وزارة العدل: تسمية عدد من المسؤولين الراجعين لها بالنظر أعضاء بالمجالس الجهوية    عائدات العمل والسياحة تغطي 54 % من خدمات الدين الخارجي    مفاجأة اللحظات الأخيرة .. واصف جليل يتحد مع هذه الشخصيات ويودع ترشحه لإنتخابات الجامعة    عاجل/ حادث انقلاب الحافلة السياحية: مستجدات الوضع الصحي للمصابين    مداهمة نوادي ليلية في قمرت.. وهذا ما تم تسجيله    معرض الدولي للكتاب: جناح خاص بوزارة الأسرة ومشاريعها    القصرينية تحسم الجدل حول خبر طلاقها من زوجها    عاجل/ التشكيلة المحتملة للترجي أمام صانداونز    حجز مخدرات وضبط مروّجيها بمحيط مؤسسات تربوية في هذه المناطق    جلسة بين وزارة الصناعة وشركة صينية لتعزيز استخراج الفسفاط    رئيس جمعية القضاة يتّهم وزارة العدل بالتنكيل به    اليوم غلق باب الترشحات لإنتخابات الجامعة التونسية لكرة القدم    خطير/ العالم الهولندي يحذّر من مشروع لحجب الشمس.. يدعمه بيل غيتس!!    تايوان ترصد 21 طائرة عسكرية صينية حول الجزيرة    أداة ذكاء اصطناعي تحول صورة ومقطعا صوتيا ل"وجه ناطق" بتوقيع مايكروسوفت    القصرين: وفاة 4 أشخاص وإصابة 4 آخرين في إصطدام سيارة نقل ريفي بشاحنة    الامارات: بن زايد يكرّم تونسية ساهمت في إنقاذ 8 اشخاص من حريق    تونس: "لم نتفاجئ من فشل مجلس الامن في إقرار عضوية فلسطين بالامم المتحدة"    رئيس الإمارات يكرّم فتاة تونسية قامت بعمل بُطولي    بطولة إفريقيا للتنس: التونسيتان لميس حواص ونادين الحمروني تتوجان بلقب الزوجي    دراسة تكشف أصول "القهوة الصباحية".. كم عمرها؟    عاجل/ إضراب مرتقب في قطاع المحروقات.. وهذا موعده    جندوبة: انطلاق بناء مدرسة اعدادية بجاء بالله طبرقة    قفصة : الاعدادية النموذجية تتحصل على أفضل عمل متكامل    يساهم ب 16% في الناتج المحلي: الاقتصاد الأزرق رافد حيوي للتنمية    شملت شخصيات من تونس..انتهاء المرافعات في قضية "أوراق بنما"    جبنيانة: حجز 72 طنا من الأمونيتر    هيئة الدّفاع عن المعتقلين السّياسيّين: خيّام التركي محتجز قسريا وهذه خطواتنا القادمة    عاجل/ إتحاد الفلاحة: "تدهور منظومات الإنتاج في كامل البلاد"    غارة جوية تستهدف موقعا عسكريا لقوات الحشد الشعبي في العراق    طقس السبت: رياح قوية والحرارة بين 18 و28 درجة    منظمة الصحة العالمية تعتمد لقاحا جديدا عن طريق الفم ضد الكوليرا    المنستير للجاز" في دورته الثانية"    منوبة: حجز طُنّيْن من الفواكه الجافة غير صالحة للاستهلاك    بنزرت: القبض على تكفيري مفتش عنه ومحكوم ب8 سنوات سجنا    جندوبة: حجز أطنان من القمح والشعير العلفي ومواد أخرى غذائية في مخزن عشوائي    رئيس الجمهورية يشرف على افتتاح الدورة 38 لمعرض تونس الدولي للكتاب    هزيمة تؤكّد المشاكل الفنيّة والنفسيّة التي يعيشها النادي الصفاقسي    تعاون تونسي أمريكي في قطاع النسيج والملابس    لجنة التشريع العام تستمع الى ممثلين عن وزارة الصحة    الصالون الدولي للفلاحة البيولوجية: 100 عارض وورشات عمل حول واقع الفلاحة البيولوجية في تونس والعالم    انطلاق معرض نابل الدولي في دورته 61    تخصيص 12 مليون م3 من المياه للري التكميلي ل38 ألف هكتار من مساحات الزراعات الكبرى    أبرز مباريات اليوم الجمعة.    تواصل حملات التلقيح ضد الامراض الحيوانية إلى غاية ماي 2024 بغاية تلقيح 70 بالمائة من القطيع الوطني    رابطة ابطال افريقيا (ذهاب نصف النهائي) : الترجي الرياضي يواجه صان داونز بحثا عن تعبيد الطريق الى النهائي    وفاة الفنان المصري صلاح السعدني    كلوب : الخروج من الدوري الأوروبي يمكن أن يفيد ليفربول محليا    انتشار حالات الإسهال وأوجاع المعدة.. .الإدارة الجهوية للصحة بمدنين توضح    برج السدرية: انزلاق حافلة تقل سياحا من جنسيات مختلفة    طقس الجمعة: رياح قوية وانخفاض نسبي في درجات الحرارة    اسألوني .. يجيب عنها الأستاذ الشيخ: أحمد الغربي    منبر الجمعة .. الطفولة في الإسلام    خطبة الجمعة..الإسلام دين الرحمة والسماحة.. خيركم خيركم لأهله !    ضروري ان نكسر حلقة العنف والكره…الفة يوسف    شاهدت رئيس الجمهورية…يضحك    حيرة الاصحاب من دعوات معرض الكتاب    موعد أول أيام عيد الاضحى فلكيا..#خبر_عاجل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حوار مع المفكر التونسي العجمي الوريمي
نشر في الحوار نت يوم 04 - 02 - 2011

ليست الديمقراطية إلا سلطة مقيدة ومجتمعا منظما مفتوحا ومستقلا
المكان الطبيعي للمرأة هو المجتمع، وللمرأة أن ترتاد وتقتحم الفضاء العمومي فاعلا أصيلا وشريكا مساويا
من حقنا نحن العرب أن نعيش بعقلية الشريك الكامل في صنع مصير الإنسانية
لسنا ضحايا العولمة.. والسبب في وضعنا الحالي تراجع فاعلية الدين في حياتنا
حاوره محمد الحمروني
اعتبر المفكر التونسي العجمي الوريمي أن مشكلة بعض الأنظمة العربية أنها ترى في الديمقراطية تهديدا، وفي المطالبة بالإصلاح والتغيير تطاولا وانتقاصا من الشرعية، ولأنها لم توفّر ضمانات انتقال السلطة، أو لم تحكم بالعدل، فهي تخشى أن يكون الخروج من السلطة بلا عودة. والأصل في الأشياء أن النظام حكم ومعارضة، وأن السلطة توازيها سلطة مضادة، وليست الديمقراطية إلا سلطة مقيدة، ومجتمعا منظما مفتوحا ومستقلا. أما أن تكون فئة في السلطة بقوة القهر، ومعارضو برنامجها مصيرهم السجن، فتلك قسمة غير عادلة.
وقال الوريمي في حوار شامل مع "أقلام أون لاين" إن من حق الشعوب أن تحدد موقفها كلما دعت الحاجة إلى ذلك، وكل وصاية على الشعب مآلها الانزلاق نحو الديكتاتورية وتهميش لطاقاته. واعتبر أنه لا ينبغي أن يكون في صدورنا حرج مِمّا في ديننا وحضارتنا، ولا ينبغي أن تكون لنا عُقدة مع الحداثة، ومن حقّنا نحن العرب والمسلمون أن نعيش بعقلية الشريك الكامل في صنع مصير الإنسانية.
وشدّد على أن السجن ليس دليلا على سلامة الأوضاع بل على اختلالها، وأن تجربته في السجن (التي امتدت أكثر من 16 عشر سنة) لم تكن رحلة عابرة بل كانت مرحلة حاسمة. وأوضح أن تأمّلاته في السجن بيّنت أن عديد المسائل الفكرية التي ذهب في ظننا أنها حسمت وتم فيها القول الفصل لم تحسم نهائيا، وأن من واجبنا مواصلة الاشتغال عليها.
وبخصوص المراجعات الفكرية قال الوريمي إن الموضة في الفكر ليست بالضرورة أمرا إيجابيا، وأن تخلي شيوعيي الأمس ووحدويي البارحة عن الممانعة والمعارضة ليصبحوا حلفاء للاستبداد .. ليس تطورا بل ردة. وشدد على أن الإسلاميين ليسوا دعاة سلطة وإنما دعاة إصلاح، وأنهم أيقنوا أن التوجه للمجتمع أصل في رسالتهم، أيّا كانت طبيعة هذا المجتمع. وأن كلفة المشاركة لكل الأطراف وبدون استثناء وخاصة مشاركة الإسلاميين أقل بكثير من كلفة عدم مشاركتهم.
وعن المرأة قال الكاتب والمفكر التونسي العجمي الوريمي إن ما بين الشعارات "التقدمية" للإيديولوجيين وبين مواقفهم الحقيقية وممارساتهم الفعلية تجاه المرأة بون شاسع، وإن المكان الطبيعي للمرأة مثل الرجل هو المجتمع فلا مجتمع بدون النساء. واعتبر أن من أهم مُعيقات تجاوز الفكر العربي المعاصر لأزمته تأثره بالفلسفات والإيديولوجيات التي تضع حدا فاصلا وقطيعة مطلقة بين الإيمان والعلم، وبين الإسلام والديمقراطية. وقال أيضا إن الهوية ليست قضية مصطنعة، وأن الحرية ليست ترفا فكريا. أما الحداثة فليست سلعة مستوردة. وعن وسائل الإعلام قال إنها تحولت من عامل لتثبيت الأوضاع القائمة إلى عامل من عوامل التغيير ونشر الثقافة الديمقراطية.
من هو العجمي الوريمي
العجمي الوريمي مثقّف وقيادي بارز في الحركة الطلابية التونسية في فترة الثمانينات. قضى ستة عشر عاما ونصف العام في السجون التونسية، بعد أن حكم عليه بالسجن المؤبد في أشهر القضايا السياسية في تاريخ تونس المعاصر، وهي قضية حركة "النهضة" الإسلامية المحظورة في تونس.
أطلق عليه بعض أصدقائه لقب "منديلا تونس" لما اشتهر به من اعتدال ومسالمة واحترام لمخالفيه في الرأي ودفاع عن حق الاختلاف.. عرف باشتغاله بالفكر ودفاعه عن الفلسفة ومحبته للحكمة، إضافة إلى دماثة أخلاقه التي بوّأته مكانة خاصة عند كل من عرفه من أصدقائه ومنافسيه وخصومه.
عاد إثر خروجه من السجن أواخر شهر يوليو/جويلية 2007 إلى مقاعد الدراسة، حيث استأنف دراسته بالمرحلة النهائية في اختصاص الفلسفة المعاصرة بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس العاصمة ( شارع 9 أبريل) .
ومن غريب الصدف أن هذا الشارع الذي تقع به كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، التي درس ويدرس بها الوريمي الآن هو نفسه الشارع الذي يحوي المقر المركزي السابق للحزب الحاكم وكذلك السجن المدني بتونس العاصمة المعروف بسجن 9 افريل الذي مرت به كل حركات المعارضة من اليسار واليمين من يوسفيين وجماعة لزهر الشرايطي وجماعة آفاق والبعثيين والماركسيين اللينينيين وجماعة قفصة والنقابيين وجماعة الاتجاه الإسلامي قبل أن تتم إزالته ونقله إلى المرناقية بالضاحية الغربية للعاصمة.
الوريمي من مواليد سنة 1962 بشط مريم التي تقع شمال مدينة سوسة الساحلية. وقد التحق سنة 1981 بالجامعة التونسية طالبا بشعبة الفلسفة وانخرط في النضال الطلابي. وكان له الدور البارز عام 1985 في تأسيس منظمة طلابية عرفت باسم الاتحاد العام التونسي للطلبة. ولم يتحمل الوريمي أية مسؤولية قيادية في المنظمة الوليدة، لكنه كان الرمز الأبرز للتيار الإسلامي آنذاك في الجامعة.
وكانت له تجربة إعلامية تمثلت في الإشراف على المجلة الحائطية بالجامعة التونسية المسمّاة "الحدث السياسي". وكان الوريمي من ضمن الهيئة التأسيسية لحركة "النهضة" الإسلامية التونسية وفي هيئة تحرير صحيفة "الفجر" الناطقة باسمها، وحوكم في جويلية/يوليو 1992 بالسجن مدى الحياة من قبل المحكمة العسكرية في أشهر القضايا السياسية في تاريخ تونس المعاصر.
وفي هذا الحوار نحاول تبيّن موقف الوريمي من جملة القضايا التي شغلت وتشغل الساحة السياسية والفكرية العربية والتونسية، قبل وخلال وبعد خروجه من السجن؟ وسنحاول معرفة ما إذا استعاد الوريمي وضعه وحضوره داخل الساحة السياسية والثقافية والفكرية التونسية أم أنه لا يزال مثقلا بذكريات السجن المريرة ؟ وهذا نص الحوار.
أستاذ عجمي قضيت 16 عاما ونصف عام في السجن بعد حكم قاس بالمؤبد... كمثقف وكرمز طلابي ما هي الدروس التي استخلصتها من هذه التجربة المريرة؟ وهل خرجت يائسا من الإصلاح أم إن السجن ولّد لديك أملا ما في تغيير الأوضاع ؟
- أعتقد أنني لو أردت أنا ورفاقي إحصاء دروس التجربة السِّجْنيّة لتطلب منا ذلك كتابةَ مجلدات.. السّجن لم يكن رحلة عابرة، بل كان مرحلة حاسمة. فبعضنا قضى أزيد من ثلث عمره أو نصفه بين الجدران الرطبة والأسوار العالية، في عزلة تامة أو شبه تامة عن العالم، لذلك يصعب الإتيان على كل الدروس، وسأقتصر على إيراد بعضها مما يحضرني الآن.
إن السجن هو ضريبة النضال من أجل الحرية والعدل والمساواة والكرامة والهوية.. إنه جزء من مسيرة الإنسانية نحو الحرية وكسر الأغلال، وفي "العالم الثالث" عموما يحدث أن يكون السجن عبورا ضروريا، إذ لا تحسم الخلافات السياسية بالاحتكام إلى الإرادة الشعبية واحترام حكم صناديق الاقتراع، بل تحسم باعتماد الآلة الأمنية وتسخير القضاء.
وفي المنعرجات التاريخية عوض أن توظف الدولة كل الإمكانيات لرفع التحديات تعمد إلى إقصاء القوى الحيّة وقوى التغيير إذ لا ترى فيها فرصة للبلاد وإنما خطرا على النظام.
المعارضة في حقيقتها، من وجهة نظري، ليست جريمة بل هي حاجة اجتماعية، والتداول على السلطة لن يكون كارثة بل تسابقا في خدمة الشعب. فليس الوجود في السلطة امتيازا بل أمانة، وليس الوجود في المعارضة نقيصة بل مسؤولية. وشرف الإنسان أن يكون متحملا للمسؤولية مؤدّيا للأمانة كلّفه ذلك الدخول إلى السجن أو الخروج من السلطة، وأقلية اليوم يمكن أن تكون أغلبية الغد.. المهم الحفاظ على الثوابت الوطنية والحضارية... السجن ليس دليلا على سلامة الأوضاع بل على اختلالها، وليس برهانا على قوة الدولة بل على عجز النخبة الحاكمة عن إيجاد الصيغ المناسبة لتنظيم الاختلاف، والاختلاف رحمة، وإطلاق الطاقات يتم باحترام التعددية.
الديمقراطية تقاس في عصرنا بمقدار ما تسمح به من التنوع. كما أن السلطة ليست غاية في ذاتها لا لمن هو في الحكم ولا لمن هو خارجه. والأصل في الأشياء أن النظام حكم ومعارضة، وأن السلطة توازيها سلطة مضادة، وليست الديمقراطية إلا سلطة مقيدة ومجتمع منظم مفتوح ومستقل، أما أن تكون فئة في السلطة بقوة القهر ومعارضو برنامجها مصيرهم السجن فتلك قسمة غير عادلة.
وحتى لا تكون المعارضة تآمرا بل أمرا بالمعروف واقتراحا للحلول، وحتى لا يكون الحكم غلبةً واستبدادا بل تفويضا ومشاركة ينبغي أن تُحَلّ نهائيا مشكلة السلطة.
مشكلة بعض الأنظمة أنها ترى في الديمقراطية تهديدا، وفي المطالبة بالإصلاح والتغيير تطاولا وانتقاصا من الشرعية، ولأنها لم توفّر ضمانات انتقال السلطة، أو لم تحكم بالعدل، فهي تخشى أن يكون الخروج من السلطة بلا عودة، ولأنها لا تثق في معارضيها تخشى أن يكون وصولهم إلى الحكم ليس بعده خروجا، والحال أن الشعب إذا منح الحق في الاختيار سيمحّص المُصْلح من الأقل صلاحًا، ولا ينبغي أن نطلب من الشعوب أن تمنح أيّا كان صكّا على بياض، فمن حقها أن تحدد موقفها كلما دعت الحاجة، بحسب ما تلمس من نتائج تمس حياتها، وتوافق انتظاراتها، وكل وصاية على الشعب مآلها الانزلاق نحو الديكتاتورية، وتهميش طاقاته أو تعطيل فاعليتها.
لقد خرجت من السجن وأنا مقتنع بأن مطلب الحرية له أولوية على كل المطالب، فهو شرط تحقيق التنمية والأمن والاستقرار. كما زاد اقتناعي بأن كرامة الإنسان أمر مقدس بمعزل عن عقيدته وانتمائه العرقي أو القومي أو الحضاري أو الإيديولوجي، وأن تونس في حاجة إلى كل أبنائها، وأن إقصاء طرف سياسي وطني لن يكون إلا عامل إضعاف وتفرقة.
كما زاد اقتناعي بان الهوية الإسلامية العربية ليست غلافا مصطنعا أو قشرة سطحية لمجتمع بلا سمات ولا خصائص، وأن انفتاحها على المستقبل وعلى الآخر حاجة ذاتية وضرورة تاريخية وقدر مجتمع وضعته الجغرافيا في خط التماس مع حضارة مغايرة، تنزع إلى محاورته ومغالبته، تخشاه ولا تريد أن تزهد فيه أو تقطع معه، وعليه أن يمثل الأمة أحسن تمثيل ما دام في الواجهة والمواجهة فزمن الانكفاء والانغلاق ولّى، ولا ينبغي أن يكون في صدورنا حرج مِمّا في ديننا وحضارتنا، ولا ينبغي أن تكون لنا عُقدة مع الحداثة، ومن حقّنا أن نعيش بعقلية الشريك الكامل في صنع مصير الإنسانية.
ومن أهم دروس السجن أيضا الوقوف على حقيقة الفجوة ما بين إمكانياتنا وطموحاتنا، وهذا قد يولد إحباطا ينتج عنه فعل سلبيّ، أو عدم اكتراث ينتج عنه إعراض عن الفعل، أو يولّد وعيا إيجابيا يكون حافزا، وينتج عنه إرادة تتجاوز العقبات، وترفع التحديات، وبحثا معمّقا تنتج عنه حلول لمشكلاتنا.
ومن الدروس أيضا التأكّد من أن العديد من المسائل الفكرية التي ذهب في ظننا أنها حسمت وتم فيها القول الفصل هي لم تحسم نهائيا، وأن من واجبنا مواصلة الاشتغال عليها، كما أن باب الاجتهاد في السياسة الشرعية والفكر السياسي وكل ما يتعلق بالمواطنة وقضايا الحكم والدولة مفتوح على مصراعيه.
لقد أنتجت أحداث العقدين الماضيين فرزا حقيقيا داخل الساحة العربية والإسلامية، فنحن إزاء تعدّدية داخل التيار الإسلامي، بما يدعو إلى مضاعفة اليقظة حتى لا تتحول التعدّدية إلى تشرذم وفرقة، وحتى لا يحتلّ الغرور موقع القيادة والصدارة، على حساب خط الرشد، فينحرف بمسار الصحوة، أو يصادر مستقبلها، كما أن تيارات الفكر العربي ليبرالية كانت أو اشتراكية أو أصولية ذات منحى قومي أو قطري أو أممي بدأت تقوم بمراجعات إذا بلغت نهاياتها المنطقية فقد تؤذّن بميلاد فكر جديد يحتاجه الجمع التاريخي، وتتخطى به التيارات المذكورة أفقها الخاص والمحدود نحو أفق جديد، ولم لا أفقا كونيا.
ورغم كثرة الحديث عن الوسطية، حتى صار الكل يدعيها، وتكاد تُفرغ من مضامينها، فإن "سبيل المؤمنين" تبقى أفضل مما عند المفرطين والتفريطيين أي بين الدغمائيين واللاأدريين.
ومن الدروس المستخلصة من فترة التأمل التي طالت في السجن أن أهم تحد هو تحدي البرامج والمضامين، وأنه ينبغي أن تعطى الفرصة للنخبة لتنتج المعرفة وتقدم الإضافة. فمما لا شك فيه أن الإنسانية متجهة نحو التساؤل والتفكير في نفس القضايا. فقد حان الوقت للتفكير والتنظير ضمن أفق أوسع، ودون تجاهل ما أنجز وما ينجز يوميا في حقل الأفكار.. صحيح أننا لا نسير نحو حضارة واحدة، وعلى فرض حصول إجماع حول قيم كونية، فإن التعددية والتنوع ستظهر من داخل الوحدة، فكل تنوع ينشد الوحدة وكل وحدة تنتج التعددية والتنوع.. المهم أن لا يسود التعصب أو العدمية، فكلاهما يوصل إلى مأزق. وأخطر المآزق الجمود العقيم أو التميع المهلك.
الأفكار بين التطور والردة
هل تغيرت أفكارك مقارنة بما كانت عليه في فترة الثمانينات؟
- نحن لا نغير أفكارنا مثلما نغير ثيابنا، فالموضة في الفكر ليست بالضرورة أمرا إيجابيا، ولكن الفكر يشيخ إذا لم يتجدد.. المبادئ تبقى أما مضمونها فيتطور ويثرى، فالثوابت لا تنهار بالكلية ولكن قد يعاد ترتيبها، ومنها ما ليس ثابتا بل من المتغيرات وإن استقر في الأذهان أنها ثوابت. كان اليسار يعتقد أن الثورة لا تقوم بدون العنف، وبعض القوميين ظنوا أن التغيير لا يتم إلا بالانقلاب وبفكر انقلابي. وقد تخلى الأولون عن العنف والأخيرون عن الحلول الفوقية والمسقطة، وهذا أمر إيجابي، فليس العنف من ثوابت الثوريين، وليس الانقلاب من ثوابت الوحدويين ودعاة التغيير. وقد جر العنف واحتقار الجماهير ويلات عديدة، وأذكر أن الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران له قولة مفادها أن الثورة أكانت عنيفة أو سلمية هي قبل كل شيء إحداث قطيعة مع الأوضاع السائدة، والمقصود بالأوضاع السائدة في تقديري الأوضاع البائدة والفاسدة. أي إن الإصلاح هو المضمون العميق للقطيعة التي هي المؤشر الحقيقي على التغيير. لكن أن يتخلى شيوعيو الأمس ووحدويو البارحة عن الممانعة والمعارضة ليصبحوا حلفاء للاستبداد أو واجهة تزين بشاعته فهذا ليس تطورا بل ردّة.
أما الإسلاميون فقد اعتقدوا لعقود طويلة أن التغيير لا يكون إلا بالأسلمة الكاملة للدولة والمجتمع، ولم يدروا من أيهما تكون البداية. والآن أيقنوا أن التوجه للمجتمع أصل في رسالتهم أيّا كانت طبيعة هذا المجتمع. كما تطورت نظرتهم إلى اعتبار الدولة ليست رجسا كلها، وأن المرحلية ليست فقط تكتيكا وضرورة بل هي مقصد الشريعة نفسها، ولعلّ ما عاناه الشباب الإسلامي من اضطهاد وتعذيب وسجون غلّب لديه فكرة القطيعة مع الدولة والمفاصلة مع المجتمع، فالدولة المستبدة الفاشلة هي التي سببت القطيعة، وليس الفكر الإسلامي، الذي هو فكر تواصل بالدرجة الأولى.
أليس من العجيب أن الأنظمة العربية عندما يشدد عليها الخناق وتهدد في وجودها من قوى الهيمنة تستدعي مقاومة الحركة الإسلامية كحركة اجتماعية، إيقانا منها بأصالتها ووطنيتها، فهي كحركة سياسية واجتماعية لا تساوم على الهوية والثوابت والاستقلال. ولا يعني ذلك أن الإسلاميين لم يقعوا في أخطاء ولم يسقطوا في ردود الأفعال، إما دفاعا عن وجودهم أو استجابة لاستفزاز يصعب السكوت عنه، حتى وإن تبين بعد فوات الأوان أن الحكمة كانت تقتضي الإعراض والعفو.
ويؤكّد خطاب الحركات الإسلامية المتجذرة والأصيلة اليوم أن الإسلاميين ليسوا دعاة سلطة وإنما دعاة إصلاح، لا يعنيهم بالأساس الوجود في الحكم أو حتى مجرد المشاركة فيه - وإن كان ذلك حق لكل من يفوّضه الشعب ويمنحه ثقته ويزكّي برنامجه- بقدر ما يعنيهم أن يُحترم الإسلام وتُرفع القيود عن التديّن، وأن لا تلغى شريعته وشعائره لمجرد إرضاء نزوة حاكم له عقدة نقص تجاه الغرب، أو لإرضاء قوى هيمنيّة تريد فرض نموذجها الحضاري على أمتنا دون أن تستشار في ذلك.
ومن المؤسف حقا أن نصل إلى اليقين بأن الغرب لا يعنيه كثيرا أمر تنميتنا أو رقيّنا بقدر ما يحرّكه هاجس دعم نفوذه، وتأمين مصالحه، وبعض قواه لديها قناعة بأن ذلك لا يتحقق إلا بثقافة مخترقة، ومجتمع لا حصانة له ولا شخصية، ونخبة لا التزام لها ولا طموحا حضاريا.
تحديات الفكر الإسلامي.. المرأة.. السلطة.. العولمة
كيف تنظر للمرأة؟
- أظنك تقصد نظرة المثقف الإسلامي إلى واقع المرأة العربية المسلمة. أعتقد أن نظرة المرأة إلى نفسها أهم من نظرة المثقف والرجل إليها. علما بأن ما بين الشعارات "التقدمية" للإيديولوجيين وبين مواقفهم الحقيقية وممارساتهم الفعلية تجاه المرأة بون شاسع. ومن الصعب أن يتخلص المثقف العربي نهائيا من نظرته الموروثة عن المجتمع تجاه المرأة أو تجاه نفسه أو تجاه الظواهر الاجتماعية والإنسانية، التي تمثل البيئة التي يعيش فيها، ولا يزال يسيطر عليها مخيال اجتماعي لا ينصف المرأة كثيرا، وهذا ليس تبريرا فالخطأ لا يبرّر إلا لِيُتجاوز فما بالك ببنية ذهنية واجتماعية انحطاطية ينبغي أن تفكك وتحارب.
نحن نحمل بين جنوبنا عقدا كثيرة لعلّها وراء النظرة الدونية تجاه المرأة، أو نظرة التكريم والتبجيل بل حتى التقديس لها. وكلما ظننا أننا تخطينا عقدنا وتغلبنا عليها إلا وعاودت الظهور عند أول اختبار، وأظن أننا ابتعدنا عن الإنصاف وعن النظرة التحريرية للمرأة التي جاء بها الإسلام، ويتوهم الكثير منا أنها وفدت علينا من ثقافات وفلسفات أخرى.
وعلى العموم فإن مشكلة المرأة في بعض الأقطار العربية والإسلامية اجتماعية بالأساس وليست تشريعية، وفي بعضها الآخر اجتماعية وتشريعية معا. ويحصل أن تكون النصوص متقدمة على الواقع أو متأخرة عليه. والمرأة العربية المسلمة تحقق اليوم مكاسب وتدفع مقابل ذلك ضريبة قد توازي تلك المكاسب أو تفوقها، وقد تدفعها نيابة عنها بنات الجيل القادم أي المجتمع في النهاية.
إن المكان الطبيعي للمرأة مثل الرجل هو المجتمع فلا مجتمع بدون النساء. وللمرأة أن ترتاد وتقتحم الفضاء العمومي فاعلا أصيلا وشريكا مساويا، له مصلحة مشروعة في الانتفاع بالفرص المتاحة، وبذل الطاقة في الإسهام في نهوض المجتمع. والمرأة الملتزمة بالحجاب تعدُّ التزامها به شرط اندماجها في المجتمع إذ إن ذلك يرفع عنها حرج الخروج أو مصادفة الغرباء.
فمواطنة المرأة ينبغي أن تكون كاملة غير منقوصة وإن اختصت بشيء فلا يقلل ذلك من أهمية دورها، بل يؤكد خطورته. ولا مزية للرجل عليها إن اختصها بحق أو بواجب، فحقوقها من واجباته وواجباتها من حقوقه، ولا يحابي المولى جل وعلا مؤمنا على مؤمنة ولا مؤمنة على مؤمن فلا فضل لأحدهما على الآخر إلا بالتقوى.
واليوم تتم في الغرب مراجعات نقدية لتجارب وأفكار الحركات النسوية، بما يجعلها تقترب من مفهوم الإسلام لدور المرأة. وجدير بالملاحظة أن مواقف الإسلاميين من دور المرأة وحقوقها السياسية تتطور باستمرار. وقد عكس النقاش الذي جرى بين قادة الحركات الإسلامية الإخوانية حول برنامج "الإخوان المسلمون" في مصر وعيهم بأهمية التحري فيما هو قطعي وما ليس بقطعي، وأهمية مواكبة التحولات والانتظارات. كما ارتفعت في السنوات الأخيرة أصوات نسائية من داخل الحركة الإسلامية تنادي بمشاركة كاملة للمرأة. وأذكر على سبيل المثال كتابات المفكرة المصرية المتميزة "هبة رؤوف عزت".
مازالت توَجّه لحملة الفكر الإسلامي تهمة الانتقاص من حرية وحقوق المرأة وخاصة أمام دعوات المساواة بين الجنسين، والمساواة في الميراث، ما هي وجهة نظرك في هذه القضية؟
- قد يكون في ذلك بعض الصواب وفيه إجحاف أيضا. إذ إن بعض الدعاة، خوفا منهم على الدين وغيرة منهم على المرأة، يعملون بمبدأ سد الذرائع، ما يمنعهم من الإشارة إلى مساحات فعل كثيرة يمكن للمرأة المسلمة المعاصرة أن تقتحمها دون أن يخشى عليها أو أن تخشى على دينها والتزامها واستقامتها. والتشنيع بمواقف بعض العلماء والدعاة فيه الكثير من التجني والانتقاء، وأحيانا إخراج المواقف من سياقاتها لغاية في نفس المشنعين أبعد ما تكون عن الحرص على مصلحة المرأة.
إن دعوة المساواة ليست دعوة منكرة في ذاتها، ولا ننسى بأن أولى الدعوات الإصلاحية قد صدرت عن علماء دين هالهم ما وصلت إليه أوضاع المسلمين وأوضاع المرأة كجزء منها. ولأمر ما يتعمد المؤرخون والنقاد والباحثون حجب تلك الدعوات وعدم التعريف بها، وكان يمكن أن تدرج في المقرر الدراسي، كما إن لبعض الأئمة والعلماء مواقف وفتاوى تناصر حقوق المرأة ولكن يقع تجاهلها لأسباب إيديولوجية إذ إن هؤلاء العلماء يمثلون مرجعية لبعض التيارات والمذاهب المرفوضة من الإيديولوجيات المعنية.
وقد ألبت دعوة المساواة كثيرا من العلماء على الداعين لها لما حمله السياق وزاعمو الدفاع عن حقوق المرأة من مشاريع لا ترمي إلى النهوض والنهوض وحده، بل تقصد إلى التقويض والهدم، سواء صرّحت بذلك أم أضمرته. وكثيرا ما تذهب النوايا المبيتة بالأفكار الجديدة والجيدة، ولعلك تلاحظ أن الطريقة التي أدخلت بها إلى ثقافتنا مفاهيم ومقولات ونظريات ليست شرا كلها قد أدت إلى التباس لم يسدل ستار الشك على تلك الأفكار فحسب بل أدخل فتنة مزقت وعينا الشقيّ بطبعه منذ أن وقفنا على الفجوة الهائلة بين الموجود والمنشود. والسبب في الالتباس والفتنة حملة الأفكار لا الأفكار ذاتها إذ كان يدفعهم إلى اعتناقها والترويج لها أحقاد وعقد وقد جمعوا في أشخاصهم صفتي الجهل والتحامل.
إن قضية المرأة قضية خطيرة ومفصلية فما الفائدة من تهميش دور علماء الدين المؤهلين لنقد أوضاعنا بحب وإخلاص؟ وما الفائدة من جلد ذواتنا بسادية أو بشهوة قتل الأب، واسمح لي أن أحيل القارئ على كتاب الدكتور (محمد عمارة) "التحرير الإسلامي للمرأة" فقد يجد فيه ردا لشبهات كثيرة ألصقت بالإسلام وبالعلماء، والذين هم من أمثال الدكتور عمارة كثير ممن لا شبهة في صدقهم وعمق تفكيرهم وغزارة علمهم واتساع ثقافتهم.
أي شكل للدولة المعاصرة أنسب للمجتمع العربي الإسلامي اليوم؟
- لقد كانت الشورى هي النظام الذي انتهجه المسلمون في عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) رغم وجوده بينهم، واستمرار نزول الوحي عليه، وهو ما اختاره الله للنبي وجماعته السياسية. نحن نتحدث هنا عن شكل الدولة، قال تعالى :"وشاورهم في الأمر" وامتدح الله المؤمنين بقوله: "وأمرهم شورى بينهم" وهو ما تميزوا به عن غيرهم من الجماعات الجاهلية والمشركة وجماعات أهل الكتاب، بل لم يكن نظام الحكم الفارسي أو البيزنطي شوريا بل كان فرديا استبداديا.
وكانت مشورة الرسول (صلى الله عليه وسلم) لأصحابه من رحمة الله بهم. وما دامت الشورى مبدأ وقاعدة في التعامل بين المسلمين فرحمة الله باقية تعصمهم من الضلال وتجازيهم على الاجتهاد. ثم كانت الخلافة كصيغة عملية توصل إليها الصحابة بعد وفات الرسول (صلى الله عليه و سلم) أرادوا من خلالها تجسيد مبدأ الشورى ومبدأ وحدة الجماعة وعصمتها، ما دامت متحملة أمانة الدعوة وإبلاغ رسالة التوحيد مداها العقدي والاجتماعي والسياسي والحضاري. أما الدولة الحديثة فمع التزامها بالديمقراطية وهي في تقديري نسخة غير مطابقة للشورى، وإن تضمنت بعض معانيها، فهي تتقيد بالقانون وتراقب بعض سلطاتها بعضها الآخر. فالسلطة تخضع للرقابة والمحاسبة ولا ضير في ذلك، فذلك من مقتضيات العهد بينها وبين مواطنيها، ويجري فيها التداول على المسؤوليات والمراكز والمناصب، وهي بذلك تطور نفسها، وهي في تجددها تعبر في نفس الوقت عن إرادة الشعب الذي منه تستمد سلطتها وإليه تعود بتجديد مشروعيتها. وفي اعتقادي فإن الشورى تحتوي ضمانات أكثر لحقوق الأقلية مما تضمنه الديمقراطية التي تخضع إرادة الأقلية لإرادة الأغلبية.
ومع التجدد الدائم للحكومة بالانتخاب والاحتكام إلى صندوق الاقتراع تتحقق فيها ضمانة الاستمرار بمرجعية قاعدية هي هوية الدولة والمجتمع معا، وهذه المرجعية القاعدية هي غير التفويض الإلهي الذي يمكن أن يدعيه حاكم يريد أن يكون فوق المساءلة والمحاسبة والاختيار.
العالم أصبح قرية واحدة وهو ما اصطلح على تسميته بالعولمة. هل المسلمون وهم بهذا الضعف الحالي قادرون على الانخراط في العولمة والاستفادة منها؟
- لنتّفق أولا على أن المسلمين ليسوا ضحايا العولمة، ولن تكون نكبة عليهم، وبالتالي هم ليسوا مطالبين بأن يكونوا مناهضين لها بصفة آلية، وإن كانت لهم الأهلية والشرعية لنقدها وحتى تقديم تصور لعولمة مغايرة أو بديلة. السبب فيما آل إليه حال المسلمين هو توقف فاعلية الدين في حياتهم لفترة طويلة، حتى خشي أن لا يبقى إطارا يجمعهم، وقاعدة لسلوكهم، وأساسا لرؤيتهم للعالم، وحافزا للتفكير في الحلول الصائبة لمشاكلهم. وقد انجر عن ذلك فقدانهم الثقة بأنفسهم، وترسخ شعورهم بالدونية تجاه الآخر، وتخليهم عن الأخذ بأسباب العلم والمعرفة، وعجزهم عن توظيف ثرواتهم الطبيعية ومواردهم البشرية، وهي ضخمة وثرية جدا، لكنها تبدد كل يوم بسبب سوء التقدير وسوء التدبير وسوء التخطيط وهبوط الهمم والعجز عن الإبداع.
ولا يكمن الحل في البكاء على الأطلال، أو في الحنين إلى الماضي، أو في تأثيم الحاضر، أو في الخوف من المجهول، أو في التخاذل أمام العدو. بل في الثقة بالله أولا وفي إنسانية رسالة هذه الأمة. فالوحي نزل على الرسول محمد (صلى الله عليه و سلم) لكنه توجه بالخطاب إليه وللمؤمنين والمسلمين عامة والناس كافة. وماذا يعني الانخراط في العولمة إن لم يكن باعتبار القرآن خطابا مناسبا للألفية القادمة، يخاطب المسلم المعاصر وإنسان العولمة.
صحيح أن العولمة تمثل تحديا كبيرا يختلف بالنوع لا بالدرجة عما عهدناه من تحديات اقتصادية وثقافية وحضارية. لكنها بالمقابل فرصة ليأخذ الإسلام من جديد بعدا كونيا، ويقدم نفسه للناس حلا لمشاكل الإنسانية، وهي فرصة أيضا للفكر العربي لكي يخرج عن نطاق محليته ليلامس قضايا الإنسان.
يرى بعض الفلاسفة أن الثقافة اليهودية-المسيحية نشدت الكونية بترجمة الإنجيل إلى اللغة اليونانية، في حين أن الثقافة العربية تطلعت إلى ذات الهدف ولعلها بلغته ردحا من الزمن بترجمة الحكمة اليونانية إلى العربية، وتَمثُّلها ضمن الثوابت العقدية والخلقية لحضارة الإسلام. واليوم يقع على عاتق مفكري الإسلام إبراز الأبعاد الكونية لقيمه، والمضامين الإنسانية والعصرية لحلوله. وكلما نزع الفكر الإسلامي إلى الكونية وهي وجهته الأصيلة، كلما استدعى الواقع الحل الإسلامي. ولذلك فوجئنا وكان علينا إن لا نستغرب ذلك بحديث علماء الاقتصاد الغربيين والمؤسسات السياسية والاقتصادية والمالية الأوروبية عن فضائل التمويل الإسلامي كأحد الحلول الممكنة للأزمة المالية العالمية.
إن العولمة، وهي تختبر طاقتنا على البقاء والتطور، ستمنحنا فرصة، وتقترح علينا مشكلات، وتطرح علينا تحدي الإجابة عنها بمعية باقي الثقافات والشعوب. هي بالتأكيد حلول الرسالة الخاتمة المهيمنة والأمة الوسطية الطليعية، لا حلول الأمة المتخلفة التابعة المقلدة.
العرب .. استثناء ديمقراطي
تعيبش المنطقة العربية ما يمكن أن نسميه بالاستثناء الديمقراطي... فمن حولنا تجري تحولات كبيرة في آسيا وإفريقيا ومن قبلها في أوروبا. والعديد من البلدان بما فيها الإفريقية باتت تنظم الانتخابات الحرة وتعرف تطورا اقتصاديا (نمور آسيا) وتداولا على الحكم، ولكن منطقتنا لا حراك فيها، لا على المستوى السياسي ولا الفكري ولا الاقتصادي، فأين تكمن المشكلة بالضبط من وجهة نظرك؟
- القول بأن المنطقة العربية لا حراك فيها أمر نسبي. فما بالك وقد رُشّحت للفوضى الخلاقة. صحيح أن أوضاع المنطقة بلغت درجة من الجمود تبعث على الحيرة، ودرجة من الفوضى قاربت اللامعقول، فهل في الأمر مفارقة؟ لا أعتقد ذلك فاستقرار المنطقة سطحي، وحراكها مد وجزر. لذلك تنزلق من مسعى الانتقال نحو الديمقراطية إلى الانقلاب مثلما جد في الجزائر وموريتانيا، وتنتقل بسهولة وبسرعة من الصراع السياسي إلى الحرب الأهلية والصراعات الطائفية والمذهبية، كما هو الشأن في لبنان والعراق.
المنطقة يتجاذبها خيار الوحدة وقدر التجزئة، ومسار دمقرطة المجتمع والدولة. وهناك قوى متنفّذة لها مصلحة في احتكار السلطة والثروة والقرار، تعمل على صد هذه التحولات وإعاقتها. وبعيدا عن نظرية المؤامرة فإن واقع المنطقة العربية مجتمعة، وواقع أقطارها مجزأة ليست بمنأى عن الرهانات الدولية ومصالح القوى الاستعمارية القديمة والجديدة.
أما مكمن المشكلة فهو أن تحرير فعالية الأمة ووضع مصيرها بين يديها تعترضه بنيات موروثة تعيد إنتاج الواقع أي التبعية والتجزئة والاستبداد، الشيء الذي يجعل شبابها وقواها الحيّة أمام خيارات صعبة، يخشى تجاهها استسهال الحلول اليائسة، التي تكون عادة نتيجة للأزمة لا جزءا من الحل، وهي يمكن أن تكون سلاحا ذو حدين. أي إما مقدمة للنهوض أو للفوضى. ولكن أي نهوض هذا الذي ينبني على اليأس، وأية فوضى هذه التي تحلّ محلّ النهوض، وخير للمنطقة أن تكون مفتوحة على الأمل والمستقبل من أن تكون مفتوحة على المجهول. وقد خلص بعض الكتّاب والباحثين إلى أن كلفة المشاركة لكل الأطراف وبدون استثناء وخاصة مشاركة الإسلاميين أقل بكثير من كلفة اللامشاركة.
هناك جرحان في خاصرة الوطن العربي الأول في فلسطين والثاني في العراق، الأول تطور إلى حد التقاتل بين الأشقاء، وهو ما لم يحدث من قبل. والثاني أحيا الفتنة النائمة بين السنة والشيعة فما هي دلالات هذا الانقسام؟
- أولا أسجّل بأن الفلسطينيين بكافة أطيافهم السياسية وفصائلهم لا يزالون مجمعين على حرمة الدم الفلسطيني. كما إن علماء الدين العراقيين شيعة وسنة وساسته من عرب وأكراد بكامل اتجاهاتهم يرفعون أيضا بلا لبس شعار حرمة الدم العراقي.
للأسف فإن فلسطين لم تعد أولوية لدى القادة العرب، إلا على الورق وفي الخطب، فمع الاحتلال وجرائمه أضيف لمأساة فلسطين صراع المحاور وحسابات الأنظمة، ولو تركت للفلسطينيين حرية تسوية مشاكلهم الداخلية دون وصاية أو تدخل على خط اختلافاتهم، وتمّ الاكتفاء بدعم قرارهم المستقل، واحترام رغبتهم في المقاومة دفاعا عن وجودهم وعن فلسطين وعن الأمة العربية أصالة عن أنفسهم ونيابة عن العرب لكان حالهم أفضل بكثير.
فقضية فلسطين تُتَّخذ أحيانا تعلة لإرجاء الإصلاحات الديمقراطية في البلدان العربية، وتتخذ أحيانا أخرى جسرا للمزايدة بين القوى الإقليمية. ويدرك المواطن الفلسطيني وكل الفصائل لعبة الرسمية العربية وحساباتها، وهم يواجهون ذلك الواقع و يناورونه، وأحيانا يدفعون ضريبته من وحدتهم ودمائهم، وسيسأل الحكام العرب عن روح كل فلسطيني أزهقت ضريبة لرهانات الرسمية العربية التي أصبحت الآن شريكة في الحصار متواطئة ضد المقاومة.
أما العراق فساعة الحقيقة فيه قريبة وأظنه بمقاومته النبيلة الباسلة، وبقواه الوطنية والإسلامية المخلصة يحبط المؤامرة تلو المؤامرة، لكنه يبقى مهدّدا بالتقسيم بعد التدمير، رغم أن الشيعة يريدون حكم العراق لا تقسيمه، ولن يفرّطوا في الحكم بعد أن تحقق لهم ما لم يتحقق طيلة ألف عام، بحسب تصريح "عبد العزيز الحكيم". أما الأكراد فيريدون دولة لهم، ويدركون أنها لن تقوم بدون قبول أمريكا ودعمها، وبدون رضا القوى الإقليمية سوريا وإيران وتركيا. وأما السنّة فبعضهم يريد التحرير، وبعضهم يريد الحفاظ على وحدة العراق، وبعضهم يريد إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. وتبين أن الشيعة ليس بمقدورهم، ولم يعد من طموحهم حكم العراق بمفردهم، مهما كانت تحالفاتهم، ولن تقوم دولة الأكراد دون تغيير خارطة المنطقة بأكملها، ولن تعود عقارب الساعة إلى الوراء، سواء استمرت المقاومة أو انخرط غالبية السنة في العملية السياسية.
إن المشروع الأمريكي فشل، والفضل في ذلك يعود للمقاومة، ولكن ليس للمقاومة وحدها. أما العراق الموحّد فمهمة العراقيين أولا والعرب والمسلمين تاليا. وهذه الأوضاع كلها موروثة، والبعض يعتبرها مؤقتة، حتى وإن دامت عقودا. ولن تستقر إلا لتتبدل، ولن تتبدل جذريا إلا بمنتصر ومهزوم أو قاتل ومقتول. ولكن حرب الكل ضد الكل ليست قدرا محتوما.
وقد اقتنع العراقيون بصيغة لا غالب ولا مغلوب، وأن العراق ينبغي أن يكون لكل مذاهبه وقومياته وطنا للجميع، ومكوّنا أساسيّا في خارطة المنطقة.. تنميته من تنميتها وأمنه من أمنها واستقراره من استقرارها، والتجربة اللبنانية خير شاهد على إمكان التجاوز رغم التعقيدات. فعندما أراد اللبنانيون طي صفحة الحرب الأهلية أبرموا اتفاق الطائف. وعندما أبان اتفاق الطائف عن حدوده وأن الحرب يمكن أن تعود من فراغاته اجتمع الفرقاء من جديد وأمضوا اتفاق الدوحة. فمع مخاطر الحرب وهي مخاطر حقيقية، هناك فرص السلام، وينبغي على كل الفرقاء الإيمان بها، فالتعدد لا يناقض الوحدة، والطائفة يمكن أن تتعايش مع الطائف، وأن يعيش الجميع داخل نفس الدولة، ويحتكمون إلى نفس الدستور.
تعيش المنطقة العربية الكثير من التحديات الخطرة، والتي طال أمدها مثل الجهل والتخلف الحضاري والأنظمة الشمولية والفساد والتقاتل الداخلي.. هل تعتقد أنه يمكن الخروج من هذه الدوّامة؟ وكيف ذلك؟
- إن المثقف إذا تشاءم فلكي يضع الإصبع على مكمن الداء، وإذا تفاءل فلكي يفتح آفاقا جديدة، ويقترح الحلول الممكنة، وحتّى لو بلغ التشاؤم حد الانفصال عن الواقع بالاغتراب في الماضي أو الإقامة في الحلم، أو بلغ التفاؤل حد الاستهانة بالتحديات، رغم الوعي بحقيقة الأزمة وعمقها، فإن ما تراكم من أخطاء وخيبات، وما رافقه من إنتاج فكري، قصد إلى إعادة الثقة في الثوابت وفي المستقبل، أو عمد إلى نقد الموروث بإيجاب أو بعدمية، لم يَيْأس من إصلاح الأوضاع ومن إمكانية النهوض من جديد، حتى وإن لم يفلح في تقديم إجابة مقنعة عن سؤال لماذا أخفقت النهضة العربية.
وإذا كانت بعض التجارب العَمَليّة -وأقصد بذلك قيام الدولة القُطرية- تجارب بائسة، ثبّتت واقع التبعية، وأعادت إنتاج البنيات الموروثة، فإن الفكر التبريري الذي أراد إضفاء شرعية عليها، أو الفكر النقدي الذي رام الطعن في مبرر وجودها، كلاهما كشف عن سذاجة وسطحية عدا بعض الاستثناءات. واليوم وأمتنا تقف في منعرج خطير بين البقاء والانحلال تحتاج إلى وعي جديد، تتوحد فيه معركة الوجود بمعركة الاجتهاد والتجديد. وفي تقديري فإن النخبة العربية الملتزمة المعافاة من مرض الانكسار، والمبرّئة من داء الانتهازية، والمتسلحة بوعي وفقه المرحلة، إذا ما منحت الفرصة فإنها ستكون طليعة جمع تاريخي يتصالح مع هويته ومحيطه والعالم، ويكون قوّة بناء لنهضة حضارية طال انتظارها، ولم لا سِلْمٍ عالمية غير مسبوقة.
مُعيقات الفكر العربي
كيف يمكن أن نتخطى مفاهيم الإقصاء والإقصاء المتبادل كما سجّلها تاريخنا المعاصر؟
- من أهم مُعيقات تجاوز الفكر العربي المعاصر لأزمته تأثّره بالفلسفات والإيديولوجيات التي تضع حدا فاصلا وقطيعة مطلقة بين الإيمان والعلم، وبين الدين والحداثة، وبين الأصولية والعلمانية، وبين الإسلام والديمقراطية، فلا ترى تحقق شق إلا بنفي الشق الآخر، كما أن النخبة العربية لم توفّق في حل مشكلة السلطة، لذلك لم تترسخ في واقعنا حقيقة التعددية الحقيقية، فبقينا نرى في التعدد عيبا وخطرا، كما لم تتشكل قاعدة اجتماعية تحمل مشروعا حضاريا لحداثة مغايرة، تجمع إلى الاستقلال السياسي التأصيل الفكري والمشروع الثقافي الخصوصي، أي تنمية شاملة بديلة عن الوصفات الجاهزة، يمكن معها أن تكون الدولة في مصالحة مع المجتمع، تحترم استقلاليته، وتتعالى على تناقضاته، وتؤمّن تطوره بدون هزات أو انتكاسات، ويكون المجتمع راسخا في هويته، متضامنا في مواجهة التحديات، وتحقيق الآمال والطموحات الكبيرة.
فقضية الهوية ليست قضية مصطنعة، وإن أسيء طرحها، وقضية الحرية ليست ترفا فكريا، وإن أسقطت من سياقها، أو طرحت من برامج النخبة والدولة. أما الحداثة فليست سلعة مستوردة يحسن الإعراض عن جلبها، بل هي حاجة حضارية داخلية لا مناص منها، والأخطر من ذلك أن هذه القضايا الكبرى لم تطرح للنقاش الحر في الفضاء العمومي، لذلك لم ندرك حقيقة الحاجة إليها، أو ما تمثله من تحدّ، إلا بعد أن جربنا الحلول الخاطئة الواحدة تلو الأخرى.
إننا في حاجة أكيدة إلى مراجعة شاملة، وإلى إثراء ثقافتنا بالأفكار الجديدة، وإغناء قيمنا بمضامين نفعلها في واقعنا. فثقافة الاستبداد، وعقلية الاستعلاء جنت على أمتنا. ولا ينبغي أن تصادر مستقبل أجيالنا.
العلاقة بين الحركات الإسلامية والعلمانية اتسمت دائما بالتوتر والصراع، ألا ترى أن ذلك مثل خسارة كبيرة في تاريخنا المعاصر، ممّا فوت الكثير من فرص التطور والتنمية؟
أجل لقد شاب العلاقة بين التيارات الإسلامية والعلمانية سوء تفاهم وقطيعة وتبادل للتّهم وصفات القدح، ونحن ورثنا ذلك كعبء علينا. وحريّ بنا أن لا نعتبر أنفسنا معنيين باستمرار خلاف لم نختره، ولسنا مطالبين بإعادة إنتاجه، أو الاصطفاف آليا مع طرف ضد الآخر. ورغم أني أحمل اليقين بأن العلمانية في صيغتها ونسختها العربية، فكرا وتجربة سياسية، قد استنفدت أغراضها، فإني لا يمكن أن أتجاهل أن العديد ممن يطلق عليهم اسم الليبراليين العرب والأحرار والمستقلين في المشرق والخليج ينوّهون باستمرار ببعض تجارب الحركات الإسلامية في المغرب العربي، لما يشعرون به من التقاء معها، أو لما يجدونه من عدم تفهم من التيار السائد في أقطارهم. وكما يقرؤون أدبياتنا بدون تحامل دخلت بعض الكتابات لمفكرين عرب من ضمن الثقافة السياسية والنظرية للنخب الإسلامية مثل كتابات المفكر السوري "برهان غليون" والمفكر اللبناني "رضوان السيد" والمفكر المغربي "محمد عابد الجابري" والمفكر المصري "أحمد كمال أبو المجد" والمفكر التونسي "هشام جعيط". ويقينا أن هناك أسماء أخرى برزت خلال السنوات الأخيرة لا أدّعي الإحاطة بها، وأن أسماء ستبرز محصنة بالوعي بأخطاء الماضي، وبحدود آفاق وإسهامات كل طرف، وستندب نفسها لمد الجسور بينها، أو لتجاوزها، فأسماء مثل "رفيق عبد السلام" و"عبد الإله بلقزيز" و"أحمد الريسوني" و"هبة رؤوف عزت" و"فتحي المسكيني" تبدو واعدة وجديرة بالاحترام.
أصبح الكثير من الشباب في السنوات الأخيرة يميل للتشدد والعنف.. ما أسباب ذلك؟ وكيف يمكن معالجة هذه المعضلة حسب رأيك؟
لا اعتقد أن الشباب يميل إلى التشدد أو إلى العنف حبّا فيهما، أو طبعا فيه.. الشباب يطلب التغيير ويستعجله، ويحب أن ينخرط ويساهم فيه، والأزمة أن يضعف لدى الشباب الشعور بالحاجة إلى الانتماء، فيصبح منبتا، أو أن يتضخم لديه الشعور بالخطر، الذي يتهدد الهوية فيصبح انعزاليا. وإذا لم نتفهم حاجات الشباب وانتظاراته فلن يقتنع بما نقدمه له، ولن يرى فينا قدوة جديرة بالاحتذاء والاتباع. وإذا كانت هناك قطيعة بين الأجيال فالأرجح أن الشباب ليس هو المسئول عنها. فالمطلوب إذا منح الشباب ثقة غير مشروطة، وفرصا حقيقية لتحقيق طموحاته. ولا ينبغي أن يكون الحوار مع الشباب لغاية تهدئة الخواطر، وامتصاص الغضب، بل لغاية تمكينه من تصور مستقبله دون وصاية، ومدّه بالأدوات والآليات والإمكانيات، التي تمكّنه من صنع مصيره باقتناع ووعي.
الهَيْثَمْ.. والإعلام
خضت تجربة صحفية في "الحدث السياسي" الطلابي وفي جريدة "الفجر" وصحف أخرى.. كيف وجدت حال الصحافة بعد غيابك طيلة هذه المدة في السجن؟
- قبل الصحافة الرقمية كانت هناك الصحافة الورقية والصحافة الحائطية أو الجدارية، وهي مستمرة في أداء رسالتها، يعاضد بعضها البعض أو ينافسه التأثير ومساحة الوجود المادي والافتراضي.
الحدث الطلابي هي الصحيفة الحائطية الأشهر في تاريخ الحركة الطلابية التونسية، وكانت تتوفر فيها كل الشروط الفنية لصحيفة دورية عدا المطبعة، وكانت تتميز بعمق تحاليلها السياسية الوطنية والدولية إلى جانب حفاظها على استقلالية خطها. أما صحيفة "الفجر" فكانت صوت تيار ومرحلة ولسان حركة ونخبة وعلامة بارزة داخل المشهد الإعلامي في تونس بداية التسعينات وأظن أنها رغم محدودية إمكانياتها تركت بصمتها والحاجة إليها اليوم أكبر، فلعل الظروف تتطور في وجهة تسمح بعودتها.
أما واقع الإعلام فهو بالتأكيد دون طموح الإعلاميين ودون انتظارات القراء، والإعلاميون التونسيون الذين نجحوا في الصحف والقنوات التلفزية العربية والدولية، وبرهنوا على حرفية عالية وتألقوا، كانوا في تونس يؤمنون بنفس المبادئ وبنفس الرسالة الإعلامية، ولكنهم لم يتمكنوا من أدائها بما يرضي ضميرهم وطموحهم، وإذا كان ميدانهم الكلمة والصورة والخبر، فإن وطنهم هو تونس، وهويتهم العروبة، وما يصدق عليهم يصدق في حق الإعلاميين العرب في أقطارهم.
إلا أنه جدير بالملاحظة أن الإعلام بعد أن كان عاملا من عوامل تثبيت الأوضاع القائمة، إذ كان محتكرا من قبل الدول والأحزاب الحاكمة، بدأ يتحول إلى عامل من عوامل التغيير ونشر الثقافة الديمقراطية وثقافة حقوق الإنسان والشعوب، والوعي بقضايا الهوية والحرية والبيئة وحقوق الأقليات وغيرها وذلك، بفعل الثورة الاتصالية التي كانت بعض وسائل الإعلام العربية على موعد معها، رغم الصعوبات والعراقيل، حتى أصبحت علامات مضيئة في مشهد إعلامي معقد.
في الختام ماذا يعني لك لقب "الهيثم" الذي أطلقه عليك أصدقاؤك في الجامعة؟
- ألاحظ أولا أن الألقاب والكنيات يمكن أن ترسم ملامح شخص أو بعضا من سمات شخصيته، وقد تتحول إلى هوية شخصية داخل جماعات مصغرة أو واسعة أو ذات خصوصية، والذين مروا بالنشاط السياسي السري، أو الذين مروا بالسجون، يعرفون مدى انتشار الألقاب واستعمالها وإشهارها، وهو موضوع يستدعي بحثا اجتماعيا ونفسيا. أما ما سألت عنه فهو على الأرجح الصورة أو إحدى الصور التي يراني فيها الآخرون، وهي تمثل انتظاراتهم منّي وقد أطلقت علي في سياق تاريخي وضمن تيار فكري سياسي هو الاتجاه الإسلامي ولا زالت تأخذ معناها في إطارها، بجانب وجوه أخرى وذكريات جماعية لجيل بل أكثر من جيل، وإذا كان ذلك اللقب يمثل قيمة في السياق المذكور، فإني أحرص بالتأكيد على الحفاظ عليه ولا أعرّضه للتشويه. وقد أبالغ إذا اعتبرته رصيدا رمزيا لا ملكا شخصيا، ويقينا أنّي أقل من تلك الصورة ومن تلك الانتظارات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.