وزارة التعليم العالى تطلق مكتبة افتراضية مدعومة بالذكاء الاصطناعي    الديبلوماسية التونسية تحتفل بيومها الوطني : التاريخ .. المبادئ .. الأهداف    عاجل/ الجيش الاسرائيلي يعلن إنتشاره في جنوب سوريا    ترامب ينشر صورة له وهو يرتدي زي البابا ..    سوسة: القبض على شخص مصنف خطير وحجز مواد مخدرة    كارول سماحة تنعي زوجها بكلمات مؤثرة    استعدادا لعيد الإضحى المبارك وزارة الفلاحة توصي بتلقيح الحيوانات وتأمين أضاحي سليمة    دراسة جديدة: الشباب يفتقر للسعادة ويفضلون الاتصال بالواقع الافتراضي    البطولة العربية للرماية بالقوس والسهم - تونس تنهي مشاركتها في المركز الخامس برصيد 9 ميداليات    عاجل/ البحر يلفظ جثثا في صفاقس    شبهات فساد: قرار قضائي في حق وديع الجريء ومسؤولين آخرين.. #خبر_عاجل    هند صبري: ''أخيرا إنتهى شهر أفريل''    عاجل/ ضحايا المجاعة في ارتفاع: استشهاد طفلة جوعا في غزة    الحكومة الإيرانية: نخوض المفاوضات مع واشنطن لأننا لا نرغب في نزاع جديد بالمنطقة    المأساة متواصلة: ولادة طفلة "بلا دماغ" في غزة!!    سيدي بوزيد: انقطاع الكهرباء في هذه المناطق    وفاة وليد مصطفى زوج كارول سماحة    بطولة الكويت : الدولي التونسي طه ياسين الخنيسي هداف مع فريقه الكويت    جندوبة: استعدادات لانجاح الموسم السياحي    قبل عيد الأضحى: وزارة الفلاحة تحذّر من أمراض تهدد الأضاحي وتصدر هذه التوصيات    التلفزيون الجزائري يهاجم الإمارات ويتوعدها ب"ردّ الصاع صاعين"    الولايات المتحدة توافق على بيع صواريخ بقيمة 3.5 مليار دولار للسعودية    السلطات الجزائرية توقف بث قناة تلفزيونية لمدة عشرة أيام    صُدفة.. اكتشاف أثري خلال أشغال بناء مستشفى بهذه الجهة    افتتاح مهرجان ربيع الفنون الدّولي بالقيروان    سعيّد يُسدي تعليماته بإيجاد حلول عاجلة للمنشآت المُهمّشة    الهند تحظر واردات كافة السلع من باكستان    التوقعات الجوية لليوم السبت    جلسة عمل بين وزير الرياضة ورئيسي النادي البنزرتي والنادي الإفريقي    ملكة جمال تونس 2025 تشارك في مسابقة ملكة جمال العالم بالهند    مهرجان «كنوز بلادي» بالكريب في دورته 3 معارض ومحاضرات وحفلات فنية بحديقة «ميستي» الاثرية    نصف نهائي كأس تونس لكرة اليد .. قمة واعدة بين النجم والساقية    تفاصيل الاحكام السجنية الصادرة في قضية "التسفير"    الدوريات الأوروبية.. نتائج مباريات اليوم    تونس: مواطنة أوروبية تعلن إسلامها بمكتب سماحة مفتي الجمهورية    تحسّن وضعية السدود    اللجنة العليا لتسريع انجاز المشاريع العمومية تأذن بالانطلاق الفوري في تأهيل الخط الحديدي بين تونس والقصرين    عاجل: بينهم علي العريض: أحكام سجنية بين 18 و36 سنة للمتهمين في قضية التسفير مع المراقبة الإدارية    القيروان: هلاك طفل ال 17 سنة في بحيرة جبلية!    الاتحاد الجهوي للفلاحة يقتحم عالم الصالونات والمعارض...تنظيم أول دورة للفلاحة والمياه والتكنولوجيات الحديثة    تونس تستعدّ لاعتماد تقنية نووية جديدة لتشخيص وعلاج سرطان البروستات نهاية 2025    اتخاذ كافة الإجراءات والتدابير لتأمين صابة الحبوب لهذا الموسم - الرئيسة المديرة العامة لديوان الحبوب    الليلة: أمطار رعدية بهذه المناطق..    جريمة قتل شاب بأكودة: الإطاحة بالقاتل ومشاركه وحجز كمية من الكوكايين و645 قرصا مخدرا    غرفة القصّابين: أسعار الأضاحي لهذه السنة ''خيالية''    منوبة: احتراق حافلة نقل حضري بالكامل دون تسجيل أضرار بشرية    سليانة: تلقيح 23 ألف رأس من الأبقار ضد مرض الجلد العقدي    فترة ماي جوان جويلية 2025 ستشهد درجات حرارة اعلى من المعدلات الموسمية    البنك المركزي التونسي: معدل نسبة الفائدة في السوق النقدية يستقر في حدود 7،50 بالمائة في أفريل 2025    أبرز ما جاء في زيارة رئيس الدولة لولاية الكاف..#خبر_عاجل    الجولة 28 في الرابطة الأولى: صافرات مغربية ومصرية تُدير أبرز مباريات    الرابطة المحترفة الثانية : تعيينات حكام مقابلات الجولة الثالثة والعشرين    الرابطة المحترفة الأولى (الجولة 28): العثرة ممنوعة لثلاثي المقدمة .. والنقاط باهظة في معركة البقاء    الأشهر الحرم: فضائلها وأحكامها في ضوء القرآن والسنة    صفاقس ؛افتتاح متميز لمهرجان ربيع الاسرة بعد انطلاقة واعدة من معتمدية الصخيرة    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    أولا وأخيرا: أم القضايا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإسلاميون والفنّ…
نشر في الشاهد يوم 12 - 01 - 2014

كان الفنّ وما يزال هو أرقى أشكال التّعبير الّتي رافقت الإنسان، منذ الأزل حتّى عصرنا الحديث. وعبر التّاريخ ترك لنا الفنّانون والمبدعون بصماتهم الفنّيّة الشّاهدة على عصرهم. فالفنّ منذ القدم أخذ مكانا في حياة الإنسان، البدائيّ والمعاصر على السّواء، واحتلّ حيّزا من اهتماماته. فقد حفظ لنا التّاريخ من خلال دراسة آثار القدماء: شعرا ورسما ونحتا وخطّا وعمارة ومسرحا وموسيقى…، أنّ كلّ الشّعوب كان لها نصيبها من الفنّ، وحظّها من الإبداع والجمال بما هو بهجة الحياة، ومتنفّس للرّوح والجسد خارج قيود الرّاهن والمباشر اليوميّ. والإنسان العربي ليس بدعا من هذه الشّعوب.
فقد حفلت مسيرة العربي بنمط من الفنون، رسم به حلّه وترحاله وأفراحه وأحزانه، في صراعه اليومي مع الطّبيعة، وفي انسجامه معها في هذه الحياة المملوءة بتقلّباتها وتناقضاتها. وتجلّى هذا من خلال الشّعر العربي القديم.
فالمعلّقات السّبع ولامية العرب وغيرها من الآثار الأدبيّة والشّعريّة الخارقة في زينتها ومتعتها… كانت قمّة في الإبداع وذروة من ذُرا القول.
إلى ذلك فكما كان لكلّ قبيلة عربيّة فرسان يدافعون عن حماها، فقد كان لها أيضا شعراء ينافحون عنها، ويخلّدون مآثرها بقصائدهم. ولا غرابة في هذا المناخ المنسجم مع البيان، أن يكون القرآن معجزة لغوية وبلاغيّة، تلقّفتها الصّحراء العربيّة الّتي أبدعت في القول، وتميّزت في التّعبير.
فجاء النّصّ القرآني كأعلى قمّة من قمم القول والبيان والتّعبير، تفاعل معه العرب ودخلوا في دين الله أفواجا. وخير شهادة على بلاغة القرآن، ما قاله الوليد بن المغيرة :" وَاللّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ مِنْ مُحَمَّدٍ آنِفًا كَلامًا، ما هُوَ مِنْ كَلامِ الْإِنْسِ، وَلا مِنْ كَلامِ الْجِنِّ! وَإِنَّ لَه لَحَلاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطُلاوَةً، وَإِنَّ أَعْلاهُ لَمُثْمِرٌ، وَإِنَّ أَسْفَلَه لَمُغْدِقٌ، وَإِنَّه يَعْلُو وَمَا يُعْلَى "!. لقد تميّزت في ذلك الحضارة العربيّة الإسلاميّة على كلّ الشّعوب.
فقد قال أبو حيان التّوحيدي عن العرب: " كان وَلَعُهم بالكلام أشدَّ من ولعِهم بكلِّ شيء، وكلُّ وَلَعٍ كان لهم بعد الكلام، فإنَّما كان بالكلام".
إن كلّ إبداعات العربيّ كانت بالكلام إمتاعا ومؤانسة، غزوا وترحالا، غزلا ونسيبا، عطشا وارتواء. فجداول العربيّ الجافّة من الماء، كانت تفيض بالقول والبيان.
فإن عطِش جاء القول ارتواء، وإن جاع حضر البيان غذاء. فقبل الإسلام امتلأت الصّحراء العربيّة بالشّعر، يتغنّى به الصّغير والكبير والمرأة والرّجل. وبعد الإسلام كانت المسيرة النبويّة حافلة باللّمسات الجماليّة. فالقرآن تحدّث عن الزّينة في سياقات قرآنيّة متعدّدة، نذكر منها قوله سبحانه: ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِيْنَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾1 وقوله تعالى: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾2 وقوله تعالى: ﴿ إِنّا زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِزِينَةِ الْكَواكِبِ﴾3 وقوله سبحانه: ﴿ وَزَيّنَا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ﴾4 وقوله تعالى: ﴿ وَالْخَيلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً﴾5.
ونختم بالآية التّاليّة﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِه﴾6.
إنّ الزّينة هي ما يجعل الحياة أجمل وأحلى، وأبعد عن الملل والرّتابة. فالفنّ زينة، والإبداع زينة، والسّينما زينة، والموسيقى زينة، والبيان زينة… ومن الزّينة ما يغذّي السّمع، ومنّها ما يغذّي البصر، ومنها ما يغذّي الحواس الأخرى.
فإن كانت الطّبيعة تتعرّى مع الخريف، وتتزيّن مع الرّبيع، فتترنّم طيورها وينساب خرير مياهها، فإنّ الإنسان أولى منها بهذه الزّينة، وهذه الحُلَل وهذه الأغاريد. فالزّينة بهجة للعين، ومتعة للقلب، وطرب للسّمع.
فالعين تبصر الجمال وتطرب له، والقلب يتأمّل الحسن ويترنّم به. والأذن تنتشي بالشّدو وتأنس به. فحتّى الإيمان زيّنه الله في قلوبنا وجمّله. فقد قال تعالى:﴿ وَلٰكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِليْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَه فِي قُلُوبِكُمْ﴾ 7. فالزّينة هي كلّ المحاسن الخارجيّة والدّاخليّة الّتي أبدعها الله وأحسن خلقها. وتصبح الزّينة تكليف على كلّ مسلم أن يقوم به، في قوله تعالى: ﴿ يَا بَنِي آدم خُذُوا زِيْنَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾8 .
ولا عجب أنّ الله تعالى حين خلقنا، قد أنعم علينا بهذه الحواس الخمس الّتي متى أُشبعت ارتوت، ومتى ذاقت عرفت، ومتى عرفت انسجمت مع هذا فطرتها الّتي فطرها الله عليها، واغترفت من كلّ جميل في الكون. فالله قد خلق فسوّى، ونظّم وقدّر، وأبدع وخلق في أحسن تقويم. ويتساءل المولى تعالى: ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِه﴾9. ففي صحبة هذا الجمال والإبداع والزّينة، نتوازن مع حياتنا أكثر فأكثر، ونسمو بمشاعرنا ونرتقي بأحاسيسنا، ونتطهّر من غبار الواقع اليوميّ ورتابته.
هكذا هي النّفس البشريّة ميّالة إلى الجميل، ذلك الجميل الّذي يسمو بها ويصفو، ويهذّبها من توحّشها ويزكّيها، يرتقي بها في كلّ حركاتها وسكانتها نحو الخير.
إنّنا أينما كنّا في تونس أو في الصّين، في فرنسا أو في أدغال الأمازون، في الهند أو الصّحراء أو في سيبيريا بحاجة إلى الفنّ والزّينة، بحاجة إلى الصّورة والإيقاع، بحاجة إلى الطّريف والظّريف. بحاجة إلى ما يثلج الصّدور ويريح الأعصاب، ويمنحنا ساعة من أنس مع مسلسل، أو فيلم أو أغنيّة أو رواية، أو جولة في معرض أو متحف… ينقلنا خارج الواقع المباشر وجفافه وقحطه، ويرسو بنا بعيدا عن تفاصيل الكدح اليوميّ الّذي يُتعب الرّوح، ويشُلّ الجسد، ويرهق الأحاسيس والمشاعر.
فالإنسان بتركيبته النّفسيّة والعاطفيّة والاجتماعيّة، بحاجة إلى زينة اللّباس وزينة المكان وزينة المركب وزينة الصُّحبة، بحاجة إلى زينة البيان وزينة البديع، بحاجة إلى زينة الإيقاع وزينة النّغم، بحاجة إلى زينة الصّورة واللّوحة، بحاجة إلى القصيدة والمسرحيّة، بحاجة إلى الأغنيّة والأنشودة والموسيقى… فلزخّات المطر إيقاعها وزينتها، ولزقزقة العصافير شدوها وجمالها، ولشلّالات المياه موسيقاها وجمالها… فالزّينة تجعل من حياتنا أكثر جمالا واعتدالا وهدوءا، وأحلى إبداعا وإمتاعا وعطاء. وكيف لا يلتقي الإنسان بربّه، في بيته وفي مسجده وفي بهو الحياة الشّاسع، وهو لم يأخذ زينته من لباس وطيب وقول…! ففي حديث أخرجه البخاري ومسلم، أنّ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، خشع، وهو يستمع لأبي موسى الأشعريّ ذات ليلة يقرأ القرآن. ثم قال له في الصّباح :" لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك، لقد أُوتيت مزمارا من مزامير آل داود" .
فيقول أبو موسى: " لو كنت أعلم أنّك تستمع لي لحبّرته لك تحبيرا. أي : جوّدته وحسّنته وجمّلته". فأي نفس لا تخشع وهي تستمع إلى الصّوت الحسن المجوّد الجميل. ولا سيما إذا كان كلام الله ربّ العالمين.
وفي سياق آخر يقول الرّسول لمن حوله: "إنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْراً "، وهو يستمع لقصيدة كعب بن زهير، تلك الّتي يمدح فيها الرّسول.
فيقول في مطلعها: بانَتْ سُعادُ فَقَلْبي اليَوْمَ مَتْبولُ مُتَيَّمٌ إثْرَها لم يُفَدْ مَكْبولُ إنّنا نجد الرّسول يطرب للقصيدة وينفعل بجمالها. فيخلع بردته على كعب.
وتُسمّى القصيدة بعد ذلك ب"البردة". وليست هذه الوقفة الوحيدة للرّسول مع البيان والجمال. فمن يتتبّع سنّته يجد للرّسول وقفات كثيرة مع اللّمسات الجميلة في حياته الخاصّة والعامّة. فالزّينة في القول واللّباس والمودّة والإحسان، كانت سلوكا يوميّا في حياة الرّسول.
فسمح لعائشة، رضي الله عنها، أن تشاهد رقص الأحباش ولعبهم في المسجد. وفي سياق آخر يقول لعائشة: لِمَ لم ترسلي مع العروس غناء ومغنيات، فإنّ الأنصار قوم يحبّون اللّهو (الغناء)"، بل يتطوّع ويقول ما يمكن أن نسمّيه مطلع أنشودة " أتيناكم أتيناكم…".
والآن يقول قائل معترضا: إنّ فهم الإسلام للفنّ، ليس هو بالضّرورة فهم الإسلاميين. فالإسلام متقدّم على فهم الإسلاميين. فبعد الثّورات العربيّة انتقلنا من انحطاط الفنّ في عهد الطّواغيت، إلى تحريم الفنّ في عهد السّلفيين، فلا زينة تُزهر، ولا فنّ يبهر في أرض الإسلاميين الجدباء، والموسومة بالخطوط الحمراء والملغومة بالممنوعات والتّكفير.
فأيّ فنّ هذا الّذي سيزهر في تربة قاحلة، تكره الصّورة وتسجنها، وتمنع الأغنيّة وتكفّرها، وتُبَدّع الكلمة الجميلة وتصادرها، وتمنع الموسيقى وتنهى عنها، ولا تكترث بالمبدعين والفنّانين، فهم فجرة وكفرة وأعوان للشّيطان، لا يُصلحون ولا يُرتجى صلاحهم. هكذا يُروّج خصوم الإسلاميين، لهذه المقولات في منابرهم الإعلاميّة، وعلى صفحات كتبهم ومجلّاتهم وفضائياتهم.
ويضربون أمثلة على ذلك بما وقع للكاتب الكبير نجيب محفوظ حين طُعن. وما وقع للمخرج مصطفى عبّاس العقّاد، فقد قُتل في تفجير إحدى الفنادق بالعاصمة عمّان. ومواقع الانترنت مملوءة بفتاوى التّكفير والقتل، قد صدرت في الكثير من الفنّانين والفنّانات في تونس ومصر والجزائر… فهل هذا هو واقع الحال مع الإبداع في مروج الإسّلاميّين، رموزا مستقلة كانت أو حركات إسلاميّة منظمة أو غير منظّمة، خاصّة وقد صار البعض منهم اليوم يحكم ويسوس، ويُشرّع ويرسم السّياسات والبرامج ويضع الخطط لبلدان الرّبيع العربيّ.
ثّم وهذا الأهمّ والّذي سيُبنى عليه مستقبل ثورات الرّبيع العربيّ، هو هل للفنّ والإبداع والمشهد الجماليّ، نصيب من اهتمامات الإسلاميين، وهم يكتبون الدّستور ويتولّون الأمور؟. فماذا هم فاعلون؟. إن كان هذا الرّأي بأنّ لا فنّ يبهر ويزهر في أرض الإسلاميين الجدباء، كذبا وافتراء وتحاملا على الحركات الإسّلاميّة ورموزها. وإن لم يكن ذلك كذلك.
فماذا قدّم الإسّلاميون للفنّ ممارسة وتنظيرا، نصّا ونقدا، إبداعا وجمالا، وهم موجودون على السّاحة منذ العشرينات من القرن الماضي؟ أي ما نصيبهم من الإبداع في الرّواية والشّعر، والسّينما والمسلسلات والموسيقى والرّسم وباقي الفنون.؟.
يقول البعض أيضا: إنّ الإسلاميّين لا يعرفون معنى الإبداع ولا قيمة الفنّ، وإنّ مفاهيمهم ورؤاهم للفنون مُحنّطة، بفعل نصوصهم الفقهيّة المعادية للفنّ والجمال، والّتي يستندون عليها، ويتحرّكون في أفق انتظارها. فهم لا يُتقنون فنّا من الفنون، بقدر ما يتقنون سلّ سيوف التّحريم والتّجريم، على كلّ عمل روائيّا أو سينمائيّا أو مسرحيّا… ثائر على مفاهيمهم، ومُتمرّد على ثوابتهم وطقوسهم، ولا يستجيب لتخلّفهم ونظرتهم القاصرة لهذه الفنون.
فكم من شاعر كفّروه، وكم من مبدع زندقوه، وكم من كاتب سحلوه بألسنتهم وأقلامهم، ضمن ردّات فعل هوجاء لا مبرّر لها، ردّات فعل يشعل لهيبها شيوخ الفضائيات ودعاتها، وتجعل منها جماهير المسلمين حرائق تلتهم الأخضر واليابس. فكان مصير الكثير من المبدعين المنافي، بسببهم وبسبب مُظاهراتهم وتهديداتهم. فهم لا يعرفون لغة النّقد، ولا يجيدون أدب التّحاور والأخذ والعطاء، ولا يتذوّقون الإبداع والفنّ.
ففاقد الشّيء لا يعطيه. ويُدلّل هؤلاء المنتقدون للإسلاميّين، بأنّه إذا تعلّل الإسلاميون بأنّهم محاصرون في أوطانهم، ممّا لا يمكّنهم من بسط رؤاهم في هكذا فنّ من الفنون. فها قد مرّ عليهم أكثر من نصف قرن، وهم موجودون في الغرب المتحرّك بكلّ الفنون، والعامر بكلّ الثّقافات. ورغم إمكانيات الإسّلاميّين الماديّة وزخمهم البشريّ، إلّا أنّهم لم ينتجوا أعمالا فنيّة تُذكر على سبيل المثال، تشهد لهم بحبّهم للفنون، وتُفنّد حُجج خصومهم في أنّهم أعداء للفنّ والفنّانين وتَدْحَضُها.
ويواصل آخر: إذا كان قد وقع تكميم أفواه الإسلاميين في دولهم وتقييد أقلامهم، فأعطوني عملا إبداعيا واحدا أنتجه الإسلاميون في الغرب، استطاع أن يجسّد حبّهم للفنون، ويعكس حقيقة رؤيتهم وعلاقتهم بالإبداع الفنّي، هذا المجال الّذي تعطيه باقي الشّعوب والأمم والحكومات، نصيبا هائلا من اهتماماتها وإمكانياتها الماديّة والمعنوية، بل وتنفق المليارات في تصوير الأفلام والمسلسلات، وتشييد المتاحف وبرمجة المعارض على كامل شهور السّنة!. في المقابل، هناك من يعترض على هذا الإدّعاء والافتراء، ويبرئ الإسلاميين من هذا التّصنيف في خندق أعداء الفنّ… فيسأل: كيف يُتّهم الإسّلاميون بعدم وضوح رؤيتهم للفنّ والإبداع، وهم مطاردون في اللّيل قبل النّهار، ولم تخلُ السّجون منهم منذ ظهروا للنّاس، وتواجدوا على السّاحة، لا في الشّرق الّذي هربوا منه، ولا في الغرب الّذي هربوا إليه؟ فكيف لمن لم يأمن على أفكاره وحياته وأطفاله، وهو من سجن لسجن ومن مطاردة لمطاردة، أن يفكّر في الفنّ والإبداع والجمال، وهو متخطّف من سربه ومن بين عائلته، لا يأمن على نفسه وأهله.
وإنّما الفنّ والإبداع والجمال وليد أجواء هادئة، ومراكمات في التّجربة والخطاب والوجدان، ومحيط يلبّي شروط البيان والجمال والبديع، ويجعل الإنسان المسلم قادرا على الإبداع والابتكار والتّوليد؟. ويواصل في نفس السّياق آخر: إنّه من الحيف أن نعدم كلّ إضافة للإسلاميين في مجال الفنون والإبداع، فهذه مجلة المشكاة المغربية، وهذه مجلة إسلاميّة المعرفة الأمريكية، وهذه مجلة الأدب الإسلامي السّعودية، وهذه مكتباتهم في الغرب مملوءة بالأفلام الكرتونيّة وخير دليل على ذلك" فيلم محمّد آخر الأنبياء The last prophet" الّذي تمّ إنتاجه سنة 2004 في أمريكا، وهذه أغاني سامي يوسف، تملأ مكتبات الشّرق والغرب، وهذا مهرجان الشّارقة الإنشاديّ كلّ عام… وهذه فرق الرّاب الإسلاميّة، وهذه فرق موسيقيّة أخرى ومسرحيّة تملأ الفضائيات، وتُبثّ في أغلب القنوات، وهذه عشرات الرّوايات والدّواوين نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر روايات نجيب الكيلاني وحميدة قطب ومسرحيات عماد الديّن خليل ودواوين حسن الأمراني وأمينة قطب وأحمد مطر وبحري العرفاوي… وهذه الفرق الموسيقيّة : فرقة الشّمس وفرقة عشّاق الوطن… وهذا كلّه غيض من فيض من مجالات فنّيّة متعدّدة، قد تزينت بمساهمات الإسلاميين في القصّة والرّواية والشّعر والأناشيد والخطّ العربيّ وفنّ العمارة… ويمكن العودة إلى أيّام الأستاذ حسن البنّا، وكيف أولى اهتماما كبيرا بالمسرح، كفن من الفنون الّتي تقترب جدّا من هموم المواطن، فتعكس مشاغله وتقول أوجاعه وأفراحه. فقد أدرك حسن البنا رحمه الله أثر الفنون والّتي كان المسرح على رأسها آنذاك. فعمل على بعث " الفرقة المسرحيّة لجماعة الإخوان " وفرق أخرى بروح وفلسفة جديدة، في تناول متميّز لهموم المواطن.
فوجد المسرح الإسلاميّ في زمن قصير، مكانه في قلوب النّاس، ومكانه في أكبر مسارح القاهرة. وأدّت الفرقة ثماني مسرحيات. ووصل الأمر بالإذاعة إلى نقل هذه المسرحيات على الهواء مباشرة. ولو تمعّنا في المشهد الفنّي في غزّة الّتي يديرها الإسلاميون، لوجدنا أنّ الفنّ الإنشاديّ قد تطوّر ورافق المشهد الثّوري ضدّ الاحتلال… فهل بعد كلّ هذا يُنعت الإسلاميون بكره الفنّ واستعداء الفنّانين!؟. والآن بعيدا عن القول والقول المضاد، والرأي والرأي الآخر، وقد وصل الإسلاميون للحكم، في تونس ومصر لولا الانقلاب عليهم وليبيا والمغرب واليمن…، بنفس وعي الإمام حسن البنا؟. وهل سيثبتون للعالم وللنّاس أنّهم عشّاق للفنّ، ويدحضون بذلك دعاوى خصومهم بأنّهم أعداء للجمال والفنون؟. فلقد كان الإسلاميون لسنوات طويلة، هم ضحايا الفنّ الّذي تحالف رموزه مع الدّيكتاتوريّة، كما كانوا ذات يوم، ومازالوا ضحايا أنظمة، كانت تستثمر الفنّ والإبداع في تشويههم والتّشنيع بهم، بتصويرهم وحوشا وشاذّين ودمويين وقتلة وإرهابيين.
يكفي مثالا لذلك أفلام عادل إمام : " الإرهابي" و"الإرهاب و الكباب "… ولعلّ ما جرى في مصر ويجري الآن بعد مجزرة رابعة والنّهضة أكبر شهادة، وأبلغ دليل على تخندق الفنّانين في الجبهة المعاديّة للإسلاميين وأنصارهم. ولهذا كان لزاما أن ننبّه إلى الاهتمام والتفطّن إلى دور الفنّ في حياة الشّعوب.
فهو سلاح ذو حدّين يمكن أن تنتصر به إذا أحسنت التّعامل معه وترقى به وتسعد، ويمكن أن يكون هذا السلاح قاتلا في نفس الوقت، إذا أهملته ولم تكن لك استراتجيّة واضحة في التّعامل معه.الأستاذ عبد الحفيظ خميري


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.