إذا كانت الدولة بتعريف جغرافيا السياسة هي: أناس ومجال وسلطة حاكمة، فإنه ليس كل من كان خادما في الدولة وفي مجالاتها ودوائر سلطتها هو رجل دولة... وإذا كان السياسي هو الذي يفكر في الإنتخابات القادمة، فإن رجل الدولة هو الذي يفكر في الأجيال القادمة... ولذلك ليس كل من حاز موقعا في سلطة تنفيذية أو تشريعية هو رجل دولة، إنما رجل الدولة موقف وليس موقعا، فلرجل الدولة مواصفات لا يملكها السياسي رجل الإنتماء الحزبي، ولا التكنوقراط صاحب الدُربة والكفاءة المهنية، ولا يملكها أيضا رجل السلطة الذي يحتكر الحكم وأدواته، ويرى الدولة في شخصه وشخصه في الدولة، وتدين له الرقاب بالولاء خوفا ورهبا... ولا يملكها زعيم الحزب أو الطائفة... رجل الدولة هو المبدع القادر على صناعة الخير العام، ورعاية شؤون الناس بصفة مباشرة عندما يكون في فلك الحكم، أو بصفة غير مباشرة عندما يكون في المعارضة... هو الذي يملك القدرة على وضع الرؤى الإستراتيجية لمستقبل بلاده، بعيدا عن مستقبل الحزب أو الجماعة... هو الذي يجعل من الدولة مرجعيّة لسلوك المواطنة، ويجعل الناس يثقون في دولتهم ويفتخرون بالإنتماء إليها... هو الذي يملك عقلية الحكم وليس عقلية السلطة والتسلط... هو الذي يتمتع بقدر كاف من المهارات والمعارف في التاريخ والجغرافيا والإقتصاد والإدارة والتخطيط الإستراتيجي، وله القدرات اللازمة للتسيير وإدارة واستثمار الموارد البشرية... هو الذي يعمل كموظف عام لدى المجتمع ككل، وليس مندوبا في الدولة عن حزب أو جماعة... رجل الدولة هو الذي يرتكز هدفه الأساسي على رفعة دولته وقوتها، ورفاه مجتمعه وسلامته، ولا يجعل من دولته سوقا وأداة لتقوية اقتصاديات دول أخرى ورفاه مجتمعات أخرى... رجل الدولة هو الذي يبحث عن المصلحة البحتة والخالصة لدولته في العلاقات الخارجية مع الدول، ويعمل على توازن المصالح في الداخل بين مختلف فئات الشعب... رجل الدولة هو الذي يملك مشروع دولة لها موقع بين الدول، وليس مشرع حزب أو جماعة تخدم مصالح ايديولوجية أو تجارية مرتبطة بعلاقات هيمنة وتبعية لقوى أجنبية... رجل الدولة هو الذي إذا رأيته، وجدته مسكونا بهموم ومستقبل الأجيال والدولة والشعب، ولذلك تراه لا يخوّن ولا يُهين ولا يجرّم معارضيه، إنما يثمن اسهاماتهم ويستمع جيّدا لهمومهم، ويحفظ الأمن والإستقرار، ولا يضحي مقابل ذلك بالحرية... وهكذا إذا فقدنا الشعور بالإنتماء لوطن ودولة، فقدنا رجال دولة، وظهر الرويبضة والمتاجرون، فتكلموا في السياسة بلا علم ولا دراية، وجادلوا بغير حجة، ولعنوا الإنتماء للوطن، ومدحوا أوطانا أخرى، وتمنوا الهلاك لشعبهم، وطلبوا الرفاه لشعوب أخرى...