لم نعد نسمع ولم نعد نقرأ في هذه السنوات الأخيرة لدى من يسمون أنفسهم أو من يسميهم العامة والغوغاء بالفنانين، ما يرتقي الى تحقيق متعة العقل ونشوة القلب ولذة الروح بالصدق والحق واليقين وإنما اصبحنا نسمع التفاهات ونقرأ السخافات ونعجب من التهرات والخزعبلات، وبتعبير آخر فقد ضاع وانقضى واندثر ومات الابداع وحل محله التهريج والابتذال وسقط المتاع الى العنق والى الأذقان والى النخاع ولم نعد نسمع بين الفينة والأخرى الا عن فضائح ادعياء الفن وتقديم الشكايات من التافهين المنتشرين كالجراد في غالب الإذاعات وفي غالب القنوات التي تناسلت تناسلا عجيبا كما تتناسل الفئران في مواضع واماكن المزابل والفضلات والمستنقعات... ولكم أعجب كل العجب كيف آل الوضع وانقلب الحال الى هذا الوضع والى هذا المال وأصيب الفن والإبداع بكل مرض فظيع شنيع مؤسف محير عضال... وإني أحمد الله تعالى أنني قد عشت سنوات جميلة ماضية تمتعت فيها بكل أنواع الفنون العظيمة الرفيعة الراقية كما أنني لا أذكر يوما من ايام الزمن الماضي الجميل ان عظماء الفنانين من شعراء وكتاب وممثلين وغيرهم من المبدعين قد تخاصموا مثل هذا الخصومات التي نراها ونسمع عنها في آخر هذه السنوات وانهم قد قدموا ببعضهم مثل هذه الشكايات وأوقعوا بعضهم بعضا في مثل هذه الفضائح، ومثل هذه الترهات وهذه الخزعبلات وانما كان هؤلاء الفنانون السابقون الراحلون والمبدعون الحقيقيون الصادقون يجتهدون في امتاعنا وفي اسعادنا باجمل الكلمات واجمل الألحان واجمل الأفلام واجمل الأشعار واجمل الكتابات التي بقيت محفورة في ذاكرتنا وفي قلوبنا نرددها ونتذكرها ونشم رائحتها ونترحم على أصحبها كل صياح وكل مساء مادامت الأرض وما دامت السماء… أما عن هذا الجيل الحالي الذين يسمون انفسهم ويسميهم العامة والغوغاء بالفنانين من باب البلاهة والجهل وضعف العقول وبلادة وركاكة الأفهام فانني اكتفي في تلخيص مستواهم بذكر ذلك المثل الذي حفظناه من حكماء التونسيين في سالف السنين والأعوام فقد قالوا وقولهم كله جمال واناقة ونظام(سود وجهك ولي فحام) اما اجدادنا الأدباء والفقهاء الذين ارتقوا بالابداع قديما الى ارفع القمم فقد قالوا وقولهم كله موعظة ورشاد ونصح وحكمة(ما كل بيضاء شحمة وما كل سوداء فحمة)ولكن مع كل الاسف اصبح اهل الفن المزيفين عندنا اليوم كثيرين في كل القنوات لا يفرقون بين الشحم والفحم ولا بين الكوع والبوع ولا بين الجمال والقبح ولا بين الابداعات وبين التفاهات ولا شك ان اكبر داء وأعظم مصيبة تصاب بها الأمم هي فقدان دليل وبوصلة التفريق بين السقوط في عميق الحفر وبين الصعود والارتقاء والعيش في أعالي وشاهق ورفيع القمم…