الترخيص للجمعية التونسية لقرى الأطفال "أس وأ س" جمع التبرعات لفائدة قرى أطفال فلسطين    الحماية المدنية: 528 تدخلا منها 80 لإطفاء حرائق خلال 24ساعة الماضية    امضاء مذكرة تفاهم بين الجامعة التونسية لوكالات الأسفار والسياحة واللجنة الوطنية للعمرة والزيارة بالمملكة العربية السعودية    بنزرت: اعادة ضخ 35.2 طنا من الخضر والغلال والبقول بسوق الجملة    ترامب يلاحق صحيفة مشهورة.. ويطلب تعويضا ب15 مليار دولار    الرئيس الفنزويلي يتهم واشنطن بالإعداد لعدوان عسكري على البلاد    غزة تتعرض لقصف إسرائيلي عنيف وروبيو يعطي "مهلة قصيرة" لحماس لقبول اتفاق    عاجل/ انفجار يهز غرب باكستان..وهذه حصيلة الضحايا..    بطولة العالم للكرة الطائرة : المنتخب التونسي ينهزم امام نظيره الايراني    الثلاثاء: سحب قليلة واستقرار في درجات الحرارة    عاجل/ تفاصيل وأسباب إيقاف العمل بإجراء تمديد عقود "CVIP"..    بوحجلة: وفاة العرّاف "سحتوت" بعد تناوله مبيد حشرات عن طريق الخطأ    سليانة: تخصيص 5600 مساعدة مدرسية لفائدة أبناء العائلات المعوزة والمحدودة الدخل    هام/بالأسماء: أعضاء مجلس الهيئة الوطنية للمحامين للمدة 2028/2025..    زغوان:حريق بجبل سيدي زيد أتت فيه النيران على مساحة هكتارمن الهشيم وبقايا سنابل الحبوب    حجز 4،7 أطنان من الفرينة المدعمة لدى إحدى المخابز المصنفة بهذه الجهة..    تصفيات كأس العالم لكرة القدم فتيات U20 : تونس تستضيف غانا بملعب صفاقس يوم 20 سبتمبر    من 15 إلى 19 أكتوبر: تنظيم النسخة السادسة من الصالون الدولي للسلامة الإلكترونية    وفاة عراف مشهور بعد شربه مبيد الحشرات..وهذه التفاصيل..#خبر_عاجل    الزهروني: يتسلح بسكين ويطعن المارة والامن في الموعد    برنامج المباريات والنقل التلفزي للجولة السادسة.. كل التفاصيل هنا    تونس و طبقة الأمازون : معلومات مهمة لازمك تعرفها    محرز الغنوشي يبشر التونسيين:''جاي الخير وبرشة خير''    المعهد الوطني للاستهلاك يحذر: منتجات تقليدية للحليب تنقل أمراضاً خطيرة!    عاجل: الرابطة تستدعي الكنزاري.. شنوّة صاير مع مدرب الترجي؟    لبنان يعلن تفكيك شبكة دولية لتهريب المخدرات    وزارة الصحة: ردّ بالك من الماكلة المعلبة... السّر خطير    إيران تعلن عن ملاحظاتها على بيان قمة الدوحة أمس    حماس.. تصريحات ترامب هي تجسيد صارخ لازدواجية المعايير وانحياز سافر للدعاية الصهيونية    الكوتش وليد زليلة يكتب...حتى تكون العودة المدرسية رحلة آمنة لا صدمة صامتة؟    خواطر من وحى العودة المدرسية .. تخفيف البرامج والمواد واللوازم المدرسية وملاءمة الزمن المدرسي مع المحيط والبيئة    همسات من قوافي الوطن...إصدار جديد للمربي توفيق الجباري    تراجع في عائدات تصدير زيت الزيتون رغم زيادة في الكمية…    وزارة الصحّة تحذّر من خطر استهلاك الأغذية المعلّبة على الصحّة العامّة..    طقس الليلة    بعد الاحتفاظ بمنفذ السطو على بنك ببومهل...بنوك بلا حراسة ولا كاميرات رغم السرقات ؟    انطلاق المخطط الوطني للتكوين حول الجلطة الدماغية (AVC)    وزارة التجارة: الانطلاق في تنفيذ برنامج خصوصي للمراقبة المشتركة عبر الطرقات    تونس تعزز حضورها في السوق السياحية الصينية مع تزايد إقبال السياح الصينيين على الوجهة التونسية    وداع المدرسة: كيفاش نخليوا أولادنا يبداو نهارهم دون خوف؟    محرز الغنوشي:''ليلة تسكت فيها المكيفات''    عاجل: تعرّف على العطل المدرسية للثلاثي الأول    عاجل: الرابطة المحترفة الأولى تعلن تغيير مواعيد المباريات...شوف كيفاش    رئيس الجامعة التونسية لكرة القدم معز الناصري رئيسا للجنة الاستئناف بالاتحاد العربي لكرة القدم    عاجل و مهم : ابتكار طبي جديد لعلاج الكسور في 3 دقائق    بطولة العالم لألعاب القوى: مروى بوزياني تبلغ نهائي سباق 3000 متر موانع    الرابطة الثانية: تعديل في برنامج مواجهات الجولة الإفتتاحية    كفاش تتعامل العائلة مع نفسية التلميذ في أول يوم دراسة؟    كلمات تحمي ولادك في طريق المدرسة.. دعاء بسيط وأثره كبير    أولا وأخيرا ..أول عرس في حياتي    اختتام الأسبوع الأول من مهرجان سينما جات بطبرقة    تونس ضيفة شرف الدورة الثانية من مهرجان بغداد السينمائي الدولي من 15 إلى 21 سبتمبر 2025    من قياس الأثر إلى صنع القرار: ورشة عمل حول تنفيذ مؤشرات الثقافة 2030 لليونسكو    أبراج باش يضرب معاها الحظ بعد نص سبتمبر 2025... إنت منهم؟    وزارة الصحة تطلق خطة وطنية للتكفل بمرضى الجلطة الدماغية    وزارة الصحة تحذر    خطبة الجمعة .. مكانة العلم في الإسلام    مع الشروق : الحقد السياسيّ الأعمى ووطنية الدّراويش    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد نجيب عبد الكافي يكتب لكم : إضرار الهوية
نشر في الصريح يوم 30 - 06 - 2019

تعرّضت في حديثي السابق إلى برنامج ، بثته خلال شهر رمضان المعظم قناة المرئيّة الوطنية الأولى ، وذكرت كيف أرادت الصدف أن يشاهده معي ، وتحت إشرافي وبترجمتي وشروحي ، زميلان ، أحدهما أرجنتيني والثاني إسباني ، استغرب كلاهما إدماج اللغة الفرنسية بكثرة ، في برنامج لغته العربية ، يبثه بلد عربيّ ، لمستمعين مشاهدين عرب ، أو يحسنون العربية ، وتضاعف الاستغراب لفهمهم غاية البرنامج ومراميه. ختمت حديثي آنذاك يملاحظتيهما إذ سأل الإذاعي: أتفتقر اللغة العربية لكل ما قاله بالفرنسية ؟ قلت كلا ! بل هي سبّاقة في أصل معظمها. قال: إذن ؟ فرفع الثاني رأسه وقال: تآمر ضدّ الهوية ، أو قل إساءة لها حتى تُمسخ فتذوب. ابتسم لي معتذرا ونزلنا إلى مكتبي. بعد ثلاثة أو هي أربعة أيّام ، هاتفني الزميل أرماندو ، الأرجنتيني وأكبر الإثنين سنا ، واقترح – حسب عادتنا – لقاء نتبادل فيه الأنباء والآراء عن كلّ الأمور وحول كلّ شيء.
قبل أن أواصل الحديث ، يجدر التوقف برهة لأعرّف القارئ بهذا الزميل حتى يكون على بيّنة منه ومن آرائه. عرفته في منتصف سبعينات القرن الماضي وإسبانيا على فوهة بركان ، لا يتكهّن لها العارفون وغير العارفين إلا بمستقبل مظلم ، أو حتى حرب أهلية ثانية. اللواء فرانكو ، قائد البلاد ، يصارع الموت ، صليل الأسلحة يرنّ في كلّ مكان ، الحزب الحاكم ، والأحزاب الممنوعة العاملة سرّا ، تخطّط لما هو آت وهو مجهول ، وكتل الشباب الجامعي وغير الجامعي ، وتكتلات العمال ، تتظاهر وتحتج وتضرب ، وحملة الأقلام يحاولون خداع الرّقابة بما يكتبون ، وعلى كل المستويات لا تسمع إلا عن اجتماعات سريّة ومُعلنة ، ومناقشات ، وتأهبات واستعدادات ، لغد مجهول. داخل هذه الأجواء المليئة تشنجا وخطرا وتهديدا ، داخل نظام دكتاتوري له أكثر من عشر أنظمة بوليسية ، يراقب عن بعد وعن قرب حتى معدة ومصارين البشر، وتحت وابل انفجارات المقاومة السريّة ، تلازمنا طيلة ثلاث سنوات ، نجري ونلهث ليلا ونهارا وراء الأخبار، والشخصيات المسموح لقاؤها وغير المسموح ، والتجمعات المتحرّكة علنا وسرّا إلى أن مات اللواء ، وبدأ التحوّل الناجح ، وأعلن الدستور بعد استفتاء ، وجرت أول انتخابات حرّة شفافة ، فأخذت البلاد في الاستقرار تدريجيا فختمت التحوّل باستلام الحزب الإشتراكي السلطة بأغلبية ساحقة ، فدخلت البلاد الديمقراطية وتداول السلطة. أثناء هذا الهرج والمرج ، انتخب زميلي أرماندو رئيسا لنادي الصحافة العالمي ، وانتخبت نائب رئيس ، منصب تجدّد لي طيلة عشرين سنة وختم بقبولي الرئاسة. طوال الأربعة عقود ، كثرت مناقشاتنا وتبادل آرائنا ، خاصة وأن الزميل أرماندو مسيحي متديّن ، متفتح على كلّ الأديان والمعتقدات ، مقاوم كلّ ظلم مهما كان مأتاه. عرف منّي كلّ ما أمكن عن الدين الإسلامي ومبادئه ، عن المسلمين والعرب ، عن الشعر والأدب ، والكثير الكثير الذي تطلبه نفس متعطشة دوما إلى مزيد المعرفة ، مع ميل خاص إلى الشعوب المستضعفة التي ضمنها بلدانه الأميريكية وبلداننا العربية الإسلامية. أهديته المصحف الشريف في ترجمته الإسبانية المعتمدة ، بقيت له مرجعا كلّما خطر عليه سؤال. اتفقنا إذن على موعد اللقاء ، لكن ، خلافا لعادتنا ، اقترح على أن يكون ببيته فكان ذلك. بعد تحية زوجته اللطيفة وتناول قهوة بصحبتها ، دخلنا مكتبه فأجلسني في مكانه وجلس هو أمامي ، فأصبحت صاحب المكتب وهو زائره. أشار بإصبعه كأنه يسمح لي بالاطلاع على كوم الدفاتر والأوراق والكرود الذي أمامي. أخذت الدفتر الأول فقرأت على غلافه محتواه وهو: " منقولات عن م.ع. فهمت أنّ كلّ ما أمامي هو عُدّة الصحفي ومراجعه فلم أفتح الدفتر ونظرت إلى صديقي فقال: " علمت واطّلعت وعرفت الكثير، عن عالم كان مجهولا لدى غير المختصين المنتفعين ، بفضل ما دار بيننا من أحاديث وبيانات وشروح ، وما أشرت عليّ بقراءته ، وصدّقني ، صرت أعرف تونس كما لو عشت على أرضها السنين. لكنّك لم تُشِر قطّ إلى هذه العاهة القاضية القاتلة ، التي اكتشفتها عن طريق البرنامج الذي شاهدناه ، والتي جعلتني إلى هذه الساعة أبحث عن تفسير لهذا الوباء فلم أجد إلا واحدا وهو أليم. أتعرف يا أخي محمّد – هكذا اعتاد يسمّيني " مي إرمانو محمد " ما قيمة وأهمية اللغة ؟ " قلت وكيف لا ؟ فقد اعترفت الدول بالإجماع بأن اللغة عنصر بَنّاء للهوية الثقافية لأيّ شعب ، ولذا ، ونتيجة لذلك ، حتى اللغات القليلة الاستعمال يجب أن يُحافظ عليها. أذكر كذلك ما أكّدته ممثلة البيرو مرّة في الأمم المتحدة "بأنه لدى الشعوب الأصيلة " تخلق اللغة شعورا قويا بالانتماء والهوية والاستمرارية." وكما قال ميكائيل بيرام ، أمام البرلمان الأوربّي على ما أذكر: " إن اللغات هي رمز الهوية: تستعمل من لدن ناطقيها لتثبيت هويتهم. ويستعملها الأشخاص أيضا لتصنيف نظرائهم عبر اللغة التي يتكلمونها."
ابتسم زميلي ابتسامة تأييد وموافقة وقال:" كلّ هذا حقيقة جميلة. لكن يجب أن لا ننسى أنّه عندما يفرض شعب لغته على شعب غيره ، ألا واستحوذ في نفس الوقت على نفوذ وهيمنة ؟ فالاستعمار غالبا ما يبدأ بوضع لغة الشعب المُستَعمَرفي الخزانة – كما يقال - ليعوّضها بلغته ، لغة المستعمِر". ثمّ أنّ اللغات كانت دائما وسيلة سلطة حتى للدول. فهي وسيلة هيمنة ضمن غيرها من الوسائل ، وما شاهدته وسمعته في بيتك صحبة ألفونصو الذي احتار هو أيضا ، برهان على ذلك ويتنافى تماما مع ما عرفته منك عن تونس ، ومن مطالعاتي ومتابعتي الأنباء عنها. دعني إذن أسألك لإرضاء تساؤلاتي ، بهذا الخصوص ، أين الفطاحل الذين حدثتني عنهم ، والذين قرأت لبعضهم بالفرنسية أو بالإسبانية ، من أمثال بن ميلاد وجعيط والمسعدي وغيرهم ، أو عرّفتني بهم مثل السيد محمد الطالبي عندما شارك في منتدى " حوار الأديان " الذي عقد بجامعة قلعة هانارس ، خلال تسعينات القرن الماضي ؟ ألا يشعرون بالخطر؟ ألا يرون أنّ ضياع اللغة هو ضياع الهوية وذوبان الشخصية ؟ ألم تقل ريتا مايي براون إنّ اللغة هي جواز الطريق للثقافة يعلمكم من أين أتى وإلى أين يسير شعبها ؟ أرمانو محمد ! إن غاب عنكم كلّ هذا وغيره من أخطار هذه الظاهرة على حاضركم ومستقبلكم ، وأنا على يقين من أنه لم يغب ، فقد وجب الإسراع بتجنيد كلّ الوسائل والإمكانات لإيقاف هذا التيار الهدّام.
استمعت لصاحبي بكلّ اهتمام وخجل وحزن ، وحار دليلي بين الإجابة والصمت ، فقلت له أنّ لدينا مقولة عربية نستعملها مثالاوهي: إذا كان ربّ الدار بالطبل ضاربا ، فلا تلومنّ الصغار على الرقص. بهت الرجل وأمعن فيَ البصر وقال : أتعني... ورفع يده أعلى من رأسه فأنعمت برأسي. ساد بيننا صمت عميق تاه فيه كلانا في أفكاره بحثا عن كلام معقول ، إلى أن تحرّك صاحبي وهمّ بالخروج ليتركني وأفكاري فقلت: لم تغب كلّ هذه الحقائق على الكثيرين ، فكتب بعضهم مقالات من حين لآخر، لكن الداء استفحل وتلزمه حملة تطهير وتوجيه ، وهو ما لا تستطيعه إلا السلطة إن لم يكن لها ضلع في المسؤولية ، نتيجة سياسات أو اتفاقات سابقة أو حاضرة. أما أنا ، أقول لك بكلّ تواضع ، فقد انتهزت ، منذ أكثر من عقدين تقريبا ، كلّ فرصة ومناسبة ، فصدعت برايي شفاها أو كتابة أو تصرّفا لأنّي ، قلت هذا للكثيرين من أصدقائي وزملائي ، أومن بيقين من أنّ الظاهرة غير موقوفة على تونس ، ولو اكتست أشكالا مختلفة بين قطر وآخر، وهي تستهدف اللغة العربية بأكملها وحيث هي ، للقضاء عليها وقتلها فتموت ، كما ماتت اللغة اللاتينية ، وتبعث الحياة في لهجات الأقطار والبلدان التي تتحدثها، فيصعب التفاهم بين شعوبها فيلجأون إلى لغة أخرى للتفاهم والتبادل.
أحنى زميلي رأسه وبقي برهة مفكرا ، ثمّ رشقني بنظرات ثاقبة وقال: لاشك وأنك لست الوحيد الذي يرى ذلك ، ولو بشكل آخر، لذا سوف لن تعرف العربية مصير اللاتينية ، ولو لم يصنها من ذلك سوى بقاء القرآن. ذهلت لرأيه ومقاله وكدت أقول له: حتى القرآن اسيئ إليه فاستُغلّ ، فما كان منّي إلاّ أني صافحته شاكرا متأثرا وأنا أردّد : يفعل الجاهل بنفسه ، ما لا يفعله العدوّ بعدوّه لكن: ما ضاع حق وراءه طالب.
مدريد يوم 16 – 6 – 2019.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.