ترامب يعقد اجتماعا لفريق الأمن القومي بشأن الحرب الإسرائيلية ضد إيران    قافلة "الصمود" تتوقف في سرت وتتمسك بالإفراج عن المحتجزين قبل العودة إلى تونس    مونديال كرة اليد الشاطئية للاصاغر والصغريات - اليوم الاول - تونس تفوز على المكسيك في الذكور والاناث    حالة الطقس هذه الليلة    خلال 6 أشهر: تونس تصدّر 195 ألف طن من زيت الزيتون نحو اكثر من 60 دولة.. #خبر_عاجل    إيران: الساعات القادمة ستشهد هجمات شرسة ضدّ إسرائيل    وزارة التجارة تدعو تجار التسويق والترويج عبر قنوات التوزيع الالكترونية إلى اعلام المستهلك بتفاصيل العروض المقترحة    ضاحية مونمارتر تحتضن معرض فني مشترك بين فنانة تونسية وفنانة مالية    صفاقس: تنظيم يوم الأبواب المفتوحة بمركز التكوين والتدريب المهني بسيدي منصور للتعريف بالمركز والإختصاصات التي يوفرها    الرئيس الأمريكي دونالد ترامب: نعرف تماما أين يختبئ المرشد الأعلى ولكن لن نقضي عليه الآن    "عليسة تحتفي بالموسيقى " يومي 20 و 21 جوان بمدينة الحمامات    باجة: اعادة اكثار واحياء قرابة 5 الاف صنف من الحبوب بنجاح    الدورة الأولى لتظاهرة "لقاءات توزر: الرواية والمسرح" يومي 27 و28    ماهر الكنزاري: ''لا ألوم اللاعبين على الخسارة، بل أنا فخور بالروح التي أظهروها داخل الملعب''    حياتي في الصحافة من الهواية الى الاحتراف    اصدارات جديدة لليافعين والاطفال بقلم محمود حرشاني    شنيا الماكلة اللي تنفع أو تضرّ أهم أعضاء بدنك؟    الملعب التونسي يعزز صفوفه بالحارس نور الدين الفرحاتي    الاتفاق على احداث لجنة قيادة وبرنامج وطني لتفعيل "إعلان قرطاج" للصحّة الواحدة    إيران تعتقل عميلا للموساد الإسرائيلي    تحذير طبي: خطر الاستحمام بالماء الساخن قد يصل إلى الإغماء والموت!    المنتخب التونسي يشارك في بطولة افريقيا للرقبي السباعي بالموريس يومي 21 و 22 جوان الجاري    منوبة: فتح الجزء الثاني من الطريق الحزامية " اكس 20 " بولاية منوبة    قفصة : حلول الرحلة الثانية لحجيج الولاية بمطار قفصة قصر الدولي وعلى متنها 256 حاجا وحاجة    ملتقى تونس الدولي للبارا ألعاب القوى: العناصر التونسية تحرز 9 ميداليات من بينها 5 ذهبيات    المائدة التونسية في رأس السنة الهجرية: أطباق البركة والخير    الكاف: تطوير القطاع الصحي بتدعيم طب الاختصاص وتوفير تجهيزات متطورة (المدير الجهوي للصحة)    تونس ترشّح صبري باش طبجي لقيادة منظمة حظر الأسلحة الكيميائية    بشرى للمسافرين: أجهزة ذكية لمكافحة تزوير''البطاقة البرتقالية'' في المعابر مع الجزائر وليبيا    بُشرى للفلاحين: انطلاق تزويد المناطق السقوية بمنوبة بمياه الري الصيفية    الحرس الثوري: استهدفنا مقر الموساد في تل أبيب وهو يحترق الآن (فيديو)    عاجل/ ايران تشن موجة جديدة من الهجمات الشرسة ضد الكيان الصهيوني..    عاجل : ''طيران الإمارات'' تمدد تعليق رحلاتها إلى 4 دول    تعرفش علاش الدلاع مهم بعد ''Sport''؟    الدورة 12 من الملتقى الوطني للأدب التجريبي يومي 21 و 22 جوان بالنفيضة    الصين تتهم ترامب ب"صب الزيت على النار"    تحويلات التونسيين والسياحة تغطي أكثر من 80٪ من الديون الخارجية    الحماية المدنية : إطفاء 192 حريقا خلال ال 24 ساعة الماضية    كأس العالم للأندية : برنامج مباريات اليوم الثلاثاء    عاجل/ رئيس الدولة يفجرها: "لا أحد فوق المساءلة والقانون..ولا مجال للتردّد في إبعاد هؤلاء.."    6 سنوات سجنا لنائب سابق من أجل الإثراء غير المشروع    أبرز ما جاء في لقاء رئيس الدولة بوزيري الشؤون الاجتماعية والاتصال..    موعد إعلان نتائج البكالوريا 2025 تونس: كل ما تحتاج معرفته بسهولة    الطقس اليوم: حرارة مرتفعة..وأمطار مرتقبة بهذه الجهات..    مطار طبرقة عين دراهم الدولي يستأنف نشاطه الجوي..    عدد ساعات من النوم خطر على قلبك..دراسة تفجرها وتحذر..    كأس العالم للأندية: الترجي الرياضي ينهزم أمام نادي فلامينغو البرازيلي    كاس العالم للاندية : فلامنغو البرازيلي يجسم افضليته ويتفوق على الترجي بثنائية نظيفة    المندوبية الجهوية للتربية بمنوبةالمجلة الالكترونية «رواق»... تحتفي بالمتوّجين في الملتقيات الجهوية    الكوتش وليد زليلة يكتب .. طفلي لا يهدأ... هل هو مفرط الحركة أم عبقري صغير؟    يهم اختصاصات اللغات والرياضيات والكيمياء والفيزياء والفنون التشكيلية والتربية الموسيقية..لجنة من سلطنة عُمان في تونس لانتداب مُدرّسين    تونس تحتضن من 16 الى 18 جوان المنتدى الإقليمي لتنظيم الشراء في المجال الصحي بمشاركة خبراء وشركاء من شمال إفريقيا والمنطقة العربية    عاجل : عطلة رأس السنة الهجرية 2025 رسميًا للتونسيين (الموعد والتفاصيل)    القيروان: 2619 مترشحا ومترشحة يشرعون في اجتياز مناظرة "السيزيام" ب 15 مركزا    خبر سارّ: تراجع حرارة الطقس مع عودة الامطار في هذا الموعد    قافلة الصمود فعل رمزي أربك الاحتلال وكشف هشاشة الأنظمة    ملف الأسبوع .. أحبُّ الناس إلى الله أنفعُهم للناس    طواف الوداع: وداعٌ مهيب للحجيج في ختام مناسك الحج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإسلاميون والفنّ…
نشر في الشاهد يوم 12 - 01 - 2014

كان الفنّ وما يزال هو أرقى أشكال التّعبير الّتي رافقت الإنسان، منذ الأزل حتّى عصرنا الحديث. وعبر التّاريخ ترك لنا الفنّانون والمبدعون بصماتهم الفنّيّة الشّاهدة على عصرهم. فالفنّ منذ القدم أخذ مكانا في حياة الإنسان، البدائيّ والمعاصر على السّواء، واحتلّ حيّزا من اهتماماته. فقد حفظ لنا التّاريخ من خلال دراسة آثار القدماء: شعرا ورسما ونحتا وخطّا وعمارة ومسرحا وموسيقى…، أنّ كلّ الشّعوب كان لها نصيبها من الفنّ، وحظّها من الإبداع والجمال بما هو بهجة الحياة، ومتنفّس للرّوح والجسد خارج قيود الرّاهن والمباشر اليوميّ. والإنسان العربي ليس بدعا من هذه الشّعوب.
فقد حفلت مسيرة العربي بنمط من الفنون، رسم به حلّه وترحاله وأفراحه وأحزانه، في صراعه اليومي مع الطّبيعة، وفي انسجامه معها في هذه الحياة المملوءة بتقلّباتها وتناقضاتها. وتجلّى هذا من خلال الشّعر العربي القديم.
فالمعلّقات السّبع ولامية العرب وغيرها من الآثار الأدبيّة والشّعريّة الخارقة في زينتها ومتعتها… كانت قمّة في الإبداع وذروة من ذُرا القول.
إلى ذلك فكما كان لكلّ قبيلة عربيّة فرسان يدافعون عن حماها، فقد كان لها أيضا شعراء ينافحون عنها، ويخلّدون مآثرها بقصائدهم. ولا غرابة في هذا المناخ المنسجم مع البيان، أن يكون القرآن معجزة لغوية وبلاغيّة، تلقّفتها الصّحراء العربيّة الّتي أبدعت في القول، وتميّزت في التّعبير.
فجاء النّصّ القرآني كأعلى قمّة من قمم القول والبيان والتّعبير، تفاعل معه العرب ودخلوا في دين الله أفواجا. وخير شهادة على بلاغة القرآن، ما قاله الوليد بن المغيرة :" وَاللّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ مِنْ مُحَمَّدٍ آنِفًا كَلامًا، ما هُوَ مِنْ كَلامِ الْإِنْسِ، وَلا مِنْ كَلامِ الْجِنِّ! وَإِنَّ لَه لَحَلاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطُلاوَةً، وَإِنَّ أَعْلاهُ لَمُثْمِرٌ، وَإِنَّ أَسْفَلَه لَمُغْدِقٌ، وَإِنَّه يَعْلُو وَمَا يُعْلَى "!. لقد تميّزت في ذلك الحضارة العربيّة الإسلاميّة على كلّ الشّعوب.
فقد قال أبو حيان التّوحيدي عن العرب: " كان وَلَعُهم بالكلام أشدَّ من ولعِهم بكلِّ شيء، وكلُّ وَلَعٍ كان لهم بعد الكلام، فإنَّما كان بالكلام".
إن كلّ إبداعات العربيّ كانت بالكلام إمتاعا ومؤانسة، غزوا وترحالا، غزلا ونسيبا، عطشا وارتواء. فجداول العربيّ الجافّة من الماء، كانت تفيض بالقول والبيان.
فإن عطِش جاء القول ارتواء، وإن جاع حضر البيان غذاء. فقبل الإسلام امتلأت الصّحراء العربيّة بالشّعر، يتغنّى به الصّغير والكبير والمرأة والرّجل. وبعد الإسلام كانت المسيرة النبويّة حافلة باللّمسات الجماليّة. فالقرآن تحدّث عن الزّينة في سياقات قرآنيّة متعدّدة، نذكر منها قوله سبحانه: ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِيْنَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾1 وقوله تعالى: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾2 وقوله تعالى: ﴿ إِنّا زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِزِينَةِ الْكَواكِبِ﴾3 وقوله سبحانه: ﴿ وَزَيّنَا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ﴾4 وقوله تعالى: ﴿ وَالْخَيلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً﴾5.
ونختم بالآية التّاليّة﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِه﴾6.
إنّ الزّينة هي ما يجعل الحياة أجمل وأحلى، وأبعد عن الملل والرّتابة. فالفنّ زينة، والإبداع زينة، والسّينما زينة، والموسيقى زينة، والبيان زينة… ومن الزّينة ما يغذّي السّمع، ومنّها ما يغذّي البصر، ومنها ما يغذّي الحواس الأخرى.
فإن كانت الطّبيعة تتعرّى مع الخريف، وتتزيّن مع الرّبيع، فتترنّم طيورها وينساب خرير مياهها، فإنّ الإنسان أولى منها بهذه الزّينة، وهذه الحُلَل وهذه الأغاريد. فالزّينة بهجة للعين، ومتعة للقلب، وطرب للسّمع.
فالعين تبصر الجمال وتطرب له، والقلب يتأمّل الحسن ويترنّم به. والأذن تنتشي بالشّدو وتأنس به. فحتّى الإيمان زيّنه الله في قلوبنا وجمّله. فقد قال تعالى:﴿ وَلٰكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِليْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَه فِي قُلُوبِكُمْ﴾ 7. فالزّينة هي كلّ المحاسن الخارجيّة والدّاخليّة الّتي أبدعها الله وأحسن خلقها. وتصبح الزّينة تكليف على كلّ مسلم أن يقوم به، في قوله تعالى: ﴿ يَا بَنِي آدم خُذُوا زِيْنَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾8 .
ولا عجب أنّ الله تعالى حين خلقنا، قد أنعم علينا بهذه الحواس الخمس الّتي متى أُشبعت ارتوت، ومتى ذاقت عرفت، ومتى عرفت انسجمت مع هذا فطرتها الّتي فطرها الله عليها، واغترفت من كلّ جميل في الكون. فالله قد خلق فسوّى، ونظّم وقدّر، وأبدع وخلق في أحسن تقويم. ويتساءل المولى تعالى: ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِه﴾9. ففي صحبة هذا الجمال والإبداع والزّينة، نتوازن مع حياتنا أكثر فأكثر، ونسمو بمشاعرنا ونرتقي بأحاسيسنا، ونتطهّر من غبار الواقع اليوميّ ورتابته.
هكذا هي النّفس البشريّة ميّالة إلى الجميل، ذلك الجميل الّذي يسمو بها ويصفو، ويهذّبها من توحّشها ويزكّيها، يرتقي بها في كلّ حركاتها وسكانتها نحو الخير.
إنّنا أينما كنّا في تونس أو في الصّين، في فرنسا أو في أدغال الأمازون، في الهند أو الصّحراء أو في سيبيريا بحاجة إلى الفنّ والزّينة، بحاجة إلى الصّورة والإيقاع، بحاجة إلى الطّريف والظّريف. بحاجة إلى ما يثلج الصّدور ويريح الأعصاب، ويمنحنا ساعة من أنس مع مسلسل، أو فيلم أو أغنيّة أو رواية، أو جولة في معرض أو متحف… ينقلنا خارج الواقع المباشر وجفافه وقحطه، ويرسو بنا بعيدا عن تفاصيل الكدح اليوميّ الّذي يُتعب الرّوح، ويشُلّ الجسد، ويرهق الأحاسيس والمشاعر.
فالإنسان بتركيبته النّفسيّة والعاطفيّة والاجتماعيّة، بحاجة إلى زينة اللّباس وزينة المكان وزينة المركب وزينة الصُّحبة، بحاجة إلى زينة البيان وزينة البديع، بحاجة إلى زينة الإيقاع وزينة النّغم، بحاجة إلى زينة الصّورة واللّوحة، بحاجة إلى القصيدة والمسرحيّة، بحاجة إلى الأغنيّة والأنشودة والموسيقى… فلزخّات المطر إيقاعها وزينتها، ولزقزقة العصافير شدوها وجمالها، ولشلّالات المياه موسيقاها وجمالها… فالزّينة تجعل من حياتنا أكثر جمالا واعتدالا وهدوءا، وأحلى إبداعا وإمتاعا وعطاء. وكيف لا يلتقي الإنسان بربّه، في بيته وفي مسجده وفي بهو الحياة الشّاسع، وهو لم يأخذ زينته من لباس وطيب وقول…! ففي حديث أخرجه البخاري ومسلم، أنّ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، خشع، وهو يستمع لأبي موسى الأشعريّ ذات ليلة يقرأ القرآن. ثم قال له في الصّباح :" لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك، لقد أُوتيت مزمارا من مزامير آل داود" .
فيقول أبو موسى: " لو كنت أعلم أنّك تستمع لي لحبّرته لك تحبيرا. أي : جوّدته وحسّنته وجمّلته". فأي نفس لا تخشع وهي تستمع إلى الصّوت الحسن المجوّد الجميل. ولا سيما إذا كان كلام الله ربّ العالمين.
وفي سياق آخر يقول الرّسول لمن حوله: "إنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْراً "، وهو يستمع لقصيدة كعب بن زهير، تلك الّتي يمدح فيها الرّسول.
فيقول في مطلعها: بانَتْ سُعادُ فَقَلْبي اليَوْمَ مَتْبولُ مُتَيَّمٌ إثْرَها لم يُفَدْ مَكْبولُ إنّنا نجد الرّسول يطرب للقصيدة وينفعل بجمالها. فيخلع بردته على كعب.
وتُسمّى القصيدة بعد ذلك ب"البردة". وليست هذه الوقفة الوحيدة للرّسول مع البيان والجمال. فمن يتتبّع سنّته يجد للرّسول وقفات كثيرة مع اللّمسات الجميلة في حياته الخاصّة والعامّة. فالزّينة في القول واللّباس والمودّة والإحسان، كانت سلوكا يوميّا في حياة الرّسول.
فسمح لعائشة، رضي الله عنها، أن تشاهد رقص الأحباش ولعبهم في المسجد. وفي سياق آخر يقول لعائشة: لِمَ لم ترسلي مع العروس غناء ومغنيات، فإنّ الأنصار قوم يحبّون اللّهو (الغناء)"، بل يتطوّع ويقول ما يمكن أن نسمّيه مطلع أنشودة " أتيناكم أتيناكم…".
والآن يقول قائل معترضا: إنّ فهم الإسلام للفنّ، ليس هو بالضّرورة فهم الإسلاميين. فالإسلام متقدّم على فهم الإسلاميين. فبعد الثّورات العربيّة انتقلنا من انحطاط الفنّ في عهد الطّواغيت، إلى تحريم الفنّ في عهد السّلفيين، فلا زينة تُزهر، ولا فنّ يبهر في أرض الإسلاميين الجدباء، والموسومة بالخطوط الحمراء والملغومة بالممنوعات والتّكفير.
فأيّ فنّ هذا الّذي سيزهر في تربة قاحلة، تكره الصّورة وتسجنها، وتمنع الأغنيّة وتكفّرها، وتُبَدّع الكلمة الجميلة وتصادرها، وتمنع الموسيقى وتنهى عنها، ولا تكترث بالمبدعين والفنّانين، فهم فجرة وكفرة وأعوان للشّيطان، لا يُصلحون ولا يُرتجى صلاحهم. هكذا يُروّج خصوم الإسلاميين، لهذه المقولات في منابرهم الإعلاميّة، وعلى صفحات كتبهم ومجلّاتهم وفضائياتهم.
ويضربون أمثلة على ذلك بما وقع للكاتب الكبير نجيب محفوظ حين طُعن. وما وقع للمخرج مصطفى عبّاس العقّاد، فقد قُتل في تفجير إحدى الفنادق بالعاصمة عمّان. ومواقع الانترنت مملوءة بفتاوى التّكفير والقتل، قد صدرت في الكثير من الفنّانين والفنّانات في تونس ومصر والجزائر… فهل هذا هو واقع الحال مع الإبداع في مروج الإسّلاميّين، رموزا مستقلة كانت أو حركات إسلاميّة منظمة أو غير منظّمة، خاصّة وقد صار البعض منهم اليوم يحكم ويسوس، ويُشرّع ويرسم السّياسات والبرامج ويضع الخطط لبلدان الرّبيع العربيّ.
ثّم وهذا الأهمّ والّذي سيُبنى عليه مستقبل ثورات الرّبيع العربيّ، هو هل للفنّ والإبداع والمشهد الجماليّ، نصيب من اهتمامات الإسلاميين، وهم يكتبون الدّستور ويتولّون الأمور؟. فماذا هم فاعلون؟. إن كان هذا الرّأي بأنّ لا فنّ يبهر ويزهر في أرض الإسلاميين الجدباء، كذبا وافتراء وتحاملا على الحركات الإسّلاميّة ورموزها. وإن لم يكن ذلك كذلك.
فماذا قدّم الإسّلاميون للفنّ ممارسة وتنظيرا، نصّا ونقدا، إبداعا وجمالا، وهم موجودون على السّاحة منذ العشرينات من القرن الماضي؟ أي ما نصيبهم من الإبداع في الرّواية والشّعر، والسّينما والمسلسلات والموسيقى والرّسم وباقي الفنون.؟.
يقول البعض أيضا: إنّ الإسلاميّين لا يعرفون معنى الإبداع ولا قيمة الفنّ، وإنّ مفاهيمهم ورؤاهم للفنون مُحنّطة، بفعل نصوصهم الفقهيّة المعادية للفنّ والجمال، والّتي يستندون عليها، ويتحرّكون في أفق انتظارها. فهم لا يُتقنون فنّا من الفنون، بقدر ما يتقنون سلّ سيوف التّحريم والتّجريم، على كلّ عمل روائيّا أو سينمائيّا أو مسرحيّا… ثائر على مفاهيمهم، ومُتمرّد على ثوابتهم وطقوسهم، ولا يستجيب لتخلّفهم ونظرتهم القاصرة لهذه الفنون.
فكم من شاعر كفّروه، وكم من مبدع زندقوه، وكم من كاتب سحلوه بألسنتهم وأقلامهم، ضمن ردّات فعل هوجاء لا مبرّر لها، ردّات فعل يشعل لهيبها شيوخ الفضائيات ودعاتها، وتجعل منها جماهير المسلمين حرائق تلتهم الأخضر واليابس. فكان مصير الكثير من المبدعين المنافي، بسببهم وبسبب مُظاهراتهم وتهديداتهم. فهم لا يعرفون لغة النّقد، ولا يجيدون أدب التّحاور والأخذ والعطاء، ولا يتذوّقون الإبداع والفنّ.
ففاقد الشّيء لا يعطيه. ويُدلّل هؤلاء المنتقدون للإسلاميّين، بأنّه إذا تعلّل الإسلاميون بأنّهم محاصرون في أوطانهم، ممّا لا يمكّنهم من بسط رؤاهم في هكذا فنّ من الفنون. فها قد مرّ عليهم أكثر من نصف قرن، وهم موجودون في الغرب المتحرّك بكلّ الفنون، والعامر بكلّ الثّقافات. ورغم إمكانيات الإسّلاميّين الماديّة وزخمهم البشريّ، إلّا أنّهم لم ينتجوا أعمالا فنيّة تُذكر على سبيل المثال، تشهد لهم بحبّهم للفنون، وتُفنّد حُجج خصومهم في أنّهم أعداء للفنّ والفنّانين وتَدْحَضُها.
ويواصل آخر: إذا كان قد وقع تكميم أفواه الإسلاميين في دولهم وتقييد أقلامهم، فأعطوني عملا إبداعيا واحدا أنتجه الإسلاميون في الغرب، استطاع أن يجسّد حبّهم للفنون، ويعكس حقيقة رؤيتهم وعلاقتهم بالإبداع الفنّي، هذا المجال الّذي تعطيه باقي الشّعوب والأمم والحكومات، نصيبا هائلا من اهتماماتها وإمكانياتها الماديّة والمعنوية، بل وتنفق المليارات في تصوير الأفلام والمسلسلات، وتشييد المتاحف وبرمجة المعارض على كامل شهور السّنة!. في المقابل، هناك من يعترض على هذا الإدّعاء والافتراء، ويبرئ الإسلاميين من هذا التّصنيف في خندق أعداء الفنّ… فيسأل: كيف يُتّهم الإسّلاميون بعدم وضوح رؤيتهم للفنّ والإبداع، وهم مطاردون في اللّيل قبل النّهار، ولم تخلُ السّجون منهم منذ ظهروا للنّاس، وتواجدوا على السّاحة، لا في الشّرق الّذي هربوا منه، ولا في الغرب الّذي هربوا إليه؟ فكيف لمن لم يأمن على أفكاره وحياته وأطفاله، وهو من سجن لسجن ومن مطاردة لمطاردة، أن يفكّر في الفنّ والإبداع والجمال، وهو متخطّف من سربه ومن بين عائلته، لا يأمن على نفسه وأهله.
وإنّما الفنّ والإبداع والجمال وليد أجواء هادئة، ومراكمات في التّجربة والخطاب والوجدان، ومحيط يلبّي شروط البيان والجمال والبديع، ويجعل الإنسان المسلم قادرا على الإبداع والابتكار والتّوليد؟. ويواصل في نفس السّياق آخر: إنّه من الحيف أن نعدم كلّ إضافة للإسلاميين في مجال الفنون والإبداع، فهذه مجلة المشكاة المغربية، وهذه مجلة إسلاميّة المعرفة الأمريكية، وهذه مجلة الأدب الإسلامي السّعودية، وهذه مكتباتهم في الغرب مملوءة بالأفلام الكرتونيّة وخير دليل على ذلك" فيلم محمّد آخر الأنبياء The last prophet" الّذي تمّ إنتاجه سنة 2004 في أمريكا، وهذه أغاني سامي يوسف، تملأ مكتبات الشّرق والغرب، وهذا مهرجان الشّارقة الإنشاديّ كلّ عام… وهذه فرق الرّاب الإسلاميّة، وهذه فرق موسيقيّة أخرى ومسرحيّة تملأ الفضائيات، وتُبثّ في أغلب القنوات، وهذه عشرات الرّوايات والدّواوين نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر روايات نجيب الكيلاني وحميدة قطب ومسرحيات عماد الديّن خليل ودواوين حسن الأمراني وأمينة قطب وأحمد مطر وبحري العرفاوي… وهذه الفرق الموسيقيّة : فرقة الشّمس وفرقة عشّاق الوطن… وهذا كلّه غيض من فيض من مجالات فنّيّة متعدّدة، قد تزينت بمساهمات الإسلاميين في القصّة والرّواية والشّعر والأناشيد والخطّ العربيّ وفنّ العمارة… ويمكن العودة إلى أيّام الأستاذ حسن البنّا، وكيف أولى اهتماما كبيرا بالمسرح، كفن من الفنون الّتي تقترب جدّا من هموم المواطن، فتعكس مشاغله وتقول أوجاعه وأفراحه. فقد أدرك حسن البنا رحمه الله أثر الفنون والّتي كان المسرح على رأسها آنذاك. فعمل على بعث " الفرقة المسرحيّة لجماعة الإخوان " وفرق أخرى بروح وفلسفة جديدة، في تناول متميّز لهموم المواطن.
فوجد المسرح الإسلاميّ في زمن قصير، مكانه في قلوب النّاس، ومكانه في أكبر مسارح القاهرة. وأدّت الفرقة ثماني مسرحيات. ووصل الأمر بالإذاعة إلى نقل هذه المسرحيات على الهواء مباشرة. ولو تمعّنا في المشهد الفنّي في غزّة الّتي يديرها الإسلاميون، لوجدنا أنّ الفنّ الإنشاديّ قد تطوّر ورافق المشهد الثّوري ضدّ الاحتلال… فهل بعد كلّ هذا يُنعت الإسلاميون بكره الفنّ واستعداء الفنّانين!؟. والآن بعيدا عن القول والقول المضاد، والرأي والرأي الآخر، وقد وصل الإسلاميون للحكم، في تونس ومصر لولا الانقلاب عليهم وليبيا والمغرب واليمن…، بنفس وعي الإمام حسن البنا؟. وهل سيثبتون للعالم وللنّاس أنّهم عشّاق للفنّ، ويدحضون بذلك دعاوى خصومهم بأنّهم أعداء للجمال والفنون؟. فلقد كان الإسلاميون لسنوات طويلة، هم ضحايا الفنّ الّذي تحالف رموزه مع الدّيكتاتوريّة، كما كانوا ذات يوم، ومازالوا ضحايا أنظمة، كانت تستثمر الفنّ والإبداع في تشويههم والتّشنيع بهم، بتصويرهم وحوشا وشاذّين ودمويين وقتلة وإرهابيين.
يكفي مثالا لذلك أفلام عادل إمام : " الإرهابي" و"الإرهاب و الكباب "… ولعلّ ما جرى في مصر ويجري الآن بعد مجزرة رابعة والنّهضة أكبر شهادة، وأبلغ دليل على تخندق الفنّانين في الجبهة المعاديّة للإسلاميين وأنصارهم. ولهذا كان لزاما أن ننبّه إلى الاهتمام والتفطّن إلى دور الفنّ في حياة الشّعوب.
فهو سلاح ذو حدّين يمكن أن تنتصر به إذا أحسنت التّعامل معه وترقى به وتسعد، ويمكن أن يكون هذا السلاح قاتلا في نفس الوقت، إذا أهملته ولم تكن لك استراتجيّة واضحة في التّعامل معه.الأستاذ عبد الحفيظ خميري


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.