرثية ساهمت في تدمير نداء تونس بينما ساهم تصرّف النهضة كقبيلة سياسية في الحفاظ على تماسكها
...هكذا تحول التوافق بين الحزبين الى تواطؤ في خدمة مصالحهما بديلا عن مصلحة البلاد العليا
الثقافة الظاهرة هي الثقافة الشرعيّة ..تعلن عن نفسها صراحة أمّا الثقافة الخفيّة فلا يُعترف لها بالشرعيّة و يتمّ إنكارها وهي موجودة
بقلم: د. عبد اللطيف هرماسي (*)
يتناول مقالنا أنماط وصيغ الثقافة السّياسيّة التي تمّ توظيفها من قبل الأطراف السياسيّة الفاعلة، وخصوصا منها المهيمنة منذ الثورة التونسيّة في خضمّ تنافسها وتنازعها أو تحالفها لأجل توجيه ما سُمّي تفاؤلا بمسار الانتقال الديمقراطي. ونحن نقصد بالثقافة السياسية الاستعدادات الذهنيّة والتصوّرات الفكرية والقيم الأخلاقيّة والمفاهيم والرّموز التي توجّه أو تؤثّر في اتّخاذ القرارات والمبادرات والأفعال السياسيّة. والثقافة السياسيّة بهذا المعنى تضمّ الإيديولوجيات ، ولكنها أشمل منها لكونها تحيل إلى عالم من التمثّلات وجملة من السلوكيّات المركّبة الثريّة في مكوّناتها والمغتنية بالروافد المتعدّدة والمنفتحة على الديناميات الاجتماعيّة، خلافا للإيديولوجيات السياسيّة التبريريّة التي تتّسم بشيء من الصلابة والأحادية. لذلك لا تشكّل الثقافة السياسيّة منتجا نهائيا وجاهزا للاستعمال، بل هي حاصل عمليّة بناء مستمرّ بالانطلاق من العناصر الموجودة والإضافة إليها، أو إعادة تركيبها واستخدامها لرفع مطالب وصياغة برامج وإنتاج شعارات وتحريك رموز بغرض التأثير على الرّأي العام واستجلاب المناصرين. ونحن نتحدّث عن ثقافة سياسيّة بصيغة المفرد عندما نتحدّث عن المفهوم النظري أو عمّا تشترك فيه مختلف الأطراف، إلاّ أنّ ذلك لا ينفي التباينات والانقسامات التي تتطلّب الحديث عن ثقافات سياسيّة فرعيّة أو متعارضة تتطلّب القيام بعمليّة تصنيف.
المكوّنات والمميّزات: الثقافة الظّاهرة / الشرعيّة والثقافة الخفية / المخفيّة
يقتضي الحديث عن الثقافة السياسيّة في تونس اليوم الانطلاق من تركيبتها كما كانت لحظة اندلاع «الثّورة»، كما يتطلّب الانتباه إلى التغيّرات – بل الانعطافات الحادّة- التي حصلت في تموقع الفاعلين السياسيين وخطابهم وسلوكهم، وبالتالي في صيغ إخراج ثقافتهم السياسيّة أو في الدفع باتجاه تعديلها، وذلك عبر مختلف المراحل التي عرفتها سيرورةٍ حبلى بالمفاجآت والمفارقات.
تقود هذه الورقة فرضيّة عامّة تتكوّن من مقترحين:
المقترح الأول: هو أنّ الثقافة السياسية في تونس تتكوّن من طبقتين: واحدة ظاهرة أو سطحيّة هي الثقافة السياسيّة الحديثة – أو المستحدثة - ونختصرهما في الثقافتين الحداثية والإسلاميّة، والثانية خفيّة – أو عميقة - هي ناتج فعل التاريخ الطويل الأمد والبصمة التي تركها الماضي في العقليات والمشاعر والاستعدادات، وتتجسّد في الثقافتين الإرثيّة - السلطانية من جهة، والقبليّة أو العروشيّة من جهة ثانية.
والمقترح الثاني: هو كون الطبقة الأولى تعبّر عن نفسها بصيغ هجوميّة ومكافحة تحتلّ فيها الإيديولوجيا مكانة الصدارة في حين تعبّر الطبقة الخفيّة عن نفسها بصيغ دفاعيّة احتمائيّة، وتمثّل المخزون الثقافي الثاوي ما تحت الوعي والذي يستنجد به الفاعل السياسي في حالات الأزمة والمصاعب أو يستخدمه لقضاء مآربه.
يقتضي ما تقدّم مجملا بعض التوضيحات:
نقصد بالثقافة السياسيّة الحديثة القيم والمبادئ المحوريّة التي تأسّست عليها الحداثة الغربيّة وهي الحريات المدنيّة والسياسيّة والمساواة في الحقوق على أساس المواطنة، والتي وجدت ترجمتها فيما يُسمّى ب»المنظومة الكونيّة لحقوق الإنسان»، علما بأنّ التعاطي مع هذه المنظومة يختلف في مجتمعنا بين مؤمن بها ومدافع عنها بإطلاق، ومن يتحفّظ على بعض تجلياتها الحقوقية والثقافية؛ كما أنّ هذه الثقافة تعرف في صلبها تنوّعا وفقا لخطوط تباين إيديولوجية كالليبراليّة والشيوعيّة والقوميّة...الخ. وبالنسبة للثقافة المستحدثة فهي تلك التي تجمع بين مكوّنات تراثيّة سياسيّة ودينيّة كأولويّة العقيدة وسيادة الشريعة وعناصر مستلفة من الثقافة السياسيّة الغربيّة كفكرتي الحريّة والديمقراطيّة ومبدإ المواطنة، وهو ما نلاحظه لدى الحركات الإسلامويّة في صيغ مختلفة.
هاتان هما الكتلتان الكبيرتان في ساحة الثقافة السياسيّة الظاهرة، مع الإضافة بأنّ تعارضهما الذي تغذّيه النزعات القصوويّة والاستئصاليّة لم يحل دون وجود جسور وحلقات وصل تتجلّى في الفكر السّياسي الوسطي والأحزاب الممثّلة له، كما لم تحل دون تطوّر بعض التيارات واقترابها من «الآخر» على غرار ما شهده الفكر السياسي لحركة النهضة.
وبخصوص الطبقة الخفيّة من الثقافة السياسيّة فهي تمثّل المشترك ضمن تراثات جلّ التيارات سابقة الذّكر إن لم يكن كلّها، وحتّى إن تفصّت منها وأنكرتها، فمن اليسير معاينة حضورها أو حضور بعض عناصرها في الممارسة العمليّة يتعلّق الأمر كما قدّمنا بالثقافة الإرثيّة-السلطانيّة والثقافة القبليّة أو العروشيّة: الأولى تتّجه إلى شخصنة السلطة -أيّ سلطة كانت- وإلى خوصصة الدولة والإدارة عندما تصل إلى الحكم، واعتماد الفساد أسلوبا في تحصيل النفوذ والثروة وحفظهما، أمّا الثقافة الثانية فهي ثقافة العصبيّة بمعناها الأوسع والتي تشمل العائلة والقبيلة والجهة، كما نعاين حضورها في إشتغال الأحزاب والجمعيات، والمبدأ هنا هو التضامن الآلي في الملمّات وتوظيف القرابة في اقتضاء الحاجات.
على أنّ الطبقتين ليستا منفصلتين ولا تشتغلان بمعزل عن بعضهما، بل هناك تداخل وتكامل وظيفي بينهما. فمن الممكن أن يحدث تصرّف ما من منطلق قناعة إيديولوجيّة أو الإيمان بمثل عليا كما يمكن أن يصدر من موقع التضامن العصبي أو المشاركة في الفساد. كذلك يمكن أن تتواجد مكوّنات الثقافات السياسية المختلفة أو المتعارضة في الظّاهر ضمن التركيبة الإيديولوجيّة والممارسات السياسيّة لنفس الكيان الحزبي أو نفس النظام السياسي. هذا ما نعاينه مثلا في تجربة حزب نداء تونس الذي جمع في مرحلة صعوده بين صفة الطائفة الإيديولوجية المعادية بشدّة لما يُسمّى ب»الإسلام السياسي»، والمجمّعة على هذا الأساس لأطراف دستورية ويسارية ونقابية ،وصفة الحزب السياسي الساعي بقوة إلى انتزاع الحكم من أطراف الترويكا تحت لواء قيادة ملهمة ومحنّكة وبتأطير من مثقفين ومسيّسين يقودهم الطموح لتصدّر ذلك الحراك والمشاركة في غنيمته. حراك مشهود حقّق أهدافه في فترة قصيرة قبل أن يتحوّل حزب الرئيس قائد السبسي إلى اعتماد سجلّ سياسي على طرف نقيض من الأول في العلاقة بحركة النهضة وأيضا قبل أن تدمّره الممارسة الإرثية بل السلطانية لمؤسّسه.
والملاحظة نفسها حول الجمع والتركيب بين العناصر الثقافية والمرجعيّات الإيديولوجية وأساليب التعاطي مع الشأن السياسي تنطبق على حركة النّهضة سواء في زمن محنتها أو بعد الثورة، مع فوارق مهمّة من بينها أنّ الممارسة التقليدية الإرثية ساهمت في تدمير نداء تونس بينما ساهم تصرّف النهضة كقبيلة سياسية في الحفاظ على تماسكها.
هذه هي المكوّنات والسّمات العامة للثقافة السياسية التي أنتجتها تونس منذ الاستقلال، وتونس ما بعد الثورة، كما أنها أنتجت تونس السياسية الحالية.
يجب أن نضيف أنّ الثقافة الظاهرة هي الثقافة الشرعيّة أي التي تدّعي الشرعيّة أو تتنافس على نيل الشرعية، وهي تعلن عن نفسها صراحة، أمّا الثقافة الخفيّة فلا يُعترف لها بالشرعيّة. هي ليست فقط خفيّة، مستترة، موجودة في أعماق الثقافة، ولكنها أيضا مخفيّة يتمّ إنكارها، ولا يتحمّل أحد مسؤولية تبريرها –نقصد بشكل رسميّ- وإنّ حصل التبرير فيكون سرّا لا جهرا.
ومن المفيد أن نضيف عناصر أخرى ساهمت في صنع المشهد الحالي:
أوّلها ما يتعلق بأنماط القيادة أو الهيمنة التي تراوح بين النّهج الفردي-السلطوي ونهج التشريك الديمقراطي، وبين التقيّد بالقانون والتراتيب بما في ذلك القانون الأساسي والنظام الداخلي للحزب، والممارسة الكاريزمية التي لا تعبأ كثيرا بالقانون والمؤسسات.
وثانيها ما يتعلق بآليات واستراتيجيات التأثير كأساليب الدعوة أو الدعاية أو الإشهار، وكاستراتيجيات التحقير والوصم والعزل واستراتيجيات المدح والتجميل والإغراء، وكفبركة الإشاعات وصناعة الأساطير (أسطورة الثورة، أسطورة العصر الذهبي، أسطورة المؤامرة، أسطورة المنقذ...الخ).
وثالثها النّزعات والقيم التي وجّهت مواقف الأطراف السياسية وممارساتها منذ الثورة، ومن ذلك الشعبوية في مقابل النخبويّة، والمثالية في مقابل الواقعيّة، والانتهازية في مقابل المبدئية، والانتفاعية في مقابل إعلاء الصالح العام.
الاتّجاهات المهيمنة: من المزايدة الثوريّة إلى الدّيمقراطيّة الفاسدة
انطلاقا من هذا التوصيف والتصنيف، وفي محاولة لاستكشاف الاتجاهات المُهيمنة من الضروري أن نأخذ بالاعتبار الحركية الفائقة التي عرفتها الساحة السياسية وتغيّراتها وكذلك المنعطفات التي فصلت بين مختلف مراحل سيرورة الانتقال السياسي منذ الثورة، ورهانات الفاعلين الأساسيين، وعمليات التوظيف أو المراجعة أو المناورة التي أقدمت عليها القوى الأكثر تأثيرا، علما بأن المجال يقتضي الاختصار والتركيز ضمن المهمّ على الأهمّ.
وفي ضوء ما سبق نقترح تجزئة السنوات الثماني المنقضية إلى أربعة مراحل تبعا لأنموذج الخطاب السياسي المهيمن والاتّجاهات والخصائص التي يكشف عنها لنجملها في أربعة عناوين قبل تدقيقها، وهي:
لحظة الخطاب الشعبوي والمزايدات الثورية.
لحظة النزوع الهيمني للقبيلة النهضاوية وصعود الطائفيات الإيديولوجية.
لحظة الصفقات التوافقية والاحتكار الثنائي المؤسس لديمقراطيّة فاسدة.
لحظة فشل التوريث الديمقراطي وأزمة التوافق.
اللحظة الأولى من اشتغال الثقافة السياسية هي لحظة الاستفادة من فرصة الثورة التي أطاحت برأس الاستبداد والفساد. ما بين الثورة وانتخابات أكتوبر 2014 أصبحت الرّمزيّة الثورية، معضودة لدى البعض بالرمزية الدينية، هي المجال الممتاز للاستثمار السياسي على حساب كلّ من المرجعية المدنية الحقوقية – الليبرالية والرمزية الوطنية، وهو ما وجد ترجمته في إقصاء ممثلي النّظام السابق بوصفهم أزلاما ودعاة للثورة المضادة، وكذلك عزل ممثلي المعارضة الإصلاحية من دعاة التغيير التوافقي والتدرّجي (الحزب الديمقراطي التّقدّمي وحركة التجديد). بالمقابل مثّل الحدث الثوري فرصة انتهزتها أطراف عدّة.
بعضها لم تكن له أيّ مشاركة في معارضة نظام بن علي ولكنه وظّف القيم القبليّة ودغدغ المشاعر الجهويّة والمطامح الشعبيّة ليحقّق نجاحا لم يكن يتوقّعه أحد (العريضة الشعبيّة).
وبعضها، ونقصد حركة النهضة، كان يعتمد خطابا معتدلا ومهادنا طيلة العشريّة السابقة للثورة ويتفادى إغضاب بن علي بعدما ناله من المحن، وإذا به في مقدّمة المعتصمين الثّائرين على الحكومة الأولى وعلى المعارضة المشاركة فيها، والتي حققت مطالبه في إطلاق سراح المساجين السياسيين والعفو التشريعي العام وعودة المغتربين.
وبعضها الآخر، ونقصد حزب المؤتمر، حقّق أرباح استثماره في الخطاب المعارض الجذري واشترك مع حركة النهضة في بعث وتأطير روابط حماية الثورة التي تصرّفت - بعد أكتوبر 2011- كميليشيات تجسّد منطق الإقصاء وتمارس العنف الرمزي والمادي على معارضي الترويكا الحاكمة.
2. اللحظة الثانية هي لحظة المحاولات التي بذلتها حركة النهضة لتكييف مسار الانتقال الديمقراطي مع مشروعها في أن تبقى الحزب الأول والطرف المتحكّم في الدولة والمهيمن في المجتمع، أدواتها في ذلك نظام نيابي يُفرغ رئاسة الدولة من كلّ الصلاحيات الفعليّة، ووضع يد الحركة على الإدارات والمؤسسات ذات الطابع الاستراتيجي أو الحسّاس، وتركيز شبكة كثيفة من الجمعيات المدعومة ماليا من الخارج، وتحريك روابط حماية الثورة لترهيب الخصوم، وتقاسم السيطرة على المساجد مع السّلفيين، مع التعاطي معهم كقوّة احتياط لمجابهة مخاطر عودة التجمعيين أو انتفاض قوى الدولة العميقة كما تسمّيها.
وفي مواجهة هذه النزعة الهيمنيّة والإقصائية والمخاطر التي بدأت تتهدّد الحريات، تحركت المعارضات العلمانية معتبرة أنّ تصرّفات حركة النهضة بصدد حرف مسار الانتقال عن هدفه في إقرار ديمقراطية تعددية حقيقيّة إلى جانب تسامحها مع ما اعتبرته نيلا من المقدسات الوطنية، في إشارة إلى إغفالها الاحتفال بعيد الاستقلال وتهاونها إزاء رفع رايات السّلفيّة الجهاديّة بديلا للراية الوطنية.
ولا شكّ أنّ المخيال السياسي للإسلاميين كجزء مكوّن للثقافة السياسية كان قد ابتعد عن المتخيّل الوطني لفائدة حلم الخلافة كما نشأ على مناهضة النظام البورقيبي المتّهم بمحاربة الهويّة الإسلاميّة، وفي هذا الإطار حصل الخلط في أذهان النهضاويين بين ما يرمز له بورقيبة في نظرهم من جهة والرمزيّة الوطنية التي يجلّها الحداثيون والعلمانيون من جهة أخرى. وهكذا تهيّأت الظروف لتشكّل قطبين ما لبثت الاغتيالات السياسيّة أن أجّجت العداوة بينهما، كما دفعت بمكوّنات رئيسية من التكتّل الحداثي إلى مواقف استئصالية والترويج لطائفيّة إيديولوجية مضادّة، وهو حال الجبهة الشعبيّة ونداء تونس اللذان شكّلا الطرف الرئيسي في جبهة الإنقاذ واعتصام الرحيل، إلى جانب أطراف وسطيّة ديمقراطية تقدّميّة تسائل النهضة عن سياستها وليس عن خلفيتها الثقافيّة. وقد تجلّت هذه المواقف عند كتابة الدستور الجديد التي خضعت بدورها لتجاذبات بين تأكيدات النهضة، وهي التي اقترحت مشروعه، على الأبعاد الإسلاميّة للهويّة التونسية، وتمسّك الحداثيين بالطابع المدني للدولة وقيم الحداثة مقابل استبعاد البعد الإسلامي أو الحدّ منه، ومحاولة الوسطيين إيجاد حلول توافقيّة، وهو ما حصل إجمالا.
اللحظة الثالثة: شهدت تحوّلا كبيرا في توجّهات وخطابات كلّ من النداء والنهضة. لقد تسلّح النداء أصلا بإيديولوجيا حداثويّة وعلى أمل أن يجمع المعارضات المتفرّقة تحت مظلّة الحفاظ على مكاسب الدولة الوطنية العصرية ونهج الحبيب بورقيبة. كما سعى مؤسسه الباجي قائد السبسي وهو يبني سلطته الكاريزميّة إلى التشبّه بالرئيس بورقيبة حتى في هيئته، كلّ ذلك قبل أن يقرّر التقارب مع زعيم حركة النهضة ويحصل منه على تنازلات بدأت بالتخلي عن مشروع قانون العزل السياسي للتجمّعيين ولم تنته بتخلي النهضة عن مساندة المرزوقي في الترشّح للرئاسة وذلك لصالح زعيم النداء. كان المقابل لذلك تعويض لغة العداء والتشهير والوصم المتبادل بلغة الصداقة والتوافق، الأمر الذي صدم الكثير من الندائيين وأدى إلى تصدّع الحزب وتحوّل ما تبقّى منه إلى قبيلة سياسيّة تتّبع شيخها، وعلى الجهة الأخرى لم يكن قبول زعيم النداء بالتقاء «الخطّين المتوازيين» وتخلّيه عن اتّهام النهضة بالتآمر والتواطؤ مع التنظيم العالمي للإخوان المسلمين، لقاء تنازلات سياسية وحسب بل رافقه انعطاف بمائة وثمانين درجة في خطاب قيادة النهضة.
في هذا الصدد يمكن القول أنّ سنة 2014 شهدت خطوات متسارعة نحو تبني فكر سياسي جديد: فبعد الحركة الرمزيّة الصادرة عن راشد الغنوشي بالترحّم على بورقيبة عدوّه اللدود سابقا، وبعد امتداح الدساترة والتجمعيين بوصفهم «بناة الدولة» (الصباح 11 و16 أكتوبر 2014)، وهو الذي وصفهم قبل ذلك بأسوأ النعوت واعتبرهم أخطر من السلفيين، وأثناء اختتام الحملة الانتخابية في 24 أكتوبر، سعى زعيم النهضة إلى التأكيد على انتماء حركته للنسيج الوطني واعتناقها لخصوصيته الثقافية، مبرزا مخاطر نزعات التقسيم والإقصاء على «الوحدة الوطنية»، ومعلنا أنّ « تونس أحبّ إلى النهضويين من السلطة ومن النهضة نفسها»!
من المؤكّد أنّ تونس كانت بحاجة إلى مصالحة بين أبنائها ممن يقبلون بالعمل تحت سقف الدستور الجديد والالتزام بخطوات العدالة الانتقالية، لكن التسوية التي حصلت والتي تعطي ضمانات للنهضة بأن لا تقع محاسبتها على إدارة مرحلة الترويكا وما شهدته من عنف إزاء خصومها، كانت أقرب إلى صفقة بين قبيلتين سياسيتين وبمشاركة الحزب الوطني الحرّ الذي تأسّس على الفساد.
كانت أولى ثمرات تلك المقايضة السياسية مصادقة الكتلة البرلمانية للنهضة على المشروع الذي تقدّم به قائد السبسي من أجل المصالحة الإدارية، ممّا يعني العفو عمّن ارتكبوا جرائم اقتصادية وسياسيّة بدعوى تنفيذهم للتعليمات، ودون مساءلة لهم ولا اعتذار منهم، أمّا الثمرة الموالية فهي ما حصل إبّان مناقشة قانوني المالية لسنتي 2017 و2018 من اشتراط سحب البنود التي كانت ستساعد الدولة على مكافحة الفساد والتهرّب الجبائي كي تقع المصادقة على المقترح الحكومي، وهو ما تمّ فعلا. هكذا تحوّل التوافق بين الحزبين إلى تواطؤ في خدمة مصالحهما بديلا عن مصلحة البلاد العليا، ومعه تحوّلت الديمقراطية الوليدة من إطار ممكن للحوكمة الرشيدة والانكباب على معضلات التنمية المؤجّلة إلى منظومة مدعوة للتعايش مع الفساد والاستفادة من أباطرة التهريب ولوبيات التهرب، ومهدّدة بأن تتحوّل إلى ديمقراطيّة فاسدة.
4- اللحظة الرابعة هي التي دخلتها تونس مع سنة 2018، وهي لحظة مأزق التوافق الندائي النهضاوي.
من الواضح أنّ تصدّع حزب النداء الذي بدأ بسبب التوافق مع النهضة قد تحوّل إلى تفكّك في ردّ فعل على تنفّذ حافظ قائد السبسي ابن المؤسّس ورئيس الجمهورية، وما نُسب لهذا الأخير من نية في توريث ابنه. كان انعكاس هذه التطورات سلبيا على صورة الحزب ونتائجه الانتخابيّة، والغريب أن قيادته حمّلت حركة النهضة الجزء الأكبر من المسؤولية عن تراجعه، ما جعلها تنخرط في مسار افتراق بنته على استعادة خطاب التعارض الجذري بين أنصار الحداثة والإسلام السياسي ومغازلة الجبهة الشعبية لإحياء الاتهامات المعروفة للنهضة بالاغتيال والتآمر. وممّا زاد الطين بلّة أنّ رئيس الدولة الذي كاد ولاؤه لعائلته يفقده مفهوم هيبة الدولة، مارس ضغوطا على النهضة حتى تتخلى عن رئيس الحكومة الخصم الأول لابنه والمتمرّد على وليّ نعمته، وأيضا لكي تصادق على قانون المساواة في الإرث مع كلّ ما يثيره من مشكلات مع قواعدها ووسطها الثقافي.
وهكذا يتمّ الدفع بتونس مجدّدا إلى مربّع الاستقطاب الإيديولوجي والثقافي الذي عاشته في مرحلة الترويكا وخرجت منه بشقّ الأنفس.
تونس تعود مجددا الى مربع الاستقطاب الايديولوجي
*أستاذ باحث في علم الاجتماع
مهتم بقضايا التنمية والعائلة والدين والسياسة والحركات الإسلامية
نواصي وعتب.. في الجدل حول إرساء عتبة انتخابية
◄ لا يمكن التسليم بأن عتبة 5 % ستسهم في ترشيد وعقلنة الفعل السياسي للأحزاب السياسية
بقلم: د. محمد الامام (*)
صادقت لجنة النظام الدّاخلي والحصانة والقوانين البرلمانية والقوانين الانتخابية على اعتماد عتبة ال 5 % للانتخابات التشريعية المقبلة، وفي انتظار تأكيد ذلك في الجلسة العامة، أفرز النقاش في الأوساط السياسية والعلمية أساسا وبدون مفاجأة شقين بين مساند ومعارض لهذا التمشي. ويرجح الشق المناصر للعتبة الانتخابية ضرورة ترشيد الحياة السياسية والقضاء على تشرذم الساحة الحزبية والذي سيؤول بدوره إلى الاستقرار البرلماني وإضفاء الكفاءة والنجاعة على العمل التشريعي. هذا من شأنه أن يعيد ثقة المواطن في مؤسسات دستور 2014 والفاعلين السياسيين على حد السواء. أما في المقابل فيرى الشق المعارض أن إرساء عتبة انتخابية ينتهي إلى إقصاء الأقليات الحزبية ويدعم نفوذ الأحزاب القوية وفي هذا تنكر ليس فقط لمخرجات مسار ما بعد 2011 وإنما أيضا للفكرة الأساسية التي تقوم عليها منظومة الديمقراطية. هذه الأخيرة وكما ذهب اليه هانس كلسن الفيلسوف وفقيه القانون العام النمساوي هي نظام حماية الأقليات السياسية والدفاع عن حقها في التعبير عن اختلافها ودورها في الإسهام والتداول في الشأن العام من خلال التمثيل في البرلمان وليس كما يسوق له رئيس الجمهورية الحالي محمد الباجي قائد السبسي بأن الديمقراطية هي حكم الأغلبية والتزام الأقلية بعدم التشويش عليها.
في واقع الأمر، ليس لاعتماد العتبة الانتخابية أثر آلي وحتمي على نتائج الانتخابات. فالعتبة الانتخابية لا تؤثر أو تشكل خطرا في المواعيد الانتخابية على الأحزاب التي لها خزان انتخابي مرتفع. فيمكن للعتبة أن تدعم الخزان الانتخابي للأحزاب الكبيرة مما قد يؤدي إلى إعادة التوازن بينها أو انخرامه نسبيا لصالح حزب أو تكتل دون الآخر. ومرد ذلك أن العتبة قد تشجع التصويت التكتيكي فيخير الناخب توجيه صوته إلى أحد الأحزاب الكبيرة. وقد تؤدي العتبة في صورة أخرى إلى تآكل الخزان الانتخابي للأحزاب الكبيرة وذلك في صورة صعود قوة حزبية جديدة أو تشكل ائتلاف حزبي يجلب ويستنفذ من قواعد الأحزاب الأخرى. على أن الأحزاب الإيديولوجية مثل حزب حركة النهضة فهي عادة لا تخسر بسهولة قواعدها. ومن جهة أخرى، أثبتت التجربة المغربية، كما تجارب أخرى على غرار التجربة البلجيكية (على خصوصيتها)، عدم أهمية تأثير العتبة. إذ أن بعد إدخال العتبة في المغرب لوحظ أن الأحزاب الكبيرة تحصلت على نتائج أقل مما تحصلت عليه في الانتخابات التي سبقتها والتي لم يتم فيها العمل بقاعدة العتبة. ولقد كان عامل العزوف عن التصويت هو الفيصل في تقهقر نتائج الأحزاب الكبرى دون أي تأثير لوجود العتبة الانتخابية من عدمه.
الأكيد أن العتبة الانتخابية عامل تحريك للمشهد السياسي. فبعيدا عن القراءات الجامدة المرتكزة على الآثار الميكانيكية لأنواع نظم الاقتراع والتي عادة ما لا تنتبه تحاليلها إلى حركية الواقع السياسي واستراتيجيات الفاعلين السياسيين في رد على حركية السياق السياسي، ينزع جزء غير هيّن من جمهور الناخبين إلى التصويت التكتيكي خوفا من ضياع صوته. وقد يخير بعضهم العزوف عن المشاركة في الانتخابات. وفي نفس السياق تتفاعل بعض الأحزاب (عدا الأحزاب المؤدلجة بشدة) مع هذا الواقع وتتحرك لتفادي عتبة العتبة وذلك بالانصهار في ائتلافات مع أحزاب أخرى صغيرة أو كبيرة قريبة منها أو بعيدة. فالهدف هنا هو عملية تقارب مبتغاها أساسا تجاوز العتبة الانتخابية. فتكون حينئذ العتبة عاملا في تلاقي تيارات سياسية مختلفة حتى تلك التي كانت تسير في خطوط متوازية.
ويرى البعض على غرار ما ورد في وثيقة شرح الأسباب المرافقة لمشروع القانون أن إرساء عتبة انتخابية من شأنه تدعيم استقرار المشهد السياسي. ويضيف آخرون أن هذا من شأنه أيضا إحكام اختيار الأحزاب لمرشحين أكفاء. لا يبدو هذا الرأي مجانبا للصواب للوهلة الأولى. إلا أنه لا يجب أن يخفي أن التحالفات التكتيكية عادة ما تكون أشد عرضة للهزات خلافا للتحالفات المبنية على البرامج أو الإيديولوجيا. ويصبح الاستقرار الحكومي في ظل التحالفات التكتيكية رهين توزيع المسؤوليات والحقائب الوزارية. من ناحية أخرى لا يعني وجود استقرار في المشهد السياسي أن إدارة الحكم تستجيب لمتطلبات المرحلة وانتظارات الناخبين بل تستحيل العملية السياسية إلى فض مشاكل الأحزاب والائتلافات على حساب تطلعات الناخبين والمواطنين. ثم إن مسألة الكفاءة تبقى مسألة غير مضمونة النتائج الإيجابية. فلقد أكدت التجربة التونسية أن وجود تكنوقراط في تركيبة حكومية لم يسعف البلاد لقلب المعطيات في اتجاه إيجابي. أيضا أثبتت مثلا التجربة الفرنسية مع بيريغفواي أنه كان رئيسا للوزراء دون أن تكون بحوزته شهادة بكالوريا. ودون التعمق في مسألة الكفاءات في العمل السياسي سنكتفي بالقول إنها تمثل هي أيضا عتبة رمزية أمام المشاركة المواطنية الواسعة في الفعل السياسي. إذن لا يمكن التسليم بأن عتبة 5 % ستسهم في ترشيد وعقلنة واستقرار ونجاعة الفعل السياسي للأحزاب السياسية.
عتبة ال 5 % قد تفصل النزاع أو تزيد في تأجيجه بين شق واسع في نداء تونس يقوده رئيس الجمهورية محمد الباجي قائد السبسي وبين رئيس الحكومة يوسف الشاهد. فبالنظر إلى النتائج الهزيلة للأحزاب «القديمة» والجديدة في الاستحقاقات الانتخابية الماضية قد تضطر هذه الأخيرة للبحث عن تحالفات فيما بينها، على أن «الأناءات المتعاظمة» قد تحول دون ذلك ويبقى لها عندئذ خيار الاصطفاف إما وراء السبسي أو الشاهد. وما سعي محمد الباجي قائد السبسي للقاء قياديي أحزاب «الهلع من العتبة» إلا لإضعاف يوسف الشاهد وعزله بتصنيفه في خانة ممن يدور في فلك النهضة. وبدوره يعمل يوسف الشاهد على استمالة جماعة «الهلع من العتبة» خاصة في خضم آخر التقليعات الانقلابية لقياديي حزب نداء تونس. استمالة جماعة «الهلع من العتبة» تخدم مبدئيا حزب حركة النهضة الذي سيعزز تفوقه في حال تواصل الانقسام داخل العائلة الندائية.
قضية العتبة تؤكد أن التموضع والانتهازية تطغى على المشروع السياسي لجل الأحزاب المتواجدة على الساحة لذلك حظي السياسيون المستقلون (ليس جدا جدا) بنتائج محترمة في الانتخابات البلدية الفارطة. جدير بالاهتمام معرفة استراتيجية المستقلين من ناحية وكيف سيكون تجاوب جماعة المعنيين بعتبة العتبة مع نداءات السبسي والشاهد من ناحية أخرى. عتبة من سيرتضون أم سيختارون ناصيات أخرى؟ ففي نهاية المطاف، ما هي إلاّ «نواصي وعتب والبعض من الذرية».
--------
(*) محمد الإمام، دكتور في العلوم السياسية وأستاذ جامعي يشتغل على العلاقات بين الإتحاد الأوروبي ودول الجوار الجنوبي والوضع السياسي في تونس.
أزمة المشهد السياسي في تونس سياسية.. قانونية أم دستورية؟
❞نظام التمثيل النسبي مع الاخذ بأكبر البقايا لم يخل من نقائص اثرت سلبا على المشهد البرلماني ❝
❞اقرار عتبة 5 % سيكون له تأثير ايجابي على مستقبل الانتقال الديمقراطي في تونس❝
بقلم: الأستاذ الناصر الهرّابي (*)
اختار المشرع التونسي منذ انتخابات المجلس الوطني التأسيسي لسنة 2011 نظام التمثيل النسبي مع الأخذ بأكبر البقايا من بين النظم الانتخابية المتعارف عليها.
ولئن لاقى هذا النظام استحسان البعض خاصة في بداية فترة انتقالية وبعد ثورة شاركت فيها مختلف مكونات الأحزاب السياسية والمجتمع المدني والمواطنين بلا قيادة كخيار لتشريك أكثر ما يمكن من مكون المشهد السياسي والمستقلين في صياغة أول دستور بعد الثورة، فإن هذا النظام لا يخلو من النقائص التي أثرت على المشهد البرلماني نتيجة التجاذبات السياسية والحزبية داخل قبة المجلس كادت أن تعصف بالتجربة الديمقراطية.
ولم يتدخل المشرع في الانتخابات التشريعية سنة 2014 وكذلك في الانتخابات البلدية سنة 2018 لتغيير النظام الانتخابي حيث كان ضرورة بالنسبة للانتخابات البلدية التي لها خصوصية مقارنة بالانتخابات التشريعية بل حافظ عليه كخيار لمشهد سياسي وبرلماني متذبذب وغير مستقر نتيجة فوز العديد من المترشحين بأكبر البقايا في حين لم يكن دورهم مؤثرا.
وكحل لتجاوز نقائص وعيوب هذا النظام في الاقتراع اعتمد المشرع بمناسبة الانتخابات البلدية الأخيرة نظام استرجاع المصاريف في الحملة الانتخابية عوضا عن نظام التسبقة بهدف ترشيد الترشحات ومزيد حوكمة الشأن الانتخابي وبهدف الحفاظ على المال العام.
لكن هذا النظام الانتخابي المتبع منذ سنة 2011 وبالرغم من إيجابياته في فترة الانتقال الديمقراطي وفي ظل غياب مؤسسات دستورية تحمي هذا المسار فإنه تعتريه عديد العيوب والنقائص منها أنه يفرز مشهدا برلمانيا غير متجانس ومشتتا وهو ما ساهم في تجزئة الأحزاب الصغرى حازت على مقاعد وانتقال البعض من الأعضاء من حزب إلى آخر أو ما يطلق عليه ب» السياحة الحزبية « مما ساهم في عدم استقرار الكتل البرلمانية وفي عدم ثقة المواطن في بعض النواب الذين انتخبهم بهدف برنامج معين وفي حزب معين.
وكان مشروع القانون الأساسي عدد 2018/63 المتعلق بتنقيح وإتمام القانون الأساسي عدد 16 لسنة 2014 المؤرخ في 26 ماي 2014 المتعلق بالانتخابات والاستفتاء، قد تطرق إلى مسألة العتبة حيث أقر أنه « لا تدخل في توزيع المقاعد القائمات المترشحة التي تحصلت على أقل من 5 % من الأصوات المصرح بها على مستوى الدائرة « وهو مشروع اقترحه رئيس الجمهورية وأحالته الحكومة على مجلس نواب الشعب واعتمدته لجنة النظام الداخلي والحصانة والقوانين البرلمانية والقوانين الانتخابية بتاريخ 15 نوفمبر 2018 بتصويت من نواب حزب حركة نداء تونس وحزب حركة النهضة والائتلاف الوطني في حين عارضه المستقلون والمعارضة.
تعددت القراءات لهذا المشروع والهدف والغاية منه وتوقيته لكن كان لزاما على المشرع أن يتدخل خاصة بعد صدور دستور 2014 من أجل حوكمة المشهد البرلماني ولمزيد إضفاء الفاعلية البرلمانية بعد مرور ثماني سنوات على اندلاع الثورة حيث بقيت استحقاقات هذه الثورة مراوحة لمكانها في ظل الضبابية وعدم وضوح سياسة تنموية واقتصادية وفوات الفرص في الاستقرار وتطوير المنظومة التشريعية حتى أنه أصبح الحديث عن إمكانية تنقيح الدستور من أجل تجاوز الأزمة السياسية التي تمر بها تونس وهو ما لم يلق تجاوبا خاصة أنه لا يمكن تعليق جميع الأزمات على الدستور الذي لازالت معظم أحكامه لم ترى النور بعد.
واختلف الملاحظون للمشهد السياسي حول قراءة الأسباب الحقيقية الكامنة وراء هذه الأزمة التي تعيشها تونس حيث هناك من يعتبرها أزمة سياسية وهناك من يراها أزمة قانونية في حين يراها البعض الآخر أزمة دستورية.
إن اعتماد عتبة ب% 5 في هذا المشروع ربما يكون هو الحل الامثل لتفادي مزيد تأزم الوضع وتشتيت الأصوات وبناء معارضة قوية ومؤثرة مما يدفع إلى بناء التحالفات وتجميع الأحزاب الصغرى لدخول الانتخابات القادمة في شكل ائتلافات يكون لها شأن في مجلس نواب الشعب وتكون الأحزاب الكبرى ممثلة في المجلس بقوة مما يسمح لها بتمرير القوانين خاصة منها القوانين الأساسية وعدم تعطل أعمال المجلس وعقلنة المشهد البرلماني القادم والاستقرار الحكومي بالرغم من أن لا شيء يؤكد أن سبب الأزمة الحالية ناتج مباشرة من نظام الاقتراع المعتمد أو من الدستور.
إن العتبة تعتمدها أغلب الدول وخاصة دول الإتحاد الأوروبي التي تختلف النسبة فيها من دولة إلى أخرى والتي لا تقل عن 3 % ولا تزيد عن ال10%.
يبقى المشهد السياسي التونسي غير مفهوم مما يدفع إلى إيجاد حلول من أجل تحصين الانتقال الديمقراطي حيث تدخل المشرع في فيفري 2017 ونقح وتمم القانون عدد 16 لسنة 2014 المتعلق بالانتخابات والاستفتاء بمناسبة الانتخابات البلدية الأخيرة التي ساهمت إلى حد كبير في تشريك المرأة والشباب والأشخاص ذوي الإعاقة في المجالس البلدية المنتخبة وهو الدور الطبيعي للمشرع لإيجاد الحلول الممكنة تماشيا والتحولات التي تشهدها تونس.
إن إقرار عتبة ب5% سيكون له تأثير إيجابي على مستقبل الانتقال الديمقراطي في تونس خاصة أن هذه النسبة تبدو معقولة مقارنة بالتجارب المقارنة كالبينين أو تركيا أو ليتوانيا أو بولونيا أو الولايات المتحدة الأمريكية أو ألمانيا وهي فرصة لأحزاب المعارضة من أجل مزيد التنظم والتعبئة والمساهمة الفعالة في بناء هذه المرحلة من تاريخ تونس التي تحتاج فيه لكل أبنائها وبناتها
--------------
(*) محام – العضو المؤسس والمدير التنفيذي لمرصد شاهد
- مدرب وملاحظ في الشأن الانتخابي ومدرب في اللامركزية والحكم المحلي
لماذا لا تترك عملية العقلنة إلى الشعب وتصويته؟
ويعتبر د. سالم لبيض أستاذ علم الاجتماع السياسي في الجامعة التونسية ان قانون العتبة فيه مظلمة صارخة أي ان الذي لن يحصل على نسبة 5 بالمائة ستذهب اصواته لغيره والهدف من هذا القانون حسب رأيه هو تقليص عدد النواب في المجلس الى 100 نائب، وفيه مظلمة اخرى تتصل بمستوى التمويل أي ان الاحزاب الكبيرة ستحصل على التعويض والذين لا يحصلون على النسبة المطلوبة في قانون العتبة لن يحصلوا عليه لذا هو مسقط وفيه محاولة استنساخ وقال لبيض :«الوم على النهضة عندما تساند مثل هذا المشروع لأنها عانت من القمع وتسكير الابواب .. والوم على احزاب زكت هذا القانون وهو ضدها وسيؤدي الى اقصائها وسنتصدى لقانون العتبة لأنه على مقاس نداء تونس والنهضة وحدهما ولأنه يتضمن ثغرات ويهدد العملية الديمقراطية و بالتالي سيوصل الى نظام استبدادي.»
وفي تدخله صرّح وسام الصغير من الحزب الجمهوري بان حزبه يؤكد استقلاليته ويعمل على ايجاد ارضية للعمل المشترك وإعادة بناء هياكله. ورأى ان العتبة الان اصبحت بمثابة العقبة لان تونس لم تنه المرحلة الحساسة - المرحلة الانتقالية - لنتحدث عن العتبة . وقال :» العتبة تناول سياسي للوضع وترجمة لضيق صدر الحاكم والمدافعين عنه واعتقد بان تغيير قوانين اللعبة ونحن داخل اللعبة اي خلال السنة الانتخابية يبعث برسائل سلبية كما ان طرح العتبة الآن 2 بالمائة او 5 بالمائة يتنافى مع مبدأ الديمقراطية « وانهى وسام الصغير تدخله مؤكدا على ان لجنة التشريع العام دعت خبراء وعرضت عليهم المشروع فحذر جميعهم من هذا التنقيح واعتبروه خطيرا ويمكن ان ينسف المرحلة الانتقالية اضافة الى نزوعه نحو الاستبداد ».
اما حركة الشعب فقد صرح ممثلها رضا لاغة بأنه للعتبة حدها الادنى ويكون 3 بالمائة عندها لا يبقى الكبير دائما كبيرا والصغير لا يبقى دائما صغيرا وقال : «اولا ما مشروعية التفكير في العتبة هل هو بمنطق الاشباع والتكثيف لمفهوم الديمقراطية بمنطق الاقصاء؟ ثانيا هل استوفينا المسار الديمقراطي ام لا ؟».
وطرح استاذ العلوم السياسية بالجامعة التونسية شاكر الحوكي اسئلة ماذا يعني ان يطرح طرف سياسي محدد هذا المشروع؟ وهل من حق هذا الطرف السياسي ان يعيد هندسة الخارطة الحزبية والسياسية كما يحلو له وبأي حق؟ ولماذا لا تترك عملية العقلنة الى الشعب وتصويته وهل ان النهضة مستعدة لان تكون في المعارضة اذا افرز مشروع العتبة نوعا من الحياة السياسية التي تقوم على القطبية السياسية. وقال الحوكي :»ان تغيير النظام سيطوي صفحة الثورة بالكامل وتعديل النظام السياسي في مراحل الانتقال الديمقراطي مؤشر على العودة الى الوراء حيث انه من منظور القانون الدستوري بمجرد تعديل فصل وحيد وهو المتعلق بصلاحيات رئيس الدولة يتحول الى نفس النظام السياسي لسنة 1959 ».
اما احمد بوعزي الممثل للتيار الديمقراطي فقد صرح بأنه اراد ان تمر الانتخابات بالنسبية التي تعطي اغلبية ساحقة ولكن الانتخابات التونسية فيها فكرة الاقصاء للأسف وقال :» عتبة 3 بالمائة كان لها جانب ايجابي اما الترفيع الى 5 بالمائة فستطيح بكل الاحزاب الصغيرة والعتبة لا بد منها ولكن 5 بالمائة عالية جدا وارى وجوب الاكتفاء ب 2او 3 بالمائة لنجد اغلبية مريحة .
وفي تدخلها رأت استاذة القانون العام روعة الصالحي ان قانون العتبة ستستفيد منه النهضة في كل الحالات لأنها احسن حزب مهيكل حاليا في تونس وفي احسن الحالات ستنتج عنه تشكيلة احزاب لا تتجاوز الستة .
وأشار الباحث الجامعي عبد اللطيف الحناشي في تعليق على ما استمع اليه من طروحات ونقاشات الى انه لا يوجد نظام اقتراع افضل من آخر والنظم السياسية هي التي تفرض نظام اقتراع معين و5 بالمائة هي نسبة كلاسيكية تعتمدها اغلب الدول وفيها ايجابيات على الواقع السياسي وقال :«الاحزاب عندنا متشابهة وفيها نرجسية مؤذية لزعاماتها ولعل عتبة 5 بالمائة تقلص من هذه النرجسية هذا اضافة الى ان الاحزاب الصغيرة كانت دون فاعلية وسط البرلمان ».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.