في منتصف الثمانينيات شخّص كاتب تونسي أزمة الإنسان المعاصر بأنه قد هوى في «سرداب ثقافي عميق بينما ترفعه مكاسبه التقنية إلى أعلى مراتب الاقتدار. يغزو الفضاء ويطاول الكواكب بعد أن تملّك الأرض، ولكنه حبيس العجز والرداءة في ملامحه الذاتية وعلى مستوى كفاءته الأخلاقية. فهو المراهق المغامر، لا يزال عاجزا عن أن يتحكم في النفس ويكفّها عن فجورها. إننا أمام أزمة قيم ومفاهيم يشتدّ فيها الاختلال بين قدرات الإنسان وبين قيمته». أما العلاج فهو في الأخذ بالفكر الإسلامي لأنه «يخلع على الكون دلالة رساليّة، فتصبح المعرفة شهادة، والشهادة مسؤولية، ويصبح العلم بحقائق الكون تمهيدا لإدراك مقاصده، ويرتفع هذا الإدراك إلى مرتبة التكليف الرباني». من السهل أن يخيل للقارىء أن ما سبق اقتباس من أحد المفكرين المصنّفين «إسلاميين»، وما هو بذاك، وإنما هو من كتابات المناضل الدستوري والنقابي الأستاذ الجليل مصطفى الفيلالي الذي انتقل إلى رحمة الله تعالى أواخر الشهر الماضي عن سن تناهز السابعة والتسعين. ولمن أراد الوقوف على حقيقة علاقة الفيلالي بالدين، فليرجع إلى كتابه التأريخي الأدبي الشيق «موائد الانشراح»، حيث أن فيه فصلا، بعنوان «غداء رمضان بين دوالي العنب»، يصور واقعة جرت في شهر رمضان بين الزعيم الحبيب بورقيبة، رحمه الله، وبعض من أعضاء حكومته عندما استدعاهم ذات يوم أحد (يوم العطلة الأسبوعية) لاجتماع عمل طارىء في ريف عين غلال، شمالي تونس، حيث المزرعة التي تملكها زوجته وسيلة بن عمار. بعد الاجتماع نصبت مائدة الغداء، فكان الفيلالي هو الوحيد الذي تجرأ على مخالفة بورقيبة في رأيه المشهور بأن تعب الصيام يعرقل جهود التنمية. كان الفيلالي عليما بمنطق الاجتهاد البورقيبي الذي يرفع قضية التنمية إلى مرتبة «الجهاد الأكبر»، ولكنه عبّر بكل لباقة عن استمساكه بالصيام، فسمع له بورقيبة وتقبّل موقفه بكل احترام. ولأن الفيلالي من المثقفين الثقات والشهود العدول، فقد أكد لي، في حوار أجريته معه في بيته في ضاحية رادس، أن بورقيبة لم يكن يغضب من كلمة الحق، وأنه كان يتميز بسماحة النفس وكثيرا ما كان يشاور في الأمر، بل ويعدل عن رأيه عندما يتبين له بالدليل المقنع أنه لم يكن على صواب. كان الفيلالي من الجيل الوطني الذي شيّد دولة الاستقلال، الجيل النبيل الذي لم يبق في عنقوده اليوم إلا بضع حبات، حيث كان أول وزير فلاحة (زراعة) في تاريخ البلاد وأشرف على الجلاء الزراعي، أي استرجاع الأراضي الفلاحية الشاسعة من أيدي الفرنسيين. وقد كانت الهيمنة الفرنسية على أجهزة الدولة ودواليب الإدارة عهدئذ هيمنة كلية إلى حد أنه لما دخل مقر وزارة الفلاحة أول مرة عام 1956 لم يجد فيها، حسبما قال لي، إلا ثلاثة تونسيين: الساعي، والسائق، والمترجم «سي الهاشمي السبعي»! أشرف الفيلالي على إنشاء مركز الأبحاث الاقتصادية والاجتماعية في تونس، وعمل في الجزائر مديرا لمكتب المغرب العربي لمنظمة العمل الدولية، وكان عضوا في مجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت. وما ميزه عن معظم مجايليه من نخبة دولة الاستقلال هو أن صدق انتمائه إلى المدرسة السياسية البورقيبية لم يحجب عنه أفق الرؤية محليا وعربيا. ولهذا انتبه مبكرا لوجوب التعامل مع الحركات الإسلامية. والدليل أنه هو الذي نسّق الندوة التي عقدت عام 1984 في تونس، بإشراف جامعة طوكيو للأمم المتحدة، عن «الصحوة الدينية وتحديات المعاصرة». وكان من المشاركين فيها عشرات المفكرين والباحثين من أمثال محمد عابد الجابري، ومنح الصلح، وإبراهيم سعد الدين، واحميده النيفر، وهشام بوقمرة، ومحمد الرميحي. إضافة إلى حسن الترابي، الذي كان آنذاك في أوج إشعاعه، وإلى راشد الغنوشي الذي كان قد خرج من السجن قبل ذلك بثلاثة أشهر فقط. كان بلاغ النعي الصادر عن رئاسة الجمهورية دقيقا كل الدقة في قوله بأن الفيلالي، تغمده الله بواسع رحماته، قد كان رجلا «علت همّته فتعالى على الصغائر، وقرّب بحكمته وصبره وسعة صدره بين النفوس والضمائر»